غزة مونامور.. عندما يمنحك القدر فرصةً أخرى للحياة

لوهلةٍ، تأمَّلتُ عنوانَ الفيلم “غزة مونامور”، ذلك العنوان الذى سمِعته، وشاهدتُ الفيلمَ الذى يُعتبر أولى انطلاقات المَوجة الفرنسيّة الحديثة “هيروشيما مونامور”، والذى يدور فى فلكِ قصة حبٍّ جميلة وسطَ مدينةٍ تُعاني من وَيلاتِ الحرب ورائحة الموت الذي أفنى العديدَ من القصصِ الرائعة التي كان أبطالها يحلمون بمستقبلٍ واعدٍ، لو لا أن جاءت الحرب اللعينة وقَضَت على الأخضر واليابس. ذلك العمل الفنّي العظيم الذى أستطاع “ألان رينيه” أن يرسمَ فيه قصةَ حبٍّ وسط خراب مدينةٍ ما زالت تبحث عن متنفسٍ لكي تعيش.
توثيق المدن لا يكون فقط عن طريق خرائط جوجل، ولا عن طريق بناء كباري ومجتمعاتٍ عمرانية جديدة، الفنُّ أيضًا يمكنه أن يوثِّق حياةَ المدن اليومية؛ فشوارعها هي المتنفَّس الطبيعي لأهل تلك المدينة، ورأينا كمًّا من الأفلام تبدأُ بأسماءِ مدن، مثل: باريس، ونيويورك وريو دى جانيرو. ولكن غزة، تلك المدينة المحاصَرة، نرى فى هذا الفيلم شكلًا جديد غير الأنماط المعتادة، فغزّة مونامور هي بمثابة معزوفة موسيقيّة في مدينةٍ لا تتنفّس سوى الحرب والإبادة والحصار بصفةٍ يومية، وقصص الحبّ لا تكون بمنأى عن تلك المعاناة؛ فالمعاناة هى أشبه بسريان الدم داخل قلبِ جسدٍ عليل، فغزة كمثل المدن الساحلية تملك بحرًا، ولكنّها لا تملك الحياةَ مثل المدن الساحلية الأخرى.

فكرة الفيلم

عام 2014 وجد الصيّاد الفلسطيني “جودت أبو غراب” تمثالَ أبولو الإغريقى المعروف بـإله الشمس، وكان بالأمر الجلل داخل سلطة قطاع غزة، فرأى الكثيرُ من المواطنين أنه علامةٌ على أن الشمس ستشرقُ مرةً أخرى فى أرض الوطن المحاصَر، ورأى آخرون أنّ ظهورَ أبولو، وهو بجانب كونه إله الشمس هو أيضًا إله الخصوبة لدى الرجال، سيكون دلالة على أن جميعَ الرجال سيتزوّجون ويحظون بقصصٍ خيالية، كـقصة الإله أبولو مع معشوقته دافنى التى أحبّها، بعد أن رمى عليهم أريس إله الحب بسهامه تجاه قلوبهم.
الأمر الجيد فى هذا الموضوع هو أن سلطات حماس أخذت التمثال، وأختفى أثرُه فى ظروفٍ غامضة، فتارةً نسمع بأنّه تم بيعُه، وتارةً نسمع بأنّه تم إهداؤه لأحدِ الرؤوساء فى الوطن العربي، وتارةً نسمع بأن التمثالَ لم يغادر فلسطين، ولكنّه في منزلِ الرئيس.
تلك الفكرة كانت بمثابة الشرارة لصنّاع العمل طرازان/عرب ناصر بأن ينسجوا حكايةً حول الحب الأسطورة، بشكلٍ كوميديّ خفيف ومعبر في نفس الوقت عن المعاناة الغزاوية، ولكن في إطارٍ رومانسيٍّ شيِّق.

قصّة الفيلمغزة مونامور

تدورُ أحداثَ الفيلم حول عيسى صائد السمك صاحب السّتين عامًا، والذي يُخفي فى قلبِه حُبَّه للخياطة سهام، ويتسامَر مع صديقه الوحيد سمير، الذي يحلم بالسفر إلى أوروبا لكى يبتعد عن غزة، والتي كانت بالنسبة له مقبرةً لأحلامه. وفى إحدى الأيام يعثر عيسى أثناء رحلاته لصيد الأسماك على ذلك التمثال البرونزي الذى يخلِّد أسطورة من ضمن الأساطير الإغريقية، ويبدأ في نقله بعيدًا عن أعين السلطات، ولكن لسببٍ ما، تَعلَم السلطات مكان التمثال، ويقع عيسى في الأسر.غزة مونامور

المميّز في حكاية غزة مونامور هو التلاعب على أكثر من وتر، فلدينا وتر البحث عن التمثال من قِبَل السلطات، ووتر حبّ عيسى لسهام، ووتر رغبة منال أخت عيسى في الزواج من أي امرأة، مُطَلَّقة كانت أو أرملة (لاحظ أن عيسى تخطى سن الـستّين عامًا، وفرصه في الحصول على فتاة عزباء تكاد شبه معدومة)، ووتر ليلى ابنة سهام، تلك الفتاة المطلّقة التى تحلم أيضًا بالسفر خارج أراضي فلسطين. تتشابك تلك الأوتار فى نسجِ معزوفةٍ أوبرالية أشبه بمعزوفة الخاتمه لـ “بوتشيني” المعروفة باسم “البوهيمي”، تلك التى تصف حياة عيسى وبوهيميته في الحياة العادية.

إعلان

لم يعبأ عيسى بأن تعثر السلطات على التمثال؛ فهو في الأخر يريد أن يظفرَ بحبِّ سهام، فهو يعمل وينام ويصحو على أمل الزواج بها، ويحاول بشتّى الطرق أن يتقرب منها، سواءً أكان في الشارع، أو في محلّها التجارى التي تعمل فيه كخياطة، أو حتّى في خياله، فسهام بالنسبه لعيسى كانت مثل دافني بالنسبه لـ أبولو، فاتنة قلبه التي يحيا من أجلها، والتي كان حبها هو الوقود لكي يتنفس. ورغم أن عيسى كان فظًا مع جميع الناس، إلا أنه لم يكن فظًا مع سهام برغم أخطائها في حياكة بنطاله الذي قصّرته كثيرًا، إلا أنه تقبَّله لمجرد أن محبوبته وضعت يديها عليه.

جماليات الصورة داخل الفيلم

كان تمثالُ أبولو يحوي العديد من الجمالياتِ الفنيّة، فالمتفائل داخل غزة -وهم قلة- سيراهُ بمثابةِ الأمل والنور للمستقبل، ذلك المستقبل الذى يكون مظلمًا عامًا تلو الآخر، والبعض سيرى التمثال رمزًا للفحولة الجسدية، تلك الفحولة التى مكّنت أرض فلسطين من إخراج الرجال الذين دافعوا عن وطنهم، ورووا بدمائهم النقيّة أرض فلسطين الخصبة، والآخر رأى أن التمثال رمزية عن الحب بكل أشكاله، الحب الذي يُبقينا أحياء.

غزة مونامورجداريات الصور فى المشاهد تحمل طابع النقد اللاذع؛ حيث ترى جدارية خليل الأشعث عالم الذرة“، وترى على منزل عيسى جدارية “الصاحب اللي يضرّ.. للخلف درْ”، وتلك الكتابات على الحائط تحمل العديد من رمزيات السخرية فى وطنٍ لا يملك سوى السخرية من وضعه فى ظل تملُّك سلطة داخلية لا تحمل سوى الحقد والأصولية والتشدد، وفي الخارج احتلال يأكل الأخضر واليابس.
حتى في صيد السمك، كان السمكُ ميتًا لا رغبة له بالحياة، وكأن بحرَ غزة ملوثًا نضبًا لا مثل سائر البحار. فالسمك الذى اصطاده عيسى جاء ميتًا، دلالةً على رغبة جميع الكائنات بالفرار؛ فالبشر يفرّون إلى الخارج، وسائر الكائنات تفر إلى العالم الآخر، فيطرح المُشاهِد تساؤله الصريح: “كيف فى ظل الإبادة والموت تغدو الحياة حقًا شرعيًا للكائنات الحية؟”.
تباين الظروف الجوية ما بين الجو الماطر والجو المعتدل جعلني -كمشاهدٍ- أرغبُ في أن تطول الفترة الزمنية لعرض الفيلم؛ كي أشعر بما يشعر به عيسى في ذلك المناخ، فبالرغم من تبدُّل الطقس، إلا أن حبَّه لـسهام كان مشتعلًا طيلة الوقت.

السينما الفلسطينيةجاءت المشاهد الحميمية بإضاءه حمراء، وتحديدًا المشهد الختامي، فبتلك الطريقة نجَحَ صُنّاع الفيلم في الخروج من الإطار الإيروتيكي إلى الإطار الحميمي المعتاد فى سينمات العالم العربي، والتي دائمًا ما يكون للّون الأحمر فيها دلالة على حميمية المشهد أو تجسيد المشهد لعلاقةٍ جنسية.

الموسيقى التصويريّة

وظَّف الأخوان ناصر الموسيقى الكلاسيكية أحسَنَ توظيف، فنرى معزوفات شوبان وتشايكوفسكي وحتى مشهد النهاية جاء على معزوفة “جياكومو بوتشيني”، فالتوظيف الكلاسيكي للموسيقى أضاف حسًا رائعًا للصورة الجمالية شديدة العذوبة.
فيلم غزة مونامور، الفيلم الفلسطيني المرشح للأوسكار عن عام 2020م، نجح في الظفر بالعديد من الجوائز، ففاز بجائزة دعم السينما الآسيوية، وفاز بجائزة مهرجان بلد الوليد في أنطاليا، وعُرِض فى مهرجان فينيسيا في دورته السابعة والسبعين، وعُرِض أيضًا في مهرجان القاهرة لهذا العام، ونال استحسان النقّاد والجمهور على حدٍّ سواء.

نجح الأخوان ناصر فى أولى أفلامهم الروائيّة في أن يكوِّنوا سيناريو مُحكّم تدور شخصياته في فُلكٍ واحدٍ يجعل المشاهد راغبًا في رؤية المزيد من تلك القصص التي تَروي المعاناة والحب والحرب في محاورٍ ثلاثة مستقلّة فيما بينها ولكن داخل السينما تكون مندمجة في قصَّةٍ واحدة تعبِّرُ عن دولةٍ ما زالت تعاني تحت وطأة الحرب والاحتلال.

أما تمثيل العبقرى سليم الضو ونجمة السينما الفلسطينية هيام عباس جاء أسطوريًا ومتزامنًا مع أحداث الفيلم، وكان أداؤهم بمثابة معزوفة إضافيّة للأحداث؛ فبجانب جماليات الصورة وجماليات الموسيقى، جاء الأداء التمثيلي في غاية البراعة والعذوبة.

غزة مونامور، هو فيلم عن قصةِ حبٍّ تنمو وسط رصاصات الاحتلال وعناء الحصار.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد علاء

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا