الحياة لعبة سرديّة.. قراءة في رواية “الملف 42” عبد المجيد سباطة

"جئنا من الروايات وإلى الروايات نذهب" -حسين البرغوثي.

ماذا كنت ستفعل إذا كنت تعمل على كتابة رواية ثم أضعت مخطوطتك في مكانٍ ما قبل إنهائها؟ في الواقع، قد تتعدّد الاحتمالات، ولكنّك على الأغلب ستفقدها. في الأدب، عالج الكاتبُ الإيطالي بيرانديلو بمسرحيّتِه الشهيرة مسألةً لشخصياته غير المكتملة، والتي تبحث عن مؤلفٍ لإنهاء قصّتها، وهذا ما حدث تقريبًا عندما فُقد “الملف 42″، إلا أنّ الكاتب أحبّ أن يدخلَ اللعبةَ بطريقتِه الخاصّة.
“الحياة فقط تقلّد الروايات”، أوّلُ عبارةٍ استخدَمَها سباطة لربيع جابر، ومن هنا يبدأ خط رواية “الملف 42”. يُثير الكاتب مونولوج داخلي صاخب، يُعلن فيه عجزه عن إتمام الرواية، واستسلامه أمام حصار كائناتٍ ورقيّة حاوَلَ الإمساك بخيوط مصائرها، وكأن القدر قد استجاب لرغبته الداخليّة؛ فأضاع ملف روايته غير المُكتملة في سيّارة أجرة لا يعرف عنها شيئًا، ولم يكن للشخصيّات إلا أن تُنقذ نفسها وتُكمل حكايتها.

لعبةٌ أدبيّة

هذا النوعُ من السردِ حيث تخرج الأحداث عن التسلسل المنطقي، ويتّخذا تخطيط وهندسة الرواية شكلًا متشعّبًا يعتمد على التنقّل الزماني والمكاني، يضعنا أمام أنماط ومستويات متعدّدة من تداخل الروايات الرئيسيّة.
خطوط عريضة مرسومة بدقّة لحيواتٍ مختلفة تؤدّي إلى إثارة الكثير من التساؤلات في ذهن القارئ، ودفعه ليكون شريكًا في تحديد ملامح رواية “الملف 42″، وجمع الصور المبعثرة فيها أثناء محاولته تتبّع خط السرد حسب ما تجود به الأحداث، بدءًا بإفصاح الكاتب عن خطّته في بناء الرواية، ثم بتوثيق الأحداث بقصاصاتٍ وصور عن رسائل بريد إلكتروني أو أخبار وردود نُشرت في الجرائد بداية كل فصل كأدلّةٍ يسترشد بها، ثم بعنونة الفصول بأسماء روايات عظيمة كان لفلسفتها أثرٌ واضحٌ في الأحداث.

بحسب تصنيف “رولان بارت” للسرد التقليدي والحديث، فإنّ رواية “الملف 42” أبعد ما تكون عن “رواية القراءة”، والتي لا تحتاج لجهدٍ كبيرٍ من القارئ؛ كونها تصاعديّة منطقيّة في أحداثها، على العكس من “رواية الكتابة”-رواية السرد الحديث- التي يقوم فيها الكاتب ببذل جهدٍ عظيم لبناء هندستها وحبكتها، وبالتالي فهي تتطلّب جهدًا مميّزًا من القارئ.

قد يكون من العسير إمساك خيط من خيوط الرواية لإعادة سردها عندما يكون بناؤها أشبه بلعبةٍ أو أحجيةٍ أدبيّة، وعليه فقد يكون من الأفضل تتبّع الأحداث التي أرادت الشخصيّات أن تعيشها لتخبرنا بما حدث فعلًا، وما يجب أن يحدث عبر فتراتٍ زمنيّة من خمسينيّات القرن الماضي إلى الزمن الحالي، تُثير من خلالها عدّة قضايا إنسانيّة وأحداث تاريخيّة سوداء، تمسّ بشكلٍ خاصّ قيمة وكرامة الإنسان المغربي “سيزيف”، أو الأسوأ حظًا من سيزيف الباحث دومًا عن المعنى في ذلك العبث الذي يعيشه في وطنه. يقرِّر كل من “رفيق” بدايةً ثم “رشيد” و”كريستين” استكمال البحث الذي بدأه المؤلِّف عند كتابة روايته، مُستعينين بالوثائق والرسائل التي احتفظ بها في كل ما يخصّ حادثة الزيوت المسمومة في ١٩٥٩م في مدينة مكناس/المغرب، والتي تسبّبت بكارثة موت وشلل آلاف المغاربة، حين تم مزج مادة كيميائية سامّة بالزيوت النباتيّة المُستخدمة للطعام بدلًا من التخلّص منها.

