قصة الوهابية من الدعوة إلى الدولة (ج1)

تخبرنا الرواية أن محمد بن مسعود حاكم الدرعية الشاب استقبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلًا: “أبشر ببلاد خير من بلادك وأبشِر بالعزة والمنعة.”
فقال الشيخ: “وأنا أبشرك بالعز والتمكين والنصر المبين، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم فمن تمسك بها وعمل بها ونصرها ملَك بها البلاد والعباد وأنت ترى نجدًا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والاختلال والقتال لبعضهم بعض فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك. أنت كبيرهم و شريفهم. أريد منك عهدًا على أن تجاهد في هذا الدين والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك وأن المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي أبدًا بحيث لا ينعقد أمرًا ولا يقع صلحًا ولا حربًا إلا ما نراه كذلك. فإن قبلت هذا فأخبرك أن الله يطلعك على أمور لم يدركها أحد من عظماء الملوك والسلاطين وتكون عاقبة أمرك محمودةً عند الله لأنك اتبعت الدين ونصرته ولم تقصر رتبتك عن رتبة الصحابة والخلفاء الذين نصروا رسول الله وأي منزلة أعلى من هذه؟”
فقال محمد بن سعود: “قبلت وبايعتك على ذلك.”

هكذا كانت بداية الدولة الوهابية/ السعودية الدولة النموذج الذي طالما تطلع إليه أبناء الحركات الاسلامية حيث المجتمع والنظام نسيج واحد يتشارك جميع أفراده العقيدة والمذهب والأهداف. ويمكننا أن نذهب إلى القول أن محمد بن عبد الوهاب كان هو الإسلامي الأول فربما يكون أول داعية وفقيه من أهل السنة و الجماعة ينتهج أسلوب العمل التنظيمي بغرض إنشاء دولة جديدة قائمة على بيعة مشروطة يتقاسم فيها الفقيه مع الأمير السلطة المستمدة من العقيدة المشتركة. وقد سرت هذه البيعة واستمرت حتى اليوم فتوارث آل سعود حكم الدولة بينما توارث أبناء محمد بن عبد الوهاب المعروفين بآل الشيخ المشيخةَ. ولم يشذ عن هذه القاعدة إلا الشيخ عبد العزيز بن باز الذي تولى منصب الإفتاء من سنة 1992 م إلى سنة 1999 م ثم عاد المنصب إلى آل الشيخ.
والحقيقة أن الإعجاب بالحركة الوهابية لم يكن مقصورًا على المتأثرين بها، بل من شاركهم الإعجاب العديد من المفكرين و المثقفين الإسلاميين كمحمد عبده ورشيد رضا ومحمود شاكر وطه حسين الذي أشار إلى المذهب الوهابي في كتابه “الحياة الأدبية في جزيرة العرب” قائلًا: “إن هذا المذهب جديد وقديم معًا. والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر؛ لأنه ليس إلا الدعوة القويمة إلى الإسلام الخالص النقي المطهَّر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – خالصًا لله وحده، لاغيًا كل واسطة بين الله والناس. ولولا أن التُرك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها، لكان من المرجو أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر الهجري كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول.”
وقد بدأ أمر محمد بن عبد الوهاب الذي ولد في قرية العيينة 1115 ه – 1703 م عندما عاد لقريته بعد رحلة في طلب العلم بين مكة والمدينة والبصرة والأحساء، فقد اشتد في معارضة مظاهر البدع من التبرّك بالقبور والشجر والذبح عند القباب والمزارات، واقتنع حاكم القرية والكثير من أبنائها بآرائه وهدموا ما جاورهم من قباب و مشاهد، ولكن عندما أمر محمد بن عبد الوهاب برجم امرأة اعترفت بالزنا حتى الموت، تحول الموقف ضده (فلم تكن هذه الممارسة وغيرها من تطبيق الحدود شائعةً كما يتصور البعض في البلاد الإسلامية التي كانت الكلمة العليا بها للسلطة و العشائر) و انتبه له حكام الأحساء حتى خشي على نفسه منهم. فتوجه إلى الدرعية التي وصلتها أفكاره ووجدت قبولًا بين كبرائها الذين كانوا في صراع مع حكام الأحساء.
وبعد البيعة التي ذكرناها تحولت الدرعية سريعًا إلى عاصمة دينية وسياسية للدولة الجديدة التي يسميها المؤرخون اليوم “الدولة السعودية الأولى”، والتي تقاسم السلطة فيها الأمير كزعيم سياسي وقائد عسكري والشيخ وصحبه من العلماء.

