خمس روايات عربية عبرت بنا إلى الجانب الآخر
أنت لا تحتاج لتعرف الاسبانية لتستمتع بلوحات بيكاسوا، ولا الفرنسية للاستمتاع بلوحات مانيه، ولا الإيطالية لتستمتع بمنحوتات أنجلو. الأمر ذاته ينطبق على الموسيقى فليس عليك أن تكون ضليعًا بالإنجليزية لتستمتع بموسيقى الجاز والروك والبوب، وليس عليك أن تعرف الألمانية أو الروسية لتستمتع بالموسيقى الكلاسيكية، هكذا هو الأمر إن كنت من محبي الفن التشكيلي والموسيقى.
ولكن ماذا عن روايات هيمنجواى، وقصص تشيخوف، ومسرحيات إبسن؟ كيف لك أن تستمتع بهم. ليس ثمة سبيل إلا أن تبحث عن جسر لتعبر عليه، هذا الجسر هو الترجمة. إن الأدب على عكس غيره من الفنون، تقف اللغة والثقافة التي خرج من رحمها كبحر هائل يحول بينك وبين التعرف عليه وسبر أغواره ولا يمكنك أن تفعل إلا من خلال جسر الترجمة الذى يعبر بك إلى الجانب الآخر.
عندما تقرر أن تعبر جسرًا فأنت تريد الذهاب إلى العالم على الجانب الآخر، حيث التشويق والإبهار والإثارة، والأهم حيث المغامرة والاستكشاف، حيث تجدد حياة قلبك أو عقلك أو كليهما.
ومن هذا المنطلق، ولأن فن الرواية بالشكل المتعارف علية هو فن غربي في الأساس، فكانت دائمًا ما تمتد جسور الترجمة لتنقلنا نحن (الشرقيون) أو العرب إلى عوالم جوته، وهيسا، وثربنتس، وديكنز، وبرنارد شو، واوسكاروايلد، وهوجو، وتولستوى، وغيرهم من كبار الروائيين.
ولكن لم يبقَ الأمر على هذا المنوال؛ فظهرت جسور كانت طرقها عكس تلك التى سادت وهي ترجمة الأعمال الروائية العربية إلى لغات أجنبية، وبدأ الأمر على يد المستشرقيين الذين أرادوا التعرف على ذلك العالم الجديد وخوض تجربة شيقة من خلال التوغل في أعماقه ولم يكتفوا بذلك؛ بل رغبوا فى نقل تلك التجربة إلى بلادهم من خلال ترجمة هذه الروايات الأدبية.
وإليكم خمس روايات عربية عبرت بعوالمنا العربية الشرقية إلى الجانب الآخر:
1- زقاق المدق – نجيب محفوظ
كانت روايات نجيب محفوظ من الروايات العربية المبكرة التي حظت بتراجم للغات متعددة، ولعب حصوله على جائزة نوبل دور عظيم فى لفت الانتباه إلى فن الرواية العربية، وتظل الرواية العربية إلى اليوم مدينة لروايات نجيب محفوظ التى وجهت دفة الترجمة للوقوف بالشواطئ العربية.
تعد رواية زقاق المدق التى صدرت عام 1948 أول أعمال محفوظ المترجمة، وقد ترجمها إلى الإنجليزية المستشرق الإنجليزي الشهير تريفور ليجاسيك، وصدرت النسخة الإنجليزية عام 1966. وترجمت بعد ذلك لعدد كبير من اللغات فكانت أكثر روايات نجيب محفوظ ترجمة للغات أجنبية .
وتدور أحداث الرواية في القاهرة، فى أربعينات القرن الماضي، فنجد محفوظ يرسم صورة دقيقة وعظيمة للزقاق بحاله وأهله وتفاصيل الحياة فيه. وتتمحور الرواية حول حميدة الفتاة الجميلة التي تسكن الزقاق وتربيها صديقة أمها المتوفاة.
وتأخذنا الرواية مع طموح حميدة التي ترغب في الخروج من حياة الزقاق لعالم أكثر براحًا يليق بجمالها، فهي ترى أن مكانها فى السرايات وليس في الزقاق، ويسيرها طموحها غير مروض في طريق وعر قادها إليه فرج فتصبح مستباحة من قبل الجنود الإنجليز بعدما تخلت فى طريق تحقيقها لطموحها عن الشخص الذي يحبها.
يعالج نجيب محفوظ فى روايته فكرة الانبطاح والظلم والقهر الذى تعيشه طبقات منسحقة في المجتمع والتي تظهر فى شخصيات الرواية، كذلك يعالج فكرة الزمن وتغيره. وكعادة محفوظ هو لا يحاكم شخصيات روايته ولكنه يغوص في نفوسهم بفضول شديد، فيرسم لنا صور حية نابضة بالحياة.
وينهي محفوظ روايته بما يتناسب بالعودة للزقاق مرة أخرى، وبما يمتاز به أهل هذا المكان من الصبر والتبرك بآل البيت كما جاء على لسان الشيخ درويش:
” يا ست الستات، يا قاضية الحاجات، الرحمة يا آل البيت، والله لأصبرن ما حييت، أليس لكل شيء نهاية ؟بلى لكل شيء نهاية
ومعناها بالإنجليزيةend وتهجئتها .. e.n.d“.
تحولت رواية زقاق المدق إلى فيلم حمل نفس العنوان، تم إنتاجه عام 1963، من إخراج حسن الإمام وبطولة شادية التي قامت بتجسيد دور حميدة بطلة الرواية.
وتم إنتاج الرواية كفيلم مكسيكي عام 1995بعنوان “El callejón de los Milagros” إخراج خورخي فونس وبطولة سلمى حايك. وقد حصد الفيلم 49جائزة دولية على مستوى العالم واقتنص جائزة جويا( وهي جائزة أكاديمية سنوية تُمنح من قبل الأكاديمية الإسبانية للفنون والعلوم السينمائية ) لأفضل فيلم أجنبي باللغة الإسبانية.
2- الخبز الحافي – محمد شكري
تعد رواية الخبز الحافي أحد أشهر الروايات العربية والتي منعت من الصدور والتداول فى معظم الدول العربية. وربما لعب هذا المنع دور فى شهرتها فقد ترجمت لعدد كبير من اللغات الأجنبية. وكان محمد شكري محظوظ إلى حد كبير فى أن تحظى روايته الأولى باهتمام المستشرق الأمريكي الشهير بول بولز الذي عاش معظم حياته فى المغرب والذي ترجمها للإنجليزية.
كلمة محظوظ التى قرأتها في الفقرة السابقة ربما يمكنك أن تؤنبني عليها إن عرفت أن رواية الخبز الحافي هي سيرة ذاتية لكاتبها محمد شكري، الذي عاش حياة شديدة البؤس طحنت فيها طفولته ما بين قسوة الحياة وقسوة الفقر وقسوة الأب وقسوة الاحتلال فمات ثمانية من أشقائه بسبب الجوع والإهمال.
وانتقاله من الريف إلى طنجة والأكل من المزابل وقد قصَّ لنا فى بداية الرواية عن المزابل التى كان يأكل منها، وأن مزابل النصارى (أي المستعمرين)أغنى من مزابل المسلمين(أهل البلاد) وأنه كان يأكل الجيف.
وصف محمد شكري فى 228 ورقة واقع مرير لم يعشه هو وحده، ولكن عاشه قطاع كبير من الطبقة الدنيا في المغرب في خمسينات وستينات القرن الماضي. وينهي الرواية بجملة:
“الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين
لقد فاتني أن أكون ملاكًا”.
ذلك الأديب الشهير هو ذاته الشخص البائس الذي ستتعرف عليه بوضوح من خلال الرواية. هو الذي تعلّم القراءة والكتابة في العشرين من عمره، وهو الذي صاغ تلك الرواية ذات الجمال السودوي، والتى تحولت إلى فيلم عام 2004 من إخراج رشيد بن حاج.
3- سيدات القمر- جوخة الحارثي
سيدات القمر هى أول رواية عربية تحصد جائزة ألمان بوكر الدولية عام2019، وقد صدرت هذه الرواية عام 2011. وترجمت من قبل المستعربة المخضرمة الدكتور مارلين بوث بعنوان “الأجسام السماوية ” التى حصلت على الجائزة مناصفة مع مؤلفة الرواية.
فى رواية سيدات القمر تأخذنا خوجة إلى العوافي العمانية في الفترة من مطلع القرن العشرين حتى مطلع القرن الحادى والعشرين، لنستكشف عوالم جديدة على قدمها ورسوخها فعالم سيدات القمر هو مزيج جميل بين الماضي البعيد وبدايات الحاضر. بين القدم والحداثة، بين المادية والروحانية، بين الرضوخ والتمرد.
أبحرت بنا جوخة فى روايتها إلى عالم غامض ساحر كشفت لنا سحره رويدًا رويدًا من خلال تفاصيل البيئة، العادات والتقاليد، الشخوص، التاريخ، السياسة، الانتقال للحداثة، ما أثار فضول ورغبة مترجمة بحجم مارلين أن تحاول نقل هذا العالم إلى براح أكبر وتقديمه لعدد أكبر من الناس من خلال ترجمتها.
4- رامة والتنين – إدوارد خراط
صدرت رواية رامة والتنين عام 1980، وكانت التجربة الروائية الأولى لإدوارد خراط. وترجمتها إلى الإنجليزية فريال الجبوري غزول.
تعد رامة والتنين تجربة متفردة فى أسلوب السرد، وكذا في القصة التي تستدرجك بحكاية حب بين ميخائيل ورامة، ومن خلالها يأخذك خراط فى رحلة عميقة ذات مستويات متعددة يجول بك فى ذات الإنسان وإشكاليات الحب، والموت، والبعث، والأسطورة، والتاريخ والجغرافيا، والدين.
يطوف خراط بك الدنيا في هذه الرواية ليعيدك في النهاية إلى بطل روايته (ميخائيل) الباحث عن الذات عن معنى الحياة وهو يقول:
“أما أنا، فهأنذا أسلم نفسي لآخر ما عندي – وبقدرما أعرف ،آخر ما يوجد- أنني أواجه الألم المتصل، حتى اليوم الأخير، من غير درع، من غير تغطية، من غير تبريز”.
تسلح خراط في كتابته لهذه الرواية بمخزون من الأساطير التى طوعها لخدمة الأفكار الفلسفية العميقة التى أراد أن يعرضها، أو بالأحرى يفكر فيها بصوت عالي مع الآخرين من خلال روايته ويظهر ذلك في عناوين الفصول مثل: (ميخائيل والبجعة – السلالم الضيقة والتنين- إيزيس فى أرض غريبة- عمود دقلديانوس- العنقاء تولد كل يوم ).
5- موسم الهجرة إلى الشمال – الطيب صالح
نشرت الرواية عام 1966، وترجمها إلى الإنجليزية المترجم البريطانى المخضرم الذي اعتبره البعض رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية دنيس جونسون. والذي عاش جزء من حياتة فى وادي حلفا بالسودان ما يجعل لديه فكرة عن طبيعة البيئة والحياة السودانية.
تدور أحداث الرواية في القرن العشرين ما بين السودان ولندن، ويعالج الطيب صالح إشكالية العلاقة بين الشمال والجنوب ولكن هذه المرة من وجهة نظر الجنوب، كيف ينظر الجنوب إلى الشمال؟ ولماذا يحمل غصة ومرارة وربما حقد على أهل الشمال؟
هذا ما يطرحه الطيب صالح من خلال بطل الرواية (مصطفى سعيد) الذي يترك السودان ويسافر إلى القاهرة ومن هناك إلى بريطانيا البلد المستعمر لبلاده. وهناك وجد أن الفرصة مواتية للانتقام من الشمال، من أجل الظفر وإثبات الذات المقهورة.
نفذ مصطفى انتقامه من خلال علاقاته الغرامية المتعددة التى يهزم فيها أوروبا فى هيئة نسائها اللاتي يستمتع بهنّ ثمّ يتركهنّ، وينتهي به الأمر بقتل إحداهنّ والذهاب إلى المحكمة.
ويعيد الطيب صالح بطل روايته مرة أخرى للجنوب لنكتشف أنه لم يستطع أن يتحرر من الاستعمار الذي غزا نفسه حين ظن نفسه هو الظافر فى الشمال، بينما كان فى حقيقة الأمر فى ذروة انهزامه، وانتهى به الأمر مستسلمًا لمياه الفيضان.
هذه الروايات الخمس امتازت بالمحلية الشديدة، تلك المحلية التي تظهر تفرد المكان والإنسان على حد سواء. إنها تؤرخ للإنسان، لمعاناته، وفكرة، وتخبطة، لرغبته فى فهم ذاته وإدراك قبس من نور السعادة.
استطاعت هذه الروايات الخمس مع غيرها من الروايات التي لم يتسع المجال للتطرق إليها أن تغير اتجاه السير على الجسر، فلم يكن علينا نحن العبور هذه المرة، بل عبره الآخر الذى لم يجئ هذه المرة غازيًا ولا مستعمرًا، ولكن متأملًا ومتعلمًا.