كورونا والمناخ، وحالة الطوارئ المزمنة، ماذا فعلت الطبيعة؟

هل تذكر شهر نيسان/أبريل؟ يبدو لنا أن الأمر حدث منذ عقود، ولكنني أتذكر أنه في خضم الرهبة والخوف من الإغلاق، داعب الأمل نفوسنا بشكل مفاجئ، فتوقفت حركة المرور، ولم تعبر السماء أي طائرات، ولم يسدها التلوث. وفي المكان الذي أعيش فيه، سمعنا سيارات الإسعاف تَقِل جيراننا يوميًا تقريبًا، ولكن أصوات العصافير التي كانت أعلى من أي وقت مضى. أي أن كرة شائكة صغيرة من البروتينات السكرية وحمض الريبونوكليك نجحت فيما لم يتمكن من تحقيقه مئات من الثوريين المتفانين، فقد أدت بالاقتصاد العالمي إلى ركود قارب حد الانهيار.

لقد كان أحد الإنجازات المحددة للرأسمالية المعاصرة هي أن احتضانها الشامل يجعل من الصعب التصور ولو للحظة أي طريقة أخرى لارتباطنا ببعضنا البعض، وارتباطنا بالكوكب الذي نتشارك فيه، فعلى الرغم من أن العالم بدا وكأنه ينتهي في الربيع الماضي، إلا أنه كان من الممكن لك لمح شيء ضبابي غير واضح، وهو عالم أكثر منفعة لجميع أشكال الحياة غير البشرية.

بات من الواضح جلياً في أوساط البشر أن المهن الأقل تقديراً كانت ضرورية، وأن أكثر المهن شأناً كانت تعتبر طفيلية، وبين عشية وضحاها، توقف كل شيء كنا نظن أنه لا يمكن إيقافه، وبدا متاحاً لنا طرح أسئلة لم نجرؤ على طرحها من قبل، منها على سبيل المثال: كيف يمكننا تنظيم مجتمعاتنا وأذهاننا – على افتراض أننا نجونا من هذا الوباء – لو لم تكن المطالبة بالربح هي كل ما يدفعنا؟

قدم الباحث السويدي أندرياس مالم قبل أربع سنوات أحد أقوى التشخيصات المسببة للمرض الذي نعاني منه في كتاب بعنوان “رأس المال الحفري” -Fossil Capital-، حيث تتبع الكتاب تاريخ المحرك البخاري الذي يعمل بالفحم في إنجلترا في القرن التاسع عشر، ويقول مالم إن الفحم لم يكن أرخص ثمناً أو أكثر كفاءة من الطاقة المائية، ولكن له ميزة فريدة تتمثل في إضعاف أولئك الذين يعملون في المصانع لصالح الرجال الذين يمتلكونها، أي أن الاقتصاد الحفري، كما أسماه مالم، لم ينفصل منذ البداية عن استغلال كل من البشر والطبيعة، وعلى طول الطريق خلق هذا الاقتصاد وهمًا للنمو المستدام ذاتياً ظلّ يشكل عنصراً أساسياً في النظام الحالي، فلا يجوز السماح لهذه الآلة أبداً بالتوقف، حتى في الوقت الذي تدمر فيه كل شيء من حولنا.

يصور أحدث كتاب من تأليف أندرياس مالم، بعنوان “كورونا، والمناخ، وحالة الطوارئ المزمنة”، الوباء على أنه “آفة عالمية تضاهي الاحتباس الحراري”، فقد ظهر أكثر من 300 مرض معد جديد منذ عام 1940، منها مثلاً فيروس نقص المناعة البشرية، وزيكا، وإيبولا، وسارس، وميرس، وسلالات جديدة لا حصر لها من الأنفلونزا، أي أن هناك جدل حول أصولها المباشرة، فتقفز الميكروبات التي لم تتم مواجهتها سابقًا إلى عائل بشري من حيوانات أخرى، في عملية انتشار مستمرة. فالمسببات ليست غامضة؛ إذ أن تدمير الموائل بشكل أساسي وقطع الغابات والزراعة الصناعية تضع أعدادًا كبيرة من البشر في اتصال متزايد مع الحيوانات المجهدة للغاية.

إعلان

ويرى مالم أن الفيروس الحقيقي هو الرأسمالية، ذلك الاقتصاد الحفري الذي يستمر فقط من خلال التوسع والتهام الكوكب، فإن السلطة الوحيدة لرأس المال هي إعادة إنتاج نفسه، والبحث اللانهائي عن فرص لنموه، فتصبح الأرض عبارة عن مجموعة من السلع، أي ما ليس سلعة يعتبر مخلفات، فالتبادل غير المتكافئ بيئيًا الذي يتمتع فيه الأشخاص الأثرياء في شمال العالم يكون من خلال أساليب حياة استهلاكية تعتمد على استخراج المحروقات من الأرض في البلدان الفقيرة بعيدًا عن الأنظار، حيث تتساقط الغابات البكر لإفساح المجال أمام مزارع زيت النخيل ومناجم الكوبالت ومراعي الماشية، والصويا، فيتم جرف الأراضي البرية لإطعام أسواق السلع الاستهلاكية في قارات بعيدة، ويتم توليد أشكال جديدة من الجوع الاستهلاكي للحفاظ على دوران الآلة.

والنتيجة هي الدمار، والمحيط الحيوي بأكمله بحاجة إلى وحدة عناية مركزة، فكتب مالم أنه عام 1700، أي قبل ولادة الرأسمالية الصناعية، كان 95٪ من سطح الأرض الذي لم تغطه الثلوج إما أراض برية أو مستخدمة بشكل طفيف، بحيث تم تصنيفها على أنها شبه طبيعية. أما بحلول عام 2000، فلم يتبق سوى 5٪ منها، أي أن المشكلة لا تكمن في الأسواق الرطبة في ووهان، أو في التجارة باهظة الثمن للحيوانات الغريبة، ولكنها تكمن في النظام الذي يلتهم كل الطبيعة في دوائر رأس المال المعولم،. وللقيام بهذا، لا يسعه الا استدعاء أوبئة جديدة، فهو نظام يؤدي إلى رفع درجة حرارة الجو ويسمم الهواء والمحيطات.

والواقع أن هذا العالم، من منظور شاطئ إيديولوجي بعيد، شاطئ هادئ بشكل غير عادي، ومحمي من الحرائق والفيضانات، هو الأفضل بين كل العوالم الممكنة حتى الآن. فالناس يعيشون حياة أطول، وأكثر ترفًا – أو البعض منهم على أية حال – والديمقراطية في ازدهار. أو أنها كانت ذات يوم مزدهرة – أو ربما تعود إلى نفس الحال مرة أخرى. ففي عام 2015، جادل الموقعون التسعة عشر على وثيقة بعنوان “بيان الحداثة البيئية” لصالح التخلي عن هدف “التنمية المستدامة“، مؤكدين أنه “حتى في حالة وجود أي حدود مادية ثابتة للاستهلاك البشري، فهي تظل حدودًا نظرية إلى الحد الذي يجعلها غير ذات صلة من الناحية الوظيفية”. ويظل بوسعنا التهام كل ما نريده، وفي نهاية المطاف، فإن الزراعة الصناعية واستغلال الموارد بشكل أكثر كثافة من شأنه، في نهاية المطاف، أن “يقلل من التدخل في العالم الطبيعي”، أو هكذا جاء وعد البيان. إن ميل الرأسمالية نحو التدمير البيئي بشكل مستمر قد يكون منفصلًا عن الفوائد المترتبة على النمو حتى يتسنى لنا جميعًا أن نتطلع إلى “عصر أنثروبوسين” جيد، إن لم يكن رائعًا.

ولكن، لا داعي للعجلة. فقد فشل البيان ولا سيما في ثقته بأن البشرية “قد أحرزت تقدمًا ملحوظ في الحد من حدوث الأمراض المعدية وتأثيراتها، وأصبحت أكثر مقاومة للطقس القاسي”. ومع ذلك، فإن الأفكار الكامنة وراء البيان لا تختلف كثيرًا عن برامج الحكومات الوسطية في جميع أنحاء العالم، وهذا هو المسار الذي نسلكه الآن، مدعومًا بإنكار المناخ الذي لا يقل ضررًا عن النوع الترامبي. ويحترم البيان العلم، ولو بشكل انتقائي إلى حد ما، ويتجنب الارتباط سيء السمعة مع الراديكاليين، ويتحدث بنبرات لا تزعج أحدا في دافوس. والواقع أن رسالته – بأنه لا حاجة لتغيير أي شيء بشكل جوهري – مريحة ومهذبة وخطيرة للغاية.

وقد أقرت عالمة الجغرافيا البيئية روث ديفريز، وهي إحدى الموقعين على البيان، في كتابها الأخير “ماذا ستفعل الطبيعة؟”، أن “حضارتنا شديدة الترابط والتعقيد” (وهي عبارة تتكرر، مع تنوعات طفيفة، بطريقة غير مريحة) لها بعض الجوانب السلبية، فتصف هذا “العالم الحديث شديد الترابط”، بأنه عالم “متقلب وغامض ولا يمكن التنبؤ به”. وعلى الرغم من أنها في الواقع لا تأتي على ذكر درجات الحرارة، إلا أنها تقترب من عتبة لم نشهدها منذ 34 مليون سنة. وتجادل ديفريز بأن “العالم الحديث المترابط” (وليتها تستخدم كلمة “الرأسمالي”) يميل إلى التغاضي عن فوائد التنوع، و“التخفيف من ثراء الثقافات”، فلا خلاف على أن مليون نوع يواجه الانقراض الآن، كما أن الجفاف والجوع سوف يضطر ما بين 50-300 مليون شخص أن ينزحوا عن أوطانهم خلال حياة أبنائنا.

“ماذا ستفعل الطبيعة؟” كتاب يتوجه إلى أولئك الذين يعتقدون أن أطفالهم لن يكونوا من بين اللاجئين. فالطبيعة الفقيرة والمُساء إليها، بعد أن تخلت عن الكثير من ثرواتها، يتم الآن استغلالها بلا رحمة من أجل استخراج البروميدات، وتبحث ديفريز عن دروس الحياة في الصفائح التكتونية وعلم الحشرات وسوق الأسهم، فنطاق بحثها واسع، وغالبًا ما تكون حكاياتها مسلية، لكن الحقائق التي تكتبها تندرج ضمن الخطاب المبتذل لشركات وادي السيليكون: التكرار الاستراتيجي يمكن أن يجنبنا الكارثة، أو الشبكات المرنة تمتص الصدمات بشكل أفضل من التسلسل الهرمي الصلب.

على الرغم من ذلك، فإن المراوغات أكثر من غيرها، وتشعر ديفريز بالقلق من قضاء الجرافات والأرصفة على مخزون التنوع البيولوجي، وكأن المحركات والأسفلت لها سلطان، ولم يكن هناك بشر يستفيدون من الدمار الذي يلحقونه، ويستمرون – مع معرفة التكلفة – في جني الأرباح. ثم هناك دائمًا صيغة الجمع بضمير المتكلم، التي دائمًا ما تساعد على إبعاد اللوم، فتكتب ديفريز مرارًا وتكرارًا عن “عالمنا الديناميكي المترابط والمعقد”، كما لو كان ملكًا لنا جميعًا، وليس نظامًا من التفاوتات المتأصلة التي يعمل هذا الكتاب من أجلها كذريعة مؤسفة وإن كانت منسية.

إن بصيص الأمل الذي شعر به البعض منا في الربيع الماضي قد تلاشى بسرعة من بين أيدينا، وولت اللحظة. وأعلن الأوصياء على الوضع الراهن بوضوح أكبر مما يسمحون به لأنفسهم عادة، أنه لا يمكن السماح لأرواح بشرية بحتة بإعاقة تدفق الأرباح. فقد طالب الاقتصاد، وهو إله أكثر طمعاً من أي بعل أو ملوك، بالأضحية. وكما هو الحال دائمًا، فلن تعرض حياة كبار الكهنة للخطر، وإنما أولئك الذين أمسوا أكثر عرضة بسبب افتراس الاقتصاد لهم: كبار السن والعجزة، والسجناء، والمهاجرون، والعمال الذين لم يكن لديهم خيار سوى الاستمرار في الكفاح على الرغم من المخاطر. لقد مات مئات الآلاف منهم.

إذن ها نحن ذا مرة أخرى، في موقف جعلته سنوات من الانقراض وأزمة المناخ مألوفًا: تتكشف الكارثة أمام أعيننا، وإذ نعرف بالضبط ما يجب فعله لوقفها، إلا أننا ندرك أيضاً أنه لا يمكننا ذلك؛ لأن الهياكل التي تقوم عليها مجتمعاتنا هي التي تدفع الكوارث إلى الأمام. ربما، إذا نجونا من الشتاء المقبل ولم نهدأ في سبات بوصول لقاح ما – صناعة الأدوية الهائلة على حصانها الأبيض اللاهث – سوف نتذكر على وجه التحديد من قال لنا أنه لا داعي للقلق، ومن أخبرنا أن حياتنا أقل أهمية من حصصهم في الأرباح. وربما يمنحنا غضبنا وحزننا القوة لبناء شيء جديد. فيكتب عالم الأحياء التطوري روب والاس، والذي يعتمد الكثير من تحليل مالم على عمله، أن “المخرج سوف يتطلب خلق عالم جديد”. لن يكون الأمر سهلاً، ولن تكون البدائل سهلة أيضًا.

مصدر الترجمة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

ترجمة: فرح سلمان

اترك تعليقا