مترجم: أنا روسي وعائلتي أوكرانية.. ما هو مصيرنا إذا اندلعت الحرب؟

 ترعرعت السيدة إيدل وهي مؤلفة كتاب “روسيا: ملعب بوتين: الإمبراطورية والثورة والقيصر الجديد” في جنوب روسيا. أما بشأن الحق في الإنتماء الروسي التي بلغ أوجه في آخر أيام الإتحاد السوفيتي، فلا يوجد شيء أكثر عبثية من فكرة .
يرجع ذلك بصورة جزئية لتجربتي الشخصية في المكان الذي ترعرعت فيه في جنوب روسيا، فكان نصف الأشخاص الذين أعرفهم يحملون أسماء عوائل أوكرانية، فلُقّبت ابنه عمي الصغرى بِ ” الدجاجة الصغيرة “، لأن “بايفن” تعني “الديك” في الأوكرانية، كما أن عائلة والدها تنحدر من شمال أوكرانيا. حينما كنا نتسارع لنتأمل سلطعونات الناسك في البحر الأسود الدافئ أو نلعب دور القوزاق وقطاع الطرق، لم أفكر مطلقًا بأبناء عمومتي والذين أسميتهم “الأخ” و “الأخت” كأوكرانيين بل كانوا عائلتي.

لم نكن في جنوب روسيا قريبين جغرافياً من أوكرانيا فحسب فقد ولدت جدتي في مدينة ماريوبول الأوكرانية والتي تبعد 70 ميلاً فقط عن روسيا، كنا مترابطين ثقافياً ولغوياً، كانت الكلمات الأوكرانية تتخلل للهجتنا الجنوبية، ولا يزال بإمكاني غناء بعض الأغاني الشعبية الأوكرانية  فنحن أيضاً نتشارك بنفس التربة السوداء الغنية والخصبة، كما تعتبر أوكرانيا سلة غذاء  الاتحاد السوفيتي، وتُعتبر “كوبان”  وهو الاسم غير الرسمي لمنطقتنا، مخزن الحبوب في روسيا.

تاريخنا مترابط بطريقة معقدة، فإن كل من الروس والأوكرانيين منحدرين من أبناء السلافيين، وهم مزارعون انحصروا بين أوروبا والسهوب، وكلاهما عانى من نير المغول والنير القيصري والنير البلشفي، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تفرقت الدول، ومع ذلك كان الاستشعار بالماضي المشترك قوياً لدرجة أنه حتى النزاع الذي كان مدعوم من روسيا في شرق أوكرانيا لم يكن قادراً على فصلهم بالكامل.

الآن العلاقة بين البلدين على حافة الانهيار، يتمركز حوالي 130.000 جندي روسي على الحدود، ومن متوقع اندلاع الحرب. إن الصراع بين أوكرانيا وروسيا من شأنه أن يشوه قرون من الامتزاج، مثلي كمثل الملايين من الروس لديهم أقارب أوكرانيون والعكس صحيح، والرسم لنهاية دموية لهذه الثقافة التي تخلّقت ستولد مأساة بكل بساطة.

كانت أوكرانيا حاضرة دائماً في مرحلتي طفولتي ومراهقتي، فأثناء فترة إقامتي مع أجدادي في فصل الصيف، كنت أشاهد الأفلام في المبنى الأبيض الكلاسيكي الجديد لسينما أوكرانيا في وسط المدينة، وفي المنزل غالبًا ما كنا نتناول شرائح السيرنيكي الأوكرانية  – وهي تتكون من الجبن والبيض والدقيق ، وغالبًا ما يتم طهيها مع الزبيب أو المشمش المجفف- ، أو نتناول فطائر الجبن الحلو على الإفطار،  بينما كنا تناول البرش الأوكراني على العشاء – وهو حساء يصنع من الشمندر ويقدم ساخناً أو بارداً مع الكريمة الحامضة- ، وخلال عروض الرقص الشعبي المتلفزة، والتي تهدف إلى إظهار الوحدة بين الجمهوريات السوفييتية الشقيقة، انتظرت الراقصين الأوكرانيين، وكنت مبهوراً بجمال أغطية الرأس النسائية ذات الأزهار الملونة والتنانير المنسوجة تجسيدًا للجرأة والذوق.