على الرغم من الإحباطات التي يواجهها رشيد كطالبٍ مثقف شغوف في سبيل إكمال رسالته في الدكتوراه، وموقف كريستين المتأزّم، بين رغبتها في التوقّف عن البحث في ماضٍ يخفيه والدها على حساب ما تتطلّبه منها الأمانة الأدبيّة، أو الانتصار لروايتها ونقل الحقيقة على الرغم مما قد ينطوي عليها من صدمات، إلا أنهما لم يتوقفا عن البحث عن حقيقة توفّي أغلب أصحابها.

إعلان

جمعت بينهم ظروف كان بعضها في أمريكا، بأنظمتِها الرأسماليّة التي تتغذّى حتى على قيمة الأدب والمبدعين، وذلك بتحويلهم إلى سلعةٍ برّاقةٍ ودجاجة تبيض ذهبًا، وفي روسيا بقمعها وحروبها التي حكمت على من يدخلها بالموت حيًّا، متمثّلة بأزمة رهائن مسرح موسكو في عام ٢٠٠٢م. شكّلت إعادة فتح ملف الزيوت المسمومة عصب روايتنا، وعليه نُسِجت أغلب الخيوط، ومن خلال الإضاءة على الحادثة تكشَّفت حقائق تمسّ عمق المجتمع المغربي بثقافته وأعرافه وخصوصيته وقيوده وجماليته وتفاعل فئاته ما بين ضحيّة وجلّاد.

يأتي الأدب في مقابل كل هذا الفساد والعبث، كفلسفةٍ علاجيّة تُصاحب الأزمات والكرامة المهدورة؛ فكما “وُجِد الفنّ لكي لا نموت بسبب الحقيقة” كما أخبرنا نيتشه، فإنّ الأدبَ وُجدَ لكي نفهم ما يحدث.
وكما جَمعت الأحداثُ الواقعيّة شخصياتٍ خياليّة لمعالجتها، فإن إسقاط واحد وأربعين عملًا أدبيًّا خالدًا تشَكّلَ برُؤى فكريّة وفلسفيّة جعل من هذه الشخصيّات كائناتٍ تتشارك في بناء أركان هذه الأحجية، لتُنهي بها الملف الثاني والأربعين كعملٍ أدبيّ متكامل.
أدّت فكرة النظر للحياة بعين الأدب إلى خلق علاقة قويّة لم تُدرك فقط بعناوين الفصول بقدر ما اعتمدت على توظيف ترابطاتٍ كوّنت صلة قويّة أقامتها شخصيّات الرواية مع شخصيّات الأعمال الأدبيّة.
مما سيدعونا للتساؤل أحيانًا عن حقيقة تأثير التماهي في العلاقات بالواقع، وما إذا كان بمقدورها أن تمدّنا بالإجابات التي نحتاجها للخروج من مآزقنا الإنسانية ومعضلاتنا الوجودية.

فكرةٌ قد تحمل الكثير من المبالغة أو الخيال؛ فبعض القرّاء يعودون فور انتهائهم من قراءة أي رواية لمزاولة حياتهم، وكأن فترة القراءة هي فترة راحة أو متعة مسروقة من ضجيج يومهم، أو هروب من الواقع.

لكن حتمًا لن يتّفق ألبرتو مانغويل مع هذه التساؤلات التي تحمل بداخلها الشكوك؛ فالشخصيّات التخييليّة الـ٣٧ من كتابه “شخصيّات مذهلة من عالم الأدب” كانت قادرة على الانفلات من القصص الأصليّة حين كانت تتغيّر مع كل قراءة جديدة يقوم بها القارئ، مما يدفعها -كما يوضّح لنا مانغويل- على خلق مصائر متجدّدة وحبكة مختلفة. عمليّة تماهي القارئ في كل مرة مع شخصيّات جدد، هي دافع عاطفي يحتاجه كآليةٍ يلجأ  إليها لاستكشاف الحلول لصراعاته الذهنيّة عن طريق هذه الأمثلة الخارجيّة، فقراءات “رفيق خالدي” المتكرّرة لرواية “الحياة: دليل استعمال” تلك الرواية التي لا تصلح سوى لقارئ فُرِضت عليه عزلة إجباريّة طويلة، هي التي أعادته للحياة. لذا يرى مانغويل أنه على الرغم من تقدير القرّاء حول العالم لأشخاصٍ مثل شكسبير وسرفانتيس، إلا أنهم أقل حضورًا من مخلوقاتهم الخالدة.

تُشير مقدّمة مُترجِم رواية “لو أن مسافرًا في ليلة شتاء” لإيتالو كالفينو، والتي كانت تحمل عنوان الفصل الأول من روايتنا، إلى تنبيهات النّقاد من استخدام مصطلح “قارئ” بغير حذر، بعد أن ظهرت دراسات جديدة حول نظريّات القراءة، وتصنيف القرّاء إلى فئات متعدّدة.
فهناك “قُرّاء نصيّون”، وهناك “قرّاء خارج النص”، وهناك “القارئ الضمني”؛ الذي يعبّر عن التصوّر الموجود في ذهن المؤلّف عن القارئ الذي يتمنّاه، وهناك “القارئ داخل النص، والماثل فيه، والمشارك في صُنعِه”، فلم يكن اختيار عبد المجيد سباطة لبدء روايته بعنوان “لو أنّ مسافرًا في ليلة شتاء” اعتباطيًّا، فكالفينو يهيِّئ القارئ تدريجيًّا ليكون جزءًا من روايته ذات القصص المبتورة، والتي تحمل بداخلها الفكرة ذاتها. يقول كالفينو:

“أنت الآن على وشك قراءة الرواية، فاسترخِ، ركّز، بدِّد أيّ أفكار أخرى، دعْ العالمَ حولك يتلاشى، خذ أفضل وضع يُريحك، ففي الماضي، كانوا معتادين على القراءة وقوفًا”.

كانت تلك التهيئة عند سباطة في مقدّمة الفصل صفر (0)، عندما أعلن اعترافه بأنّ لا فرق عنده بينه ككاتب وبين لاعب الشطرنج، فكلاهما يخوض معركةً عقليّةً عنيفةً ضدّ غريمه، وعلى رقعةٍ تتّسع مَساحتها الصغيرة المُخادعة لتشمل العالم بأسره. فإنه بإشارات خفيّة يلمِّح لمسار وشكل الطريق الذي على القارئ أن يسلُكه حالما يبدأ. هذا التحدّي الواقع على رقعة الشطرنج الورقيّة، جعل من كل فكرة واردة فيه هي بمثابة الأحجار التي تمضي بشكلٍ عشوائيّ ظاهريًّا، ولكنها جنبًا إلى جنب تُكوّن سلسلة محكمة من الخطوات المترابطة. وبنفس الأسلوب، كان ظلُّ وثيمة كل رواية يُعَنْوِن فيها الكاتب فصوله.

ثالوث شراكة مثير بين الراوي والشخصيّات والقارئ يطرح وظائف جديدة لهذا القارئ من خلال قراءته لبنيةٍ روائيةٍ تتحدّى الأشكال المألوفة في عالم السرد.
نستطيع أن نفهم “رفيق خالدي”، إحدى ضحايا الزيوت المسمومة ومؤلّف “أحجية مغربيّة”، عندما أشار إلى أن الروايات التي تبتكر أشكالًا سرديّة جديدة، فإنها تختبر ذكاء القارئ، ولا تمنحه كل أسرارها بسهولة، لـ”يصبح الخيط الفاصل بين الرواية والحياة لا يكاد يُرى”.

الصدفة؛ المفاجأة المرغوبة في الحياة والمرفوضة في الروايات!

تأتي الحاجة للصدفة أحيانًا كورقةٍ أخيرةٍ أو قطعةٍ ناقصةٍ، كتلك التي نبحث عنها حتى تكتمل الصورة في ألعاب الأحجية. تأتي فجأةً لتُنقِذ موقفًا حرِجًا، أو حلًّا عالقًا خارج حدود المُخيّلة في الحياة تمامًا كما في الرواية، إلا أنَّ تَشَكُّل الأحداث المنطقيّ وتطوّرها المتدرّج في الرواية شرّع وجودها.
نسمع صوتَ المؤلّف يُثير في ملاحظاته التي دوّنها أثناء بناء روايته دعوةً للتأمّل والتفكير في فلسفتها، وكأنه أراد أن يقول أن تعدُّد الصُدَف في الرواية كما الحياة، ما هي إلا تقاطعات هائلة من الأقدار والمصائر بخيوطٍ إمّا قديمة يصعب تتبّعها أو حتى إدراكها، أو حديثة لن نَعِيَها إلا بعد أن تُصبح ماضيًا، حيث ترتبط الأقدار والأحداث ببعضها ارتباطًا مرئيًّا ولا مرئيّ، ولكننا مع ذلك نقبلها في الحياة، ونفتح لها أيدينا بحماسٍ وترقّبٍ، وكأنها تحملُ رسالةً غابت عنّا، إلّا أننا في الروايات قد نعتبرها فعل فاعل ونرفض وجودها. وما كان من الكاتب إلا أن ذكّرَ القارئ بذلك التداخل السحري بين الحياة والرواية، فأورد تلك العبارة الأزليّة المعهودة: “أحداث وشخصيّات الرواية خياليّة ولا تمت للواقع بِصِلَة، أيُّ تشابه بينها وبين الواقع هو من قَبِيلِ الصدفةِ”؛ هذه العبارة التي تتصدّر معظم الأعمال الروائيّة، ويحتمي بها الكُتّاب أمام ألاعيب القدر. “لا شيء حقيقي سوى الصدفة”، و”بعض المُمتعضين من وجود الصُدف في الحبكات الروائية لم يَخبروا الحياة جيّدًا، فالحياة قادرة على إدهاشنا باستمرار وبمفاجآت أكثر غرابة”.

توضع الصورة بعد الفقرة التي ذكرت رولان بارت

تنتهي رواية “الملف 42” بشكلٍ مبدعٍ وذكيّ؛ فطريقة العثور عليها وتخطّي أزمة إكمال مسار الرواية تُعيد للقارئ شعور الإثارة والاستفزاز أثناء محاولته فصل الواقع عن الخيال. هذه العلاقة الخاصة بين الروائي وشخصيّاته هي ما جعلت من “الملف 42” عمل يصعب إغلاقه، فقد يفتح ملفّاتٍ أخرى كثيرة ليستمر الرقم في الازدياد.

* شخصيات مذهلة من عالم الأدب/ ألبرتو مانغويل 
* لو أن مسافرًا في ليلة شتاء / إيتالو كالفينو 
* «اس/ زد» (1970) S/Z, و«لذة النص» (1973) Le Plaisir du texte / رولان بارت 
* الحياة: دليل الاستعمال Life A User's Manual (the original title is La Vie mode d'emploi) رواية جورج پرك ، نشرت في عام 1978، وترجمت للمرة الأولى إلى اللغة الإنگليزية عام 1987.
* ستة شخصيات تبحث عن مؤلف (بالإيطالية: Sei personaggi in cerca d'autore) هي مسرحية صدرت عام 1921 بقلم الكاتب الإيطالي لويجي بيرانديلو

نرشح لك: رواية وادي الدوم.. هل الجنة ممكنة على الأرض؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دانا جودة

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا