كيف تجعلنا السياسة أغبياء (مترجم)
ترجمة لمقال إزرا كلاين
هناك نظرية بسيطة تكمن داخل السياسة الأمريكية. تتربع بتفاؤل في أساس كل خطبة ومقال ومناقشة تقريبًا. تنساب خلال الدستور، وهي ثابت متكرر في خطابات الرئيس أوباما الأكثر تحريكًا. إنها ما يمكننا تسميته بـ”فرضية المعلومات الأكثر“: قناعة بأنّ أكثرَ أو أغلبَ معاركنا السياسية هي محضُ سوءِ تفاهمات. أما سببُ سوء التفاهم ذاك فهو قلةُ المعلومات – سواءً كانت عن التغير المناخي أو الضرائب أو العراق أو عجز الموازنة. لو كان المواطنون فقط أكثر وعيًا، حسب هذه الفرضية، فلن يوجد كل هذا الصراع.
نموذج جذاب بالفعل. توحي بأن أشقاءنا في الوطن ليسوا مخطئين بقدر ما هم مُضلّلون، أو جاهلون، أو -الأكثر قبولًا- “مضحوك عليهم” من قبل أوغاد الحزب الآخر. إنها توحي بأن جدالاتنا قابلة للحل وأن الإجابات على أكثر مشاكلنا تعقيدًا ليست جدلية على الإطلاق. هذه النظرية مشتهرة بالأخص في واشنطن، حيث يبذل المتحزّبون جهودًا طائلة لإقناع الآخرين بأن هناك بالفعل إجابة صحيحة للمشاكل المستعصية في السياسات الأمريكية – وبأنهم يملكونها.
لكن فرضية المعلومات الأكثر، ليست فقط خاطئة، بل إنها تؤتي نتائج عكسية. فأحدث الدراسات تظهر أنه كلما ازداد المتحزّبون إطلاعًا، كلما تعمقت خلافاتهم.
في إبريل ومايو 2013، شرعَ بروفيسور القانون بجامعة يال دان كاهان، بالعمل مع مشاركيه إلين بيترز، إريكا كانتريل، وبول سلوفيك، شرعوا في تقييم سؤال لطالما حيّر العلماء: لماذا لا تكون الأدلة الكافية فعّالة أكثر في حل الجدالات السياسية؟ على سبيل المثال، لماذا لا يُقنع جبلُ الأدلة على أن تغيّر المناخ خطر حقيقيٌّ، المتشككينَ في صحته؟
الفرضية الرائدة، كما كتب كاهان وشركاؤه، هي “فرضية الإلمام بالعلم“، والتي تقول بأن المشكلة هي أن العامة غير ملمّين بما يكفي بالعلم للحكم على الجدال. إنها نسخة من فرضية المعلومات الأكثر: مواطنون أذكى وأكثر تعليمًا لن يواجهوا كل هذه المشاكل في دراسة العلم والأبحاث والقبولبنتيجته الواضحة عن التغيّر المناخي.
لكن كان لدى كاهان وفريقه فرضية مغايرة. ربما الناس ليسوا مقيدين بقلةِ المعلومات. في النهاية، هم لا يشككون في اكتشافات علماء المحيطات أو في وجود مجراتٍ أخرى. ربما هناك أشكال معينة من الجدالات لا يودّ الناس فيها معرفة الإجابة الحقيقية، بقدر ما يريدون أن يكسبوا الجدال. ربما كان البشر يفكرون ويحاجّون لأسباب أخرى غير معرفة الحقيقة – أسباب أخرى كتكبير مكانتهم في مجتمعهم، أو الحرص على عدم إغضاب زعماء قبائلهم [أحزابهم]. لو أثبتت هذه الفرضية صحتها، فإذًا لن يعني هذا إنهاء المواطنين الأكثر ذكاءً وتعليمًا هذه الخلافات، بل هذا يعني أن المشاركين فيها قد أصبحوا أفضل تسليحًا للمحاججة من أجل طرفهم الخاص.
أنشأ كاهان وفريقه وسيلة ذكية لاختبار أيٍّ من الفرضيتين على صواب. لقد جلبوا 1000 أمريكيّ واستطلعوا مواقفهم السياسية، ثم قدّموا لهم اختبارًا قياسيًا يستخدم لتقييم المهارات الحسابية. بعد ذلك قدموا لهم مسألةً لجس النبض. في شكلها الأول بدت كما يلي:
قام باحثون طبيّون بتطوير دواءٍ جديد لعلاج الالتهابات الجلدية. الأدوية الجديدة تعمل في الغالب لكنها أحيانًا تجعل الالتهاب أسوأ. حتى حين لا تعمل الأدوية، فالالتهابات الجلدية أحيانًا تتحسن وأحيانًا تسوء بمفردها. كنتيجةٍ فمن الضروري اختبار أي علاجاتٍ جديدة في تجربة لتحديد إن كانت تجعل حالة الجلد لأولئك الذين استعملوها أفضل أو أسوأ ممن لم يستعملوها.
أجرى الباحثون تجارب على مصابين بالتهاباتٍ جلدية.في التجربة قامت مجموعة من المرضى بتجربة العلاج لمدة أسبوعين، ومجموعة أخرى لم تقم باستعمال العلاج الجديد.
في كلتا المجموعتين، تم تسجيل عدد الأشخاص الذين تحسنت حالة جلدهم وعدد الذين ساءت حالة جلدهم في الجدول التالي. بما أن المرضى لا يُكمِلون الدراسات دائمًا، فعدد الحالات في المجموعتين ليس متساويًا تمامًا، لكن هذا لا يمنع من تقييم النتائج.
الرجاء تحديد ما إذا كانت نتائج التجربة تشير إلى أن العلاج الجديد يميل إلى جعل حالة الجلد أفضل أو أسوأ.
ما هي النتيجة التي تدعمها الدراسة؟
– الأشخاص الذين استعملوا العلاج الجلديّ كانوا أكثر ميلًا لأن تتحسن حالتهم عن أولئك الذين لم يستعملوه.
– الأشخاص الذين استعملوا العلاج الجلديّ كانوا أكثر ميلًا لأن تسوء حالتهم عن أولئك الذين لم يستعملوه.
إنها مسألة مخادعة تهدف لاستغلال “اختصارٍ عقليٍ” شائع. نظرة سريعة على الأرقام تشعر معظم الناس بأن العلاج الجلديّ حسّن من حالة الالتهاب. فأكثر من ضعف عدد الأشخاص الذين استعملوا العلاج تحسنت التهاباتهم. لكن إذا حسبت النسب بدقة، فإن الحقيقة هي العكس تمامًا: حوالي 25% من الذين استعملوا العلاج ساءت حالة التهاباتهم، بالمقارنة بـ16% فقط من الذين لم يستعملوه.
هذا النوع من من المسائل يُستعمل في تجارب العلوم الاجتماعية لاختبار قابليةِ الناس للتريّث وتقييم الأدلة المقدمة أمامهم. إنها تفرض على المختَبَرين أن يكبحوا اندفاعهم لاختيار ما يبدو صحيحًا وفي المقابل القيام بالجهد العقلي الصعب لتحديد ما هو صحيح بالفعل. في عيّنة كاهان، فشِلَ أغلبُ الأشخاص، سواءٌ كانوا ليبراليين أو محافظين. الاستثناء الأبرز –كما هو متوقع- كان الأشخاص الذين أثبتوا أنهم أفضل من المعتاد في الرياضيات، فقد مالوا أكثر للإجابة بشكلٍ صحيح. هذه النتائج تدعم فرضية “الإلمام بالعلم“: كلما كان الأشخاص أفضل في الحساب، كلما كانوا أكثر ميلًا للتوقف، ولتقييم الأدلة، واختيار الإجابة الصحيحة.
لكن كاهان وفريقه قاموا بإنشاء نسخة “مُسيّسة” من المسألة؛ هذه النسخة استخدمت نفس الأرقام كما في مسألة العلاج الجلديّ، لكن عوضًا عن الحديث عن الالتهابات الجلدية، كانت المسألة تركز على مشروع قانون لحظر حمل الأسلحة اليدوية في المناطق العامة. يقارن الجدول الآن بين عدد الجرائم في المدن التي حظرت الأسلحة اليدوية وبين عدد الجرائم في المدن التي لم تحظرها. في بعض الحالات، كانت الأرقام تشير –إذا تم حسابها بشكلٍ صحيح- إلى أن الحظر نجح في تقليل عدد الجرائم، وفي حالاتٍ أخرى كانت تشير إلى أنه فشل.
عندما وُوجهَ المشاركون بهذه المسألة حدث شيء مثير: مدى براعة الشخص في الرياضيات توقف عن التنبؤ بمدى أدائه في الاختبار. الآن كانت الأيديولوجية [الفكر] هي التي توجه الأجوبة. كان الليبراليون أفضل بكثير في حل المسألة حين كانت الإجابة تثبت أن تشريعات حظر الأسلحة تحدّ من الجرائم. لكن حين واجهوا نسخة المسألة التي توحي بأن حظر الأسلحة قد فشل، توقفت مهاراتهم الحسابية عن التأثير. لقد مالوا إلى إجابة المسألة خطأً مهما كان مستواهم في الرياضيات. المحافظون أبدوا نفس النمط ولكن في الاتجاه المعاكس.
الأداء الأفضل في الرياضيات لم يمنع المتحزّبين من الاتفاق على الإجابة الصحيحة وحسب، بل فرقهم أكثر. المشاركون ذوو القدرات الحسابية المحدودة كانوا أكثر ميلًا بنسبة 25% لاختيار الإجابة الصحيحة عندما كانت توافق فكرهم. المشاركون ذوو القدرات الحسابية الأفضل كانوا أكثر ميلًا بنسبة 45% لاختيار الإجابة الصحيحة عندما كانت تؤيد فكرهم. كلما كان الشخص أذكى كلما كان بإمكان السياسة أن تجعله أغبى.
تأمل مدى جنونية هذه الفكرة: كون المشاركين أفضل مستوًى في الرياضيات جعلهم أقل ميلًا للإجابة على المسألة بشكلٍ صحيح حين كانت الإجابة الصحيحة تعني خذلانهم لميولهم السياسية. لم يكن الناس يفكرون ليختاروا الإجابة الصحيحة، بل كانوا يفكرون ليختاروا الإجابة التي كانوا يريدونها صحيحة.
لم تكن تجربة الالتهاب الجلدي الأولى التي يظهر فيها كاهان أن التحزّب يملك طُرقًا للالتفاف حول الذكاء. في دراسةٍ أخرى، قام باختبار مستوى المعرفة العلمية لدى المشاركين إلى جانب فكرهم ثم سألهم عن المخاطر الناجمة عن التغيّر المناخي. لو كانت المشكلة هي أن الناس بحاجة لأن يعرفوا المزيد عن العلوم لتقدير مخاطر التغير المناخي بشكلٍ كامل، فيجب أن يرتفع مدى اهتمامهم مع مدى معرفتهم. لكن هنا أيضًا كان العكس صحيحًا: وسط الناس المتشكيين أصلًا في التغيّر المناخي، المعرفة العلمية جعلتهم أكثر تشكيكًا.
هذا سيبدو منطقيًا لأي شخصٍ قرأ أيًا من أعمال أحد منكري التغيّر المناخيّ الجادّين. إنها ملأى بالحقائق والأرقام، بالجداول والرسوم البيانية، وبالدراسات والاستشهادات. كثيرٌ من المعلومات خاطئة أو لا صلة لها بالموضوع، لكنها تبدو مقنعة. إنه أداءٌ رائع للبحث العلمي، ومنكرو التغير المناخي الذين يتعمقون فيه ينتهي بهم الحال لأن يكونوا أكثر ثقةً بأن التغيّر المناخيّ خدعة وبأن الناس لم يصرفوا الوقت الكافي لدراسة القضية. المزيد من المعلومات، في هذا السياق، لا يساعد المشكيين لاكتشاف الأدلة الأفضل. بل في المقابل ، إنه يجعلهم يبحثون عن الدليل الذي يثبت أنهم على صواب. وفي عصر الانترنت أدلة كهذه لن تكون بعيدة المنال أبدًا.
في تجربة أخرى وزّع كاهان وشركاؤه نماذج لسيرٍ ذاتية لعلماءَ مرموقين إلى جانب ملخص لنتائج أبحاثهم. ثم سألوا إن كان العالم المذكور متخصصًا وخبيرًا في مجاله بالفعل. اتضح أن تعريف الناسِ الحقيقي لـ”متخصص” هو “شخص يملك شهادات ويوافقني الرأي”. على سبيل المثال، حين كانت نتائج الباحث تؤكد مخاطرَ تغيّر المناخ، كان الأشخاص القلقين من تغير المناخ أكثر ميلًا بنسبة 72% للموافقة بأن الباحث كان متخصصًا أصيلًا. وحين كان نفس الباحث بنفس الشهادات مرفقًا بنتائج تثير الشك حول مخاطر التغيّر المناخيّ، كان الأشخاص المنكرون لتغيّر المناخ أكثر ميلًا بنسبة 54% لاعتباره متخصصًا.
يُسرع كاهان لتوضيح أن، في معظم الأحيان، يكون الناس متمكنين تمامًا للاقتناع بأفضل الأدلة. هناك الكثير من الاختلاف حول تغيّر المناخ أو حظر الأسلحة على سبيل المثال، لكن لا يوجد تقريبًا أي خلاف حول ما إن كانت المضادات الحيوية تعمل، أو ما إن كان فيروس H1N1 مشكلة، أو ما إن كان الإفراط في الشرب يعيق قدرة الناس على القيادة. على الأرجح، يتحول تفكيرنا إلى “عقلنة” حين نتعامل مع أسئلة قد تؤدي إجاباتها إلى تهديد قبيلتنا – أو على الأقل مكانتنا الاجتماعية داخل قبيلتنا. وفي تلك الحالات، حسب كاهان، فإننا نكون عاقلين تمامًا حين نخدع أنفسنا.
تخيل ماذا سيحدث لو فَرَضًا قرر شون هانيتي [إعلامي أمريكي محافظ] غدًا أن التغيّر المناخي هو الخطر الرئيس الذي يواجه كوكبنا. سيظن مشاهدوه في البداية أنه يمزح، لكن سرعان ما سيبدؤون بالاتصال به غاضبين. سينظم البعض مقاطعةً لبرنامجه، وسيقوم العشرات –وربما المئات- من منكري التغير المناخي المتخصصين بالرد على حملة هانيتي الجديدة. الكثير من أصدقاء هانيتي في الإعلام المحافظ سيتجنبونه وسينفرون منه، والبعض سيقتنص الفرصة للتقليل من شأنه والتنكّر له. بعض السياسيين الذين يُكنّ لهم الاحترام سيكونون غاضبين من خيانته للقضية. سيخسر صداقات، ومشاهدات، وأموال، بل قد يخسر وظيفته في نهاية المطاف. وعلى طول الطريف سيتسبب في أذىً شخصيّ كبير بينما يُنفّر بشكلٍ منهجي أقرب حلفائه السياسيين والمهنيين. سيكون على العالم أن يحدّث تصوّره عن من هو شون هانيتي وبماذا يؤمن، وسيكون على شون هانيتي أن يقوم بالمثل. وتغيير هويّتك عملية نفسية عصيبة.
لا يرى كاهان أنه من الغريب علينا أن نقاوم المعلومات التي تهددنا عن طريق استنفار قواتنا العقلية لتدميرها. بل إنه يظن أنه من الغريب أن نتوقع أن الناس العاقلين سيفعلون أي شيءٍ آخر. يقول كاهان: “ليس هناك شيء يؤمن به الفرد العادي من العامة حول وجود تغير المناخي أو أسبابه أو تبعاته يمكنه التأثير على المخاطر التي يشكلها تغير المناخ عليه، ولكن إذا تبنّى الفرد موقفًا خاطئًا تجاه تغير المناخ بالنسبة للأشخاص الذين يعتبرهم مقربين منه، والذين يعتمد على تقديرهم ومساعدتهم في أمورٍ عديدة بشكلٍ يومي، سيعاني من تبعاتٍ مزعجة للغاية، من الهجران وإلى خسران الوظيفة.
يدعو كاهان نظريته بـ”الإدراك المدافع عن الهوية“: “كسبيلٍ لتجنب التنافر والاغتراب عن الجماعات المقرّبة، يرفض الأفراد بشكلٍ لا واعٍ المعلومات الواقعية التي تهدد قيمهم الأساسية”. في موضعٍ آخر يعبر عنها بشكلٍ أكثر بلاغة: “ما نعتقده بخصوص الحقائق، هو ما يحدد لنا من نحن”. وأهم دافع نفسي لدى أغلبنا في أي زمان هو حماية تصوّرنا عمّن نحن، وما هي علاقتنا بالأشخاص الذين نحبهم ونقدّرهم.
يعرف أي شخص وجد نفسه يخوض نقاشًا محتدمًا مع دائرته السياسية أو الاجتماعية مدى الشعور بالتهديد الذي يشعر به. بالنسبةٍ لكثيرٍ من الناس كونهم “على صواب” لا يستحق عناء الجدال العقيم مع الأشخاص الذين يهتمون بأمرهم. هذا صحيح تحديدًا في أماكن مثل واشنطن، حيث تتمحور الدوائر الاجتماعية والحيوات المهنية حول توجهات الناس السياسية، وحدود توجهات تلك القبائل تزداد حدة.
في أواسط القرن العشرين، كان الحزبان السياسيان الرئيسيان متنوعَين فكريًا. الديمقراطيون في الجنوب كانوا غالبًا محافظين أكثر من الجمهوريين في الشمال. هذا التنوع الغريب في التحالفات السياسية جعل الاختلافات أيسر. لم يكن الحزب الآخر مهدِّدًا بشدة لأنه كان يتضمن العديد من الأشخاص الذين تتفق معهم. ولكن اليوم، لقد تمايزت الأحزاب حسب التوجهات، ولا يوجد لا في مجلس النواب ولا في مجلس الشيوخ أي ديمقراطيّ أكثر محافظةً من أي جمهوريّ، والعكس بالعكس. هذا التمييز قد جعل التناقر القبَليّ بين الحزبين أقوى بكثير لأن الحزب الآخر يتواجد الآن كعدوٍ صريح.
إحدى تبعات هذا الاستقطاب أن واشنطن أصبحت آلة لجعل “الإدراك المدافع عن الهوية” أسهل. لدى كل حزبٍ مراكز أبحاث، متخصصون، مجلات، مدوّنات، خبراء مؤيدون، نشطاء حازمون، وممولوه المتعاطفون فكريًا. كلٌ من المختصين والمتطوعين المتحمسين الذين يشكلون ماكينة الحزب هم أعضاء لدوائر اجتماعية وعوالم “تويترية” ومجموعات “فيسبوكية” وأماكن العمل، والعديد من البيئات الأخرى التي تجعل الحياة لا تطاق إذا ما حادوا عن الطريق بأكثر مما يجب. ولهذا ينتهي الحال بهذه المؤسسات إلى توظيف العديد من الأشخاص الأذكياء والمخلصين للغاية والذين يضمن ذكاؤهم الكبير بقاءهم في الصف. القيام بأي شيء آخر معناه انقلاب حياتهم اليومية.
المشكلة بالطبع هي أن هؤلاء الناس هم المؤثرون، وفي بعض الأحيان المتحكمون، في مفاصل الحكومة. وهنا، حسب كاهان، يصبح الإدراك المدافع عن الهوية خطيرًا. ما قد يكون حكيمًا للأفراد قد يصبح خطيرًا للمجموعات. يقول كاهان أنه “بالرغم من أنه عمليًا لا تكلفة لأن يُكوّن الشخص تصورًا خاطئًا، لكنه ملائم ثقافيًا، عن التغير المناخي، فإنه من الخطر على السلامة الجماعية أن يُشكل الأفرادُ -ككتلٍ- قناعاتِهم بهذا الشكل. لا تهتم القمم الجليدية ما إذا كان من الحكمة بالنسبة لنا أن نهتم بصداقاتنا. إذا ما استمر الكوكب بالاحترار فإنها ستذوب مهما كانت أسبابنا الشخصية لفعل لا شيء مقنعة.
تمضية الكثير من الوقت مع أبحاث كاهان هي نوعٌ من النظر إلى هاوية ثقافية. إذا كانت عملية جمع الأدلة والتفكير حول أسئلة سياسية شائكة واستقطابية هي في الحقيقة العملية التي نخدع بها أنفسنا للوصول إلى الإجابات التي نريد، فما هي الوسيلة السليمة للبحث عن الإجابات؟ كيف يمكننا أن نعرف أن الإجابات التي وصلنا إليها، بالرغم من حسن نيّاتنا، ليست مجرد استنتاجات موجّهَة؟ كيف يمكننا أن نعرف أن المختصين الذين نعتمد عليهم لم يتحيّزوا بخفة في إجاباتهم هم أيضًا؟ كيف يمكنني أن أعرف أن هذه المقالة ليست شكلًا من الدفاع عن الهوية؟ أبحاث كاهان تخبرنا أننا لا يمكننا أن نثق في تفكيرنا، كيف يمكننا أن نفكر لنخرج من هذه المعضلة؟
البداية، كما استنتجت، كانت التحدث إلى دان كاهان. توقعت محادثة مع عدميٍّ ثقافيّ، لكن كاهان لا يبدو كوحش الهاوية. بل إنه يبدو، حسنًا، كما يبدو: محامٍ تلقى تعليمه في هارفارد وعمل لدى ثورغود مارشال في المحكمة العليا والآن يدرّس في كليّة يال للقانون. إنه يبدو كرجلٍ أمضى حياته البالغة في مؤسسات مُكرّسة لفكرة أن الرجال والنساء المتعلمين يمكنهم حل أصعب مشاكل المجتمع وتربية الجيل القادم من القادة. وحينما تحدث، بدا غير مرتاح بنتائجه. على عكس الكثير من الأكاديميين الذين يريدون التوكيد على أهمية أعمالهم، بدا أنه يريد التقليل من شأنه.
يقول كاهان
نحن نركز على القضايا التي لا يبدو أنها تتقدم، يمكن للتبعات أن تكون خطيرة، ولذلك من المفيد أن نهتم بها. لكنها الاستثناء؛ الكثير من الأمور الأخرى تجدي بالفعل، إنها مجدية لدرجة أنها غير ملاحظة. ما أريد أن أفهمه هو داء، أريد أن أحدد الدوافع التي تؤدي إلى هذه النقاشات غير المجدية.
بل إن كاهان يريد أن يذهب أبعد من ذلك:
الهدف من القيام بدراساتٍ كهذه هو معرفة كيف يمكن حل المشكلة.
فكّر مثلًا في تطعيم فيروس الورم الحليمي. إنه ساحة تعارك ثقافية كبرى في السنوات الماضية، إذ يصرّ الكثير من أولياء الأمور على أن الحكومة لا حقّ لها في فرض لقاح يجعل من السهل على المراهقين أن يمارسوا الجنس. يقارن كاهان أزمة لقاح الورم الحليمي [HPV] بالخطة المطروحة للقاح فيروس التهاب الكبد ب.
يتساءل كاهان:
ماذا عن لقاح التهاب الكبد ب؟ إنه أيضًا من الأمراض المنقولة جنسيًا، ويسبب السرطان، وتم طرحه من قبل “مركز إدارة الأمراض” كلقاحٍ إجباريّ. وخلال السنوات التي كنا نجادل فيها من أجل لقاح الورم الحليمي، كانت نسبة التطعيم بلقاح التهاب الكبد 90%. لماذا كان الحال كذلك مع الـHPV؟
إجابة كاهان هي أن المجتمع العلميّ لديه فريق تواصل سيء. لحظة، إنسَ ذلك: كاهان لا يظن أن لديهم أي تواصل على الإطلاق. “نحن لا نمتلك جهازًا منظمًا للتعريف بالعلم في مجتمعنا، ليس لدينا أناس يتابعون الجدل حول أمورٍ كاللقاحات ويتجاوبون معها.”
حسب كاهان، فإن لقاح HPV هو معزوفة من التخبطات. شركته المصنّعة، ميرك، أرادت إيصاله بسرعة إلى أرفف المتاجر. لقد موّلوا حملات تشريعية في المجالس النيابية لكي يتم فرضه. ولكي يوصلوه إلى العملاء بشكلٍ أسرع بدؤوا بإجازته للبنات قبل إن يجيزوه للأولاد. كل هذا، كما يعتقد كاهان، سمح للعملية بأن تُسيّس، بنما كان بإمكان أسلوبٍ أهدأ وأكثر تكنوقراطية أن يحافظ على الهدوء. “أظن أنه كان من المناسب على إدارة الغذاء والدواء، أثناء دراستها اعتماد اللقاح بشكلٍ سريع، أن تدرس مخاطر التواصل العلمية تلك.”
أبحاث كاهان، رغم سوداويّتها، فهي مصدرٌ لتفاؤله: إنه يعتقد أنه إذا ما تمكّن الباحثون من تطوير نموذجٍ مبنيّ على الأدلة بشكلٍ أكبر حول كيفية تعامل الناس مع القضايا العلمية كقضايا عن هوياتهم، فسيتمكن العلماء من انتاج استراتيجية للتواصل يمكنها تلافي تلك الهاويات. “فرضيّتي هي أننا يمكننا استعمال العقل لتحديد مصادر التهديد لتفكيرنا، ثم يمكننا باستخدام عقلنا أن نطوّر أساليب لتوجيه هذا العمليات والتحكم فيها”. إن هذا الكثير من التفكير، فيطرح كاهان مثالًا حيًا يتعلق بنهج الحكومة في القرارات التنظيمية. “هناك عملية في مكتب الإدارة والميزانية حيث يخضع كل قرار لاختبار دراسة جدوى وتكلفة، لماذا لا يكون هناك عملية في إدارة إدارة الغذاء والدواء لتقييم كل القرارات من جهة تأثيرها على التواصل العلمي وصورة العلم؟
ولكن حين سألته ما إذا كان داعمو لقاح الـHPV سيصمتون إزاء رفض هيئة الغذاء و الدواء اعتماد اللقاح بشكلٍ أسرع اعتمادًا على أن طرحًا أبطأ سيكون شكلًا أفضل من العلاقات العامة، لا يملك كاهان إجابة، بل إن إلحاحي على هذه الأسئلة يجعلني أتساءل ما إذا كان كاهان يدخل الآن في عملية “دفاع عن هوية” خاصة به. لقد ساعد على الكشف عن حيلة ذهنية جبارة تخلخل أساس المؤسسات التي انتمى لها بشدة، فـ”عقلن” المشكلة بأنها مجرد نتاج عملية تواصل سيئة.
كما أن إجابات كاهان تفترض كمقدمة أن العلماء يلعبون دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام، وهذا –أقل ما يقال- محل نظر. يقول كريس مووني، الكاتب في مجلة “ماذر جونز” والمهتم بتقاطعات العلم والسياسة: “حتى لو علمت كل الذين يهتمون بالعلم أن يتواصلوا بشكلٍ فعّال، فلن تتحكم في فوكس نيوز، وتلك مهمة أكثر من كيفية تواصل علماء منفردين”.
لكن إجابات كاهان لا تنفي أن الإدراك المدافع عن الهوية يطاله هو أيضًا. في الواقع، إدراك هذا الأمر يقع في اللب من استراتيجيته لمواجهته. “إنني مقتنع بأنه في أي لحظةٍ ما، فإن هناك جزءًا من الأمور التي أؤمن بها أؤمنُ بها لأسباب دفاعية عن هويتي، وهذا يعطيني نوعًا من التواضع”.
لكن إدراك المشكلة لا يساوي حلها. سألت كاهان كيف يحاول أن يقاوم “الدفاع عن الهوية” في حياته اليومية. الحل، كما قال، هو في محاولة العثور على خلافات لا تهددك أنت وجماعتك – وإحدى السبل لفعل هذا هو بالبحث الدؤوب عنها داخل جماعتك. يقول “إنني أحاول أن أعثر على أناس أظن أنهم بالفعل يشبهونني، أناس أحب أن أقضي معهم الوقت، لكنهم لا يؤمنون بالأمور التي يؤمن بها كل الأشخاص الذين هم مثلي، إذا عثرت على أناسٍ أتشارك معهم، فإنني لا أجدهم خطرين عليّ حين يختلفون معي”. إنها نصيحة جيدة، لكنها تحتاج، كشرط مسبق، رغبةً في تعريض نفسك لأدلة غير مريحة، وثقة بأن تلك المعرفة لن تؤذيك.
في لحظةٍ ما خلال مقابلتنا ينظر كاهان نحو الهاوية بالفعل، ولو للحظة. يذكر خطاب اعتراض كتبه عضو المحكمة العليا أنتونين سكاليا حول قضية اكتظاظ السجون في كاليفورنيا. لقد نحّى سكاليا الأدلة المقدمة من محكمةٍ أدنى باعتبارها مدفوعةمن قبل تحيزات سياسية. يقول كاهان “إنني أجد ذلك محبطًا، لكني أظن أن بعض الناس يرون الأدلة المحسوسة وكأنها نوعٌ من الأدوات والوسائل”.
لكن تعليقات سكاليا كانت متوقعة جدًا بالنظر إلى كل ما وجده كاهان. سكاليا كان شخصًا أيديولوجيًا بشكلٍ قوي، شخصًا شديد الذكاء ذو ارتباطٍ وثيق بالسياسات المحافظة. إنه نوعٌ من “المدافعين عن هوياتهم” الذي قال علنًا أنه توقف عن الاشتراك في الواشنطن بوست لأنه “لا يمكنه تحملها أكثر من ذلك” وصار يتقوقع داخل صفحات الواشنطن تايمز والوول ستريت جورنال اللطيفة. سألت كاهان: ألم يكن الحال أن كل ما عثرت عليه ينبئ بأن سكاليا سيقنع نفسه بأيٍ شيء سيحتاجه للتفكير من أجل الوصول إلى الإجابات التي أرادها؟
يبدو السؤال وكأنه هزّ كاهان لوهلة، ثم قال ببطء: “الظروف التي تجعل الشخص معرضًا لهذا الأسلوب من التعامل مع الأدلة، هي أمور يجب أن ينظر إليها على أنها مؤثرات خطيرة ومروعة في الحياة الأمريكية. إنها ما تهدد إمكانية وجود حياة سياسية ديمقراطية على وعي بالأدلة”.
الخطر حقيقي، وواشنطن ساحة معركة طاحنة بين قبيلتين ممولتين بشكلٍ جيد ولدى كلٍ منهما آليات لتوليد الأدلة ومنفذون لتطبيق فكرهم. إنها المعركة المناسبة لجعل الناس الأذكياء شديد الغباء.
الجانب الإيجابي هو أن واشنطن ليست المحل الوحيد للسياسة، إن مغزى السياسة هي السياسات، وأغلب الناس لا يَخبِرون السياسة كجدالات سياسية، بل يخبرونها كإيصالٍ ضريبي، أو بطاقة تأمينٍ صحي، أو كقرار استدعاء للتجنيد.
وفي نهاية المطاف لا سبيل فعّال لإقناع الأمريكيين بتجاهل اقتصادٍ متهالك، أو تكاليف رعاية صحية متصاعدة، أو حربٍ فاشلة. إن حركة سياسية تخدع نفسها بتشريع سياسات وطنية مبنية على أدلة فاسدة، هي حركة سياسية ستواجه، عاجلًا أم آجلًا، نهايتها في صناديق الاقتراع,
على الأقل، هذا هو أملنا. لكن هذا ليس صحيحًا فيما يخص قضايا كالتغير المناخي، التي تستوجب تحركًا سريعًا لتجنب كارثة تحدث ببطء. كما أنه ليس صحيحًا فيما يخص السياسة الأمريكية التي صارت خاضعة للتقسيم السياسي للإدارات وللتمويل المتضخم والخلل التشريعي الذي يجعل المصوتين غير قادرين على تحديد المسؤول عن حالة البلاد. لو قدّر للسياسة الأمريكية أن تتحسن، فإن ذلك عن طريق هياكل أفضل، لا جدالاتٍ أفضل.
المصدر: https://www.vox.com/2014/4/6/5556462/brain-dead-how-politics-makes-us-stupid