إعلان

في المدرسة، بدأت دراسة التاريخ بكييفان روس، واتحاد الإمارات السلافية من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر والذي امتد إلى أجزاء كبيرة من روسيا البيضاء وأوكرانيا وروسيا الأوروبية الحديثة، كما أخبرتنا كتبنا المدرسية بصدق عن منطقة كييف والتي كانت تلقب بِ “أم المدن الروسية”، وفي فصل الأدب حفظنا وصف نهر دنيبر من “تاراس بولبا” ، وهي رواية كتبها العملاق الأوكراني بالفطرة بالحروف الروسية نيكولاي غوغول لاحقًا بعد رفع الحظر الذي كان طويل الأمد، كان يقرأ روايات ميخائيل بولجاكوف بنهم، وهو مواطن من كييف، كان حبه وهوسه للفولكلور الأوكراني  واضحاً وملموسًا، ثم كان هناك إيليا إيلف ويفغيني بيتروف، مؤلفا الرواية الساخرة المثالية “الكراسي الإثنا عشر”، كلاهما ينحدر من أوديسا، وهي مدينة ساحلية تقع على البحر الأسود في أوكرانيا.

ما إذ كانت أوكرانيا ثاني أكبر جمهورية في الاتحاد السوفيتي من حيث عدد السكان، كانت رغبتي في أن تكون حاضرة في مراهقتي أمراً مختلفاً، كان الاتحاد السوفييتي والذي وُصف بأنه اتحاد بين أنداد، مشروعًا روسيًا بالكامل، فقد كان معظم أعضاء المكتب السياسي من الروس، وكان الكرملين في موسكو يحكمون الجمهوريات بنظام دكتاتوري.

اتضحت عدم كفاءة هذا الحكم بشكل واضح في عام 1986، عندما انفجر مفاعل نووي في محطة تشيرنوبيل للطاقة، على بعد حوالي 80 ميلاً شمال كييف، أنهت الكارثة الاتحاد السوفيتي بشكل فعلي  بعد أن أصابت وشرّدت الآلاف، وأطلقت سلسلة من الإصلاحات التي أدت إلى تفككه، منذ ذلك الحين علمنا أن المشاركة في التجربة السوفيتية لم تكن طوعية تمامًا،  وأما بالنسبة لأوكرانيا حاقت بها مجاعة هولودومور، وهي مجاعة أوجدتها خطة ستالين الجماعية والتي أودت بحياة ما يقارب من أربعة ملايين أوكراني في أوائل الثلاثينيات.

لم يكن تفكك الاتحاد السوفيتي الذي عشت فيه، كارثة على العلاقات بين البلدين، بل كان الأمر أشبه بالطلاق حيث يقرر الوالدان البقاء أصدقاء من أجل الأطفال، فأوكرانيا على سبيل المثال، سمحت لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتها البحرية الرئيسية في سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم وتخلت عن ترسانتها النووية، واستمرت الروابط الثقافية والاجتماعية، عملت كمستشار في معسكر للشباب على البحر الأسود خلال فصول الصيف في أوائل التسعينيات،  وفي أثناء مباريات كرة القدم ومسابقات الرقص كان يصرخ كل واحد منّا بأعلى صوت “يو كرا نا ، أنا أحبك!”

وهذا لا يعني أن العلاقة بين الروس والأوكرانيين كانت متناغمة بالطبع، من يحب “الأخ الأكبر” البطولي إلى الأبد؟ مثلما كان الروس متمركزين في الاتحاد السوفيتي ظاهرياً، تم الاحتفال بالثقافات واللغات الوطنية، ولكن لكي تصل إلى مستوى عالٍ في فن الغناء أو الرياضيات أو أي شيء آخر، كان عليك الذهاب إلى إحدى الجامعات الرائدة في موسكو، والتحدث باللغة الروسية، وبصفة عامة، أن تكون روسيًا بالقدر الكافي، لإن تكون التعبيرات العامة عن الوطنية معرضة لإن تكون قومية موسومة.

كان عليك أيضًا أن تتحمل الشوفينية الروسية العظمى الشائعة، وهو مصطلح صاغه لينين لوصف إحدى الطرق المؤسفة التي وجد بها الشعب المضطهد تاريخياً لإثبات الذات، وجدت معظم الجنسيات غير الروسية نفسها موضع النكات، فعلى سبيل المثال تم تصوير الأوكرانيين على أنهم قوم مهووسين بشحم الخنزير، وذلك الأمر ولّد الاستياء ولا سيما في المناطق التي كانت أقرب تاريخيًا وثقافيًا إلى أوروبا ، مثل غرب أوكرانيا وجمهوريات البلطيق. أتذكر أنني حاولت الحصول على المساعدة بعد أن فاتني قطاري في تالين بإستونيا في أوائل التسعينيات ولم أصل إلى أي مكان حتى تقمصت شخصية رجل إنجليزي بدل الروسي.

تلاشى هذا الاستياء بمجرد إزالة أسبابه، ففي أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت روسيا وأوكرانيا، وهما دولتان ذات سيادة تراقبان بعضهما البعض من مسافة بعيدة، وهما منشغلتان ببناء مستقبلهما، لقد كان أداء روسيا الذي غمرته أموال النفط   أفضل بلا منازع من الناحية الاقتصادية، لذا ذهب الكثير من الأوكرانيين للبحث عن عمل في موسكو، ومع ذلك، فقد نمت أيضًا السلطوية والانعزالية بشكل كبير، وعلى الرغم من كل الصعوبات التي واجهتها أوكرانيا بدت ملتزمة بمسار ديمقراطي موالي للغرب عندما احتشد الأوكرانيون في عامي 2013 و 2014 ضد رئيس يعارض الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وأنا كنت أدعمهم ومؤيداً لهم من بعيد.

لكن ضم الرئيس فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم في مارس 2014 أطلق العنان لشبح جديد: الاتحاد السوفيتي 2.0، هذه المرة فقط بدون مساواة أو رابطة دولية، مجرد جشع مربوط باعتقاد قديم بحق روسيا في حكم الدول “الأقل” في مدارها، أصبحت الجمهورية الشقيقة المفضلة بين عشية وضحاها على حد تعبير دعاية للكرملين، والفاشيين والدمى المتحركة للناتو وقتلة الأطفال، لم تكن مجرد حرب كلامية فمنطقة دونيتسك التي اعتنيت بأطفالها ذات مرة  تحولت إلى منطقة حرب بسبب ثماني سنوات من الحرب الهجينة، والأمر نفسه ينطبق على ماريوبول ، مسقط رأس جدتي.

الآن ليس شرق أوكرانيا فقط مهددًا بالعدوان الروسي ولكن البلد بأكمله، فبعد أشهر من الترددات الدبلوماسية والتكهنات والتهديدات تقف أوكرانيا على شفا الحرب، ولم تكن الضحية الأولى للتوسع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فانجرفت كل من جورجيا ومولدوفا والشيشان في صراع عسكري مع شقيقتهم الكبرى السابقة، وكانت النتائج متوقعة: فازت روسيا، وخسروا.

لكن الحرب مع أوكرانيا ستكون مختلفة، ليس فقط لأنها تشعر بأنها قاتلة بين الأشقاء الأوكرانيون الذين ضحوا بملايين الأرواح لإنقاذ الاتحاد السوفيتي من النازيين، هم سادة المقاومة الحزبية وسوف يطول الصراع، والنصر باهظ الثمن والعواقب بالنسبة لروسيا كدولة كارثية. “الروس، إلى أين أنتم مسرعون؟” يكتب غوغول في “الأرواح الميتة”. إنه سؤال جيد.

https://english.aawsat.com/home/article/3489216/anastasia-edel/i%E2%80%99m-russian-my-family-ukrainian-what-happens-us-if-there-war

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق علمي: عمر العجيمي

ترجمة: فرح سلمان

اترك تعليقا