الموسيقى والإنسانية في الحروب

ونسيت أنني جندي.. الجانب الإنساني من الحروب.. الموسيقى والكرة فوق القتال

لطالما كانت المعارك العسكرية، رمزًا للوحشية والدماء؛ القانون الحاكم هو أن تقتل لتنجو بحياتك، حتى لو كان أخوك في صفوف الأعداء. لكن أليس للإنسانية بصمات في ميدان القتال؟.

والحقّ أنّ الحروب حَوَت “رتوشًا” من الفن والأخلاق، للوهلة الأولى قد يبدو الأمر غريبًا، بل ومثيرًا للسخرية، لكن الموسيقى لعبت دورًا بارزًا في صفوف الجيوش، وبدورها لم تخلُ المعارك من مشاهد إنسانية ناقضت هدفها الرئيسي، وانتصرت لما هو أسمى من القتال.

الموسيقى العسكرية.. العزف على جثث الموتى

إنَّ استخدام الموسيقى في ميدان الحرب له دوران رئيسيان أحدهما نفسي، بهدفِ رفع الحالة المعنوية للجنود وحثهم على المحاربة بكل قوة، والآخر يرتبط بالتواصل بين أفراد الجيش الواحد، فتبعث الآلات الموسيقية رسائل القادة على هيئة نغمات معينة، تلتقطها آذان الجنود بكل رشاقة، ثم يشرعون في الامتثال لأوامرها. في القرن الثامن عشر كان التطوُّع في الجيش الأمريكي يوصف بـ”تباعة البوق”، كما تذكر دراسة عن استراتيجية الولايات المتحدَّة في حرب فيتنام بعنوان “استدعاء البوق”، وفي كتابه “فن الحرب” يقول السياسي الإيطالي الشهير، نيكولو مكيافيلي أنَّ على الضابط الذي يقود الجيش أن يصدر أوامره عن طريق البوق لأنَّ تكوينه المثقوب وحجمه الكبير يجعله مسموعًا في المعركة. وأشار مكيافيلي إلى أنَّ الأبواق المختصة بإصدار الأوامر للفرسان، يجب أن يكون صوتها مختلفًا لتجنب خطأ فهم التعليمات العسكرية.

لعلَّ أبرز مثالٍ على دور الموسيقى في الحروب، هو ما يذكره العهد القديم عن معركة يشوع بن نون مع سكان أريحا الكنعانيين، عندما أسقط بنو إسرائيل أسوار المدينة شاهقة الارتفاع بواسطة الموسيقى والعزف المستمر. ويحكي الإصحاح السادس من سفر يشوع، أنَّ سبعة كهنة حملوا أبواقًا ومن خلفهم تابوت العهد، كما سار الشعب وراءهم دون أن ينطقوا بحرف، وطافوا حول أسوار أريحا مرة واحدة لمدة 6 أيام. وفي اليوم السابع دار بنو إسرائيل تحت قيادة يشوع حول الأسوار سبع مرات، وفي المرة السابعة ضرب الكهنة بالبوق وهتف الشعب هتافًا عظيمًا فسقط السور مكانه وتمكَّن الإسرائيليون من الاستيلاء على المدينة بعد إبادة كل من فيها، باستثناء راحاب الزانية وأهلها، التي ساعدت جاسوسي بني إسرائيل.

وفي مقال له بمجلة “military history” شهرية الصدور، يرى المؤرِّخ الأمريكي ويليام تروتر، أنَّه برغم ميل قصة سقوط أريحا أن تتسم بالكثير من التشبيهات والاستعارات، والمرجح- حسب رأيه- أن يشوع استخدم هذه الخطة لإضعاف عزيمة الكنعانيين، ومن ثم أطلق الكهنة النيران على أعدائهم، واندلع زلزال مفاجئ أدى لانتصار القائد الإسرائيلي، إلَّا أنَّ “تروتر”، يشير إلى أهمية الاستراتيجية النفسية التي اعتمد عليها بن نون، باستخدام آلة موسيقية ساهمت بنسبة ما في انتصاره بالمعركة.

إعلان

وعن دور الموسيقى العسكرية، قال أستاذ التربية الموسيقية بجامعة القاهرة، يونس بدر أنها تلعب دورًا كبيرًا في تحميس الجنود المشاركين في الحرب، وأيضًا في بث روح الوطنية عند الشعوب في أوقات المعارك، مضيفًا أن استخدام البوق عسكريًا يهدف لإيصال رسالة بأسرع وقت بأنَّ العدو بدأ الهجوم، لافتًا إلى أنَّ بعض الثقافات تعتبره نذير شؤم. وكشف “بدر”، أن القائد الألماني هتلر تأثر كثيرًا بالموسيقار لودفيج فان بيتهوفن، خاصة أنَّ الأخير كان معروف عنه التكبُّر وداء العظمة، مما أدى لالتقائهم فكريًا، على حدِّ تعبيره، مرجحًا أن بيتهوفن قد أثّر بشكل ما في سياسة هتلر النازية.

المرور الآمن وعلاج العدو المصاب

تنتشر على ألسنتنا مقولة مفادها أنَّ في الحرب يتّبع الجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة للانتصار، وبغض الطرف عن المواثيق والقوانين الدولية التي تحكم- نوعًا ما- الحروب، وعن ألاعيب السياسة التي تحول ما هو غير مشروع إلى “مشروع”، فإنَّ تاريخنا الإنساني، على دمويته، حمل في طياته مشاهد نُبل وشجاعة، ما لبثت أن صارت عرفًا لا يسمح بمخالفته، رغم سهولة ذلك. ويشير مؤسِّس موقع “adventures in history”، جوش بروفان، إلى أنَّه خلال حروب القرن الثامن العشر في أوروبا، اعتادت الجيوش إقامة معسكرات في الفترة بين مارس وسبتمبر. مع بداية فصل الخريف، يجد العديد من كبار الضباط أنفسهم مجبرين على العبور عبر أراضي العدو، خلال العودة إلى منازلهم، في تلك الأحوال يسمح أصحاب الأرض لعدوهم بالمرور الآمن.

في عملية حصار لويسبورج عام 1745 التي دارت بين بريطانيا وفرنسا، خلال فترة حرب السبع سنوات، لم يتوان الجنرال البريطاني جيوفري أمهيرست عن مساعدة الفارس الفرنسي أوجستين دو دروكور، الذي أصيب في المعركة، حيث كلَّف طبيبه بالتكفُّل بعلاجه. لم يتوقَّف الأمر عند ذلك الحدِّ، بل عندما عرف الجنرال أمهيرست أن زوجة الفارس الفرنسي بادلت جنوده إطلاق النار ردًا على استهدافهم لمقرها، أثار هذا الأمر إعجابه وقدم الاعتذار للسيدة مرسلًا بعض الأناناس الهندي كهدية لها.

رسل الحرب.. سفراء في حماية الآلهة

“لقد حارب بشرف”، مصطلح آخر نسمعه كثيرًا، والحق أن ميدان المعركة يكافئ في بعض الأحيان، “العدو الشريف”، الذي يحارب حتى آخر لحظة، ففي القرن الثامن عشر، جرى العرف في أوروبا أن يعزف أصحاب “الطبول” لحنًا بنهاية القتال تعبيرًا عن احترام العدو المهزوم.

وعن ذلك يقول أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة القاهرة وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الأسبق “محمد عفيفي” أن الحروب القديمة حكمتها أعراف تشبه القانون الدولي حاليًا، مثل الحفاظ على النساء والأطفال وعدم قتل الأسرى، مؤكدًا أن الحضارات الإنسانية أجمعت على حسن معاملة الأسير، وأن من يخالف ذلك يعتبر فعله جبانًا وغير أخلاقي.

ويضيف أستاذ التاريخ لـ”المحطة”، أن الرسل كانوا يعاملون “معاملة السفراء” حيث الاحترام والأمان، مشيرًا إلى أن ذلك ضروري من أجل استمرار التواصل بين القادة المتحاربين.

من جانبه يوضح الدكتور عبد السميع محمود شحاتة، أستاذ التاريخ الروماني واليوناني بجامعة المنوفية، أنَّ الحضارتين اليونانية والرومانية أولَتا اهتمامًا كبيرًا للموسيقى سواء من أجل التحفيز أو التواصل بين أفراد الجيش، مضيفًا أن العازفين كانوا ضلعًا أساسيًا في المعارك.

ويؤكِّد “شحاتة”، في تصريحات لـ”المحطة”، أن الرومان خصوصًا كانوا يحترمون العدو الذي يستبسل في الدفاع عن مدينته أو أملاكه، وفي كثير من الأحيان أعطوا عفوًا عن القادة الأسرى، وفي حالة قتل أحدهم بالمعركة كانوا يكرمون جثته.

ويلفت أستاذ التاريخ الروماني واليوناني إلى أن الرسول كانت له “مكانة مقدسة” عند الحضارتين، وكانوا يعتبرونه “في حماية الآلهة” على حد وصفه، وبالتالي لا يجوز الاعتداء عليهم.

في أعياد الميلاد.. لندع القتال ونلعب الكرة

رغم أنَّ الحرب العالمية الأولى كانت وصمةَ عارٍ على جبين البشرية إلَّا أنَّها احتوت ربما على إحدى أكثر المشاهد إنسانية في تاريخ الحروب؛ ففي عام 2012، نشرت صحيفة “ميرور” رسالة لضابطْ بريطاني يدعى كليمنت بيكر، يعود تاريخها لديسمبر 1914، يصف فيها لأخيه تفاصيل وقف إطلاق النار بين الجنود الألمان والبريطانيين من أجل الاحتفال بأعياد الميلاد.

وجاء في الرسالة: ” تقدَّم رسول من الصفوف الألمانية وقال لنا إذا لم تطلقوا النار علينا فلن نفعل في صباح اليوم التالي (الموافق عيد الميلاد)” ويضيف: “بعض رجالنا ذهبوا بعد ذلك لدفن زملائهم المقتولين، ثم ركل أحدهم كرة قدم، وهكذا تشارك الجنود الألمان والبريطانيون اللعب”، كما رددوا سويًا ترانيم “الكريسماس” وتبادلوا السجائر، إضافة إلى تقديم بعض الجنود من المعسكرين أنفسهم كسجناء حتى تبدو الأمور طبيعية أمام كبار المسؤولين.

لم تستمِّر الأمور كما هي بالطبع، ومضت السنوات الأربع اللاحقة لتسفر عن مقتل نحو 10 مليون شخص، لكن لربما لو استمع رؤساء الدول آنذاك لهمسات الإنسانية داخلهم، لو كانوا رجحوا صوت الضمير على صوت السلطة والنفوذ، لتغيرت على الأرجح المحصلة النهائية. قد تكون صورة الجنود المتحاربين وهم يلعبون معًا مجرد عبث، لو قورنت بآثار الحرب المدمرة، وليس مستبعدًا أن الأيام التالية حملت قتل من يركلون الكرة لبعضهم البعض دون هوادة.

لم ينجح سلوك الجنود في إيقاف القتل والوحشية، لكنَّه نجح في حمل شعلة الأمل التي وصلتنا وستظل منتقلة عبر الأجيال، في إيصال ما هو أكثر من مجرَّد “رسالة من رسول القائد فلان إلى علان”، الرسالة المحمولة هي: الإنسانية موجودة.. حتى في أكثر اللحظات دمويةً.

المصادر
1- The Music of War
2- Military Music in American and European Traditions
3- History of Bands
4- Guidelines For Federal Field Musician Reenactors
5- Making the Rules of War

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مينا سمير

اترك تعليقا