وما هي عقيدة محمد بن عبد الوهاب؟
والواقع أن مذهب محمد بن عبد الوهاب في العقيدة هو مذهب ابن القيم وابن تيمية وأحمد بن حنبل وغيرهم الكثير من علماء الإسلام ممن يطلق عليهم اسم السلف الصالح، فإنه وإنْ كان خطيبًا مفوهًا وصاحب شخصية كاريزماتية طاغية وشيخ عميق الثقافة الدينية، إلا أن اجتهاداته الخاصة لا تصل به لمرتبة المجتهد أو صاحب المذهب المتفرد.
وحجر الزاوية في عقيدة محمد بن عبد الوهاب والتي عبر عنها قبله ابن تيمية وأعلنها عقيدة أهل السنة والجماعة أن التوحيد قسمان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. وتوحيد الربوبية وحده لا يجعل المرء مسلمًا ولكن لابد أن يتكامل ذلك مع توحيد الألوهية.
فتوحيد الربوبية يعني: أن الله واحد لا شريك له يحيي ويميت ويدبر الأمر في الكون بأسره. وتوحيد الألوهية يعني: توحيده في أفعال العباد فلا يدعي غيره ولا يتوكل إلا عليه، ولا يعتقد في أن غيره ينفع أو يضر.
ولم يعتبر محمد بن عبد الوهاب أنه أتى بجديد في هذا الشأن، وإنما يعلن أن هذه عقيدة السلف من الصحابة والتابعين بلا خلاف بينهم فيها ولم يعارضها إلا المبتدعين عندما نشأت المذاهب المنحرفة مستندًا على العشرات من الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة.
ولا يكتمل التوحيد عند محمد بن عبد الوهاب إلا بالبراءة من الكفر والكفار كما يقول في كتابه “التوحيد”: “قوله صلى الله عليه وسلم: “من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله.” وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة! ما أعظمها وأجلها! وياله من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!”
أما القسم الثالث من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات الذي عبر عنه الشيخ عبد الرحمن بن سعد قائلًا: “اعتقاد انفراد الرب جل وعلا بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارِك بوجه من الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله من جميع الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله.”
فهو محل خلاف حيث يذهب الوهابية و الحنابلة وغيرهم من أهل السنة إلى أنه جزء لا يتجزأ من التوحيد. بينما يخالفهم الأشاعرة والماتريدية الذين يسمحون بتأويل بعض نصوص الكتاب والسنة في الصفات وحيث أنهم يعتقدون كما عبر ابن عبد البر أن أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في الكتاب والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا انهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. فقد عدوا الأشاعرة والماتريدية (ومنهم علماء الأزهر في مصر والزيتونة في تونس والقرويين في المغرب والغالبية العظمى من العلماء في العالم الإسلامي كله وقتها) مبتدعين خارجين عن إطار أهل السنة والجماعة، ولا يزال الجدال محتدمًا بين الطرفين ليومنا هذا.
ويؤكد عبد الوهاب على أن الشرك الأكبر هو ما وقع فيه أهل الكتاب كما ورد في سورة براءة أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، بمعنى أنهم أطاعوهم في المعصية وجعلوا لهم الحكم في الأمور لا لله، فيحلون ما حرم ويحرمون ما أحل. وأن من الشرك تعليق التمائم، والتبرك بالشجر والحجر، واعتقاد نفعهم، والنذر لغير الله، والاستعاذة بغير الله، والسحر، وتصديق الكهان والتنجيم.
وأكد عبد الوهاب أن سبب الشرك هو الغلو في الصالحين ولهذا ذهب أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثانًا تُعبد من دون الله. ولهذا كان على رأس قائمة أولويته هدم القباب، والمشاهد، والقبور المعروفة للصحابة، والتابعين التي يزورها الناس ويتبركون بها.
وأكد عبد الوهاب أن وقوع الشرك في المسلمين وتحول بعضهم إلى عباد أوثان دون أن يعلموا ممكن وحادث بالفعل مستندًا على أحاديث النبي مثل قوله: “ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أمتي الأوثان”، وقوله: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوَ القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.” والحقائق التاريخية كظهور عشرات من مدعي النبوة وكلهم وأتباعهم ينطقون الشهادتين ويصرحون بأن القرآن حق و الرسول حق.
ويقول: “المشركون في زماننا أضلّ من الكفار الذين في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من وجهين: أحدهما أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين.   والثاني أن مشركي زماننا يدعون أناسًا لا يوازنون عيسى والملائكة. إذا عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر عبادة الأصنام. هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح، وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة. فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرِج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر وشاع وذاع حتى إن كثيرًا ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار وينتسب إلى الصلاح والعبادة، فما بالكم لِمَ تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله مخرج عن الإسلام؟”
واختصر عبد الوهاب الرؤية السياسية الدينية للدولة بقوله “لا دين إلا بجماعة”، ويؤكد مثلما قرر ابن تيمية من قبل أن التطبيق الكامل لسائر ما أوجبه الله لا يتم إلا بسلطان ودولة (من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، لا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة) والذي يحوز السلطان هو الحاكم الفعلي القادر على تطبيق الشريعة (الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدات له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا).
وعليه فالعلاقة بين الدين ووحدة الجماعة وطاعة ولي الامر لا تنفصم عراها أبدًا. فالدين ليس مجرد اختيار شخصي، وإنما هو هوية الجماعة الإسلامية وأساسها. والجماعة لا تقوم إلا بحاكم، والحاكم لا يكون شرعيًا (واجب الطاعة) إلا إن كان يتبع الشريعة ويخضع لأحكامها. فالجماعة لا تخضع للحاكم الإمام وإنما تخضع للشريعة التي يلتزم بتطبيقها، وهكذا فإن مفهوم الشرك الذي تأسست عليه صراعات الوهابيين مع مناوئيهم وغزوهم لمن حولهم كان ذا طابع سياسي. كما له طابع ديني، فغايته التوحيد السياسي للمجتمع تحت سلطة الأمير الواحد الذي تجب طاعته. وهكذا فقد حاز محمد بن عبد الوهاب السبق في وضع الأساس العقدي والنظري الذي استوحته الحركات الإسلامية في كافة أرجاء الأرض بعد ذلك بعقود طويلة.

وبما أن معظم العلماء و الفقهاء النجديين كانوا بالفعل حنابلةً عند بدء الدعوة الوهابية وإن غلب على العامة البدع والممارسات الشركية والمعتقدات الخرافية فتأثير محمد بن عبد الوهاب الحقيقي كان سياسيًا بتأسيس نظام جديد أكثر منه قيامه بتغيير فقهي أو عقائدي.
وكانت نجد البيئة المثالية للدعوة الوهابية. فقد كانت تقاسي من الفقر المدقع، والجفاف، والأوبئة المستمرة، وانعدام الأمن، وشيوع الجريمة، وصِدامات العشائر الدامية مع بعضها البعض، حتى قوافل الحجاج لم تنجُ من النهب والاعتداء، ولهذا يؤكد المدافعون عن الدولة الوهابية أن الشيخ والأمير لم يعتدوا على الدولة العثمانية ولم يخرجوا عن سلطانها؛ لأن الدولة العثمانية لم يكن لها من سلطان على نجد ابتداء ولكن في المقابل يرفض العديد من الباحثين هذا ويؤكدون على وجود سلطة للدولة العثمانية في نجد وأن الأشراف كانوا يستمدون سلطتهم من السلطان العثماني ويدينون له بالولاء بوضوح ودعوا الوهابيين للدخول في طاعته. وإن افترضنا عدم تبعية نجد للدولة العثمانية فالدولة الوهابية توسعت وضمت مناطق تابعة للدولة العثمانية في الحجاز والعراق بلا خلاف.
والوقائع التاريخية تحسم الأمر أن الدولة العثمانية كانت تنظر للوهابيين باعتبارهم خوارج بغاة، بينما ينظر إليهم الوهابيين باعتبارهم مشركين كما عبر الشيخ عبد الله أبو بطين بقوله: “والشيخ محمد بن عبد الوهاب قاتل من قاتله، ليس لكونهم بغاة وإنما قاتلهم على ترك الشرك، وإزالة المنكرات، وعلى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والذين قاتلهم الصديق والصحابة لأجل منع الزكاة ولم يفرقوا بينهم وبين المرتدين في القتل وأخذ المال.” وقال سعود بن عبد العزيز في رسالة إلى الكتخدا علي بك نائب والي بغداد: “لَمّا كان أهل الحرمين آبين عن الإسلام وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد وجب علينا الجهاد بحمد الله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم.” بينما جاء في رسالة بعثها والي الشام سليمان باشا إلى سعود بن عبد العزيز “من سليمان والي أقاليم الشام من طرف الدولة العثمانية أيّدها الله إلى يوم القيامة وثبتها على عقيدة أهل السنة والجماعة إلى سعود بن عبد العزيز. أنتم أعراب سكان البادية فئة نجدية فئة مسيلمة الكذاب. اعتقاداتكم محدثة وبدعة قوم جهلة بقواعد أئمة الدين أهل السنة والجماعة أنتم طائفة باغية خوارج عن اعتقاد أهل السنة والجماعة السلطانية فإن كانت شهوتكم في إعانة الإسلام بالمقاتلة والمعاندة فقاتلوا أعداء الدين الكفرة الفجرة لا الملة الإسلامية. وكيف تخاطبون أهل الإسلام مخاطبة الكفار وتقاتلون قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قال عليه الصلاة والسلام “الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”. فأي حالة أسوأ وأضل وأعظم ظلمًا من قتال المسلمين، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وعقر مواشيهم، وحرق قراهم من نواحي الشام التي هي خيرة الله في أرضه وتكفير المسلمين وأهل القبلة والتجري على ذلك وعلى مخاطبة المسلمين بما خوطب به الكفار؟ فلم يُسمع ذلك من أئمة الدين إلا من الفرق الضالة. وكيف تدّعون العلم وأنتم جاهلون؟ بل أنتم خوارج في قلوبكم زيغ تبغون الفتنة وتريدون الملك بالحيلة وقد خلت أمثالكم زائلة.”
وبعد أن سقطت مصر على يد الحملة الفرنسية و ظهر عجز العثمانيين عن حمايتها تجرأ الوهابيون أكثر وتوسعت دولتهم بقيادة عبد العزيز بن محمد آل سعود فهاجموا كربلاء 1802 م ودمروا المزارات الشيعية و قتلوا الآلاف من زوارها ثم دخلوا مكة المكرمة 1803 م فدمروا كل الأضرحة والمزارات وحرم بيع التبغ والتدخين وأخرجوا كل الأتراك منها وعينوا حاكمًا وقاضيًا جدد لمكة في ضربة قاسمة لسلطان العثمانيين وقد أخرج علماء مكة بيانًا بعد دخول الوهابيين جاء فيه: “نشهد -ونحن علماء مكة الواضعون خطوطنا وأختامنا في هذا الرقيم- أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله ونفي الشرك الذي ذكره في هذا الكتاب أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقًا ومصر والشام وغيرهما من البلاد إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنه: الكفر المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا الدين.”
كانت قوافل الحج تأتي مكة ومعها المحمل وهو جمل ضخم علية هودج مزين ويحمل كسوة الكعبة من القاهرة إلى مكة في كل عام ويسير معهم موسيقيون يضربون بالطبل والطنبور. وهذا ما لم يكن يقبله الوهابيون الذين طالبوا أن يحضر الحجيج بدون آلات موسيقية وهودج وسواء منع الوهابيين الحجيج من دخول الحرم كما هو مشهور أو هم من رفضوا دخوله إلا وقد تقدمتهم الطبول و الهودج كعادتهم كما ادعى بعض الوهابيين. فما شاع وانتشر وأفسد سمعة الوهابيين أنهم منعوا من يخالفوهم في المذهب من المسلمين من أداء فريضة الحج فتحول الكثيرين ضدهم.
وتعرض الوهابيين لضربة عنيفة باغتيال عبد العزيز وإن كان ابنه سعود تلقى البيعه من بعده بلا إشكال. بينما اعتزل محمد بن عبد الوهاب العمل السياسي بعد احتلال الرياض خصم الدرعية الرئيسي في نجد وتفرغ وأبناؤه من بعده للعمل الدعوي وتأليف كتب الفقه والتوحيد.
ولكن الضغط الحقيقي بدأ بوصول السلطان محمود الثاني إلى عرش الدولة العثمانية حيث في محاولته لإنقاذ دولته التي بدأت في التفكك حاول استعادة سلطانه على نجد فكلف والي مصر محمد علي بالمهمة الصعبة.
وعلى الرغم من الهزيمة الثقيلة التي تعرضت لها القوات المصرية في وادي الصفراء بداية الحرب إلا أن محمد علي دعم ابنه طوسون بالمال والرجال حتى استطاع انتزاع المدينة ثم مكة والطائف من الوهابيين، قبل أن يوقع معهم هدنةً بعد وفاة سعود 1814 م وتولى ابنه عبد الله قيادة الوهابيين. إلّا أن الهدنة لم تطُل فبعد وفاة طوسون 1816 م بعث محمد علي بابنه وقائده الأقوى إبراهيم باشا على رأس جيش من القوات المصرية النظامية جيدة التدريب والتجهيز ليحسم الأمر حتى يتسنى له المطالبة بضم الشام كمكافأة.
وبدأ إبراهيم باشا حملةً شرسة لم توقفه خلالها شراسة الوهابيين و استماتتهم في القتال حتى بلغت ذروتها بحصار الدرعية حصارًا خانقًا استمر ستة أشهر كاملة قبل أن يستسلم عبد الله ورجاله بعدما تيقنوا من الهزيمة؛ ليهدم إبراهيم الدرعية حتى يسويها بالأرض ونقل كبار القادة والزعماء أسرى إلى القاهرة حيث أحسن محمد علي استقبالهم وأكرمهم ولكنه سلم عبد الله وبعض كبار قادته إلى الأستانة حيث أعدمهم السلطان العثماني وطيّف بجثثهم في الأسواق ثم أُلقيت في البحر.
ولكن القصة لم تنتهِ هنا، في المقال القادم نكمل معًا.

** محتوى هذا المقال مستقى من كتاب (المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي) أضغط هنا لتحميل الكتاب 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا