هل تزعزع الرواية الفلسفية الإيمان؟

في فلسطين، ومن فوق منبر الجامعة العبرية عام ١٩٢٧ تعالى النداء:

“إلى سبينوزا، اليهودي؛ نصيح من قمة جبل المشارف، من ملجئنا الجديد – ألغِيَ قرار الحَرْم! لقد أُلغي الخطأ الذي ارتكبه الدين اليهودي ضدّك، ومهما كان إثمك فإنه سيُغفر، فأنت أخونا، أنت أخونا.”

لم يشفع هذا التصريح للمرشح الأول للانتخابات الرئاسية الأولى المؤرخ جوزيف كلوانسر بعد إقامة إسرائيل، في إبطال الحرم والتكفير عن الخطيئة الشنيعة التي ارتكبها اليهود في القرن السابع عشر بطردهم سبينوزا.

لو تجاهلنا تصريحات بن غوريون أيضًا حول بطلان الحَرْم من أساسه، فلا قيمة للبطلان مالم يصدر عن الحاخامات، فمن حقنا أن نسأل، من هو سبينوزا الذي نفاه اليهود من طائفتهم؟ ولماذا يحرص عدد منهم الآن على تأكيد يهوديته؟ وما علاقة المنظّر الأيديولوجي للحزب النازي، ألفريد روزنبرغ بسبينوزا؟ ولماذا قامت الفرقة النازية المسؤولة عن مصادرة ممتلكات اليهود ERR التي يرأسها روزنبرغ بمصادرة مكتبة رنسبرخ سبينوزا في عام ١٩٤٢؟ وما هي مشكلة سبينوزا التي ورد ذكرها في وثائق محكمة نورمبرغ التي سعت فرقة ERR لحلها؟
هل حقًّا يستحق سبينوزا كل هذه الزوبعة التي تثار حوله؟

“caute” “كن حذرا”.. حذارِ.

تستحضِرني محادثاتي مع أحد الأصدقاء ممن يعشقون الفلسفة، والذي كان يحلف بأغلظ الأيمان بإله سبينوزا ليؤكّد لي صدق ما ذهب إليه. وحين أسأله عن إله سبينوزا يجيب بعبارة اينشتاين :

“أنا أؤمن بإله سبينوزا، الذي يُعرّف نفسه بأنه التناغم والتناسق الذي يحكم كل الموجودات من خلال قوانين الطبيعة..”

مقولة معقّدة لا أزعم يومها أنني قد فهمتها حق الفهم، كل ما أعرفه عن سبينوزا حينها هو أنه كان يرتدي خاتمًا نقش عليه شعاره باللغة اللاتينية الذي اتخذه نهجا لحياته “caute ”

إعلان

والذي يعني ” كن حذرًا”.. حذارِ.

تصميم لخاتم يشبه خاتم سبينوزا

بدأ الفضول يحثني على القراءة عن سبينوزا الذي قيل عنه: “إنه فيلسوف مقنع يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للذكاء أو للتطور الطبيعي.”

فما الخطورة التي تكتنف فلسفته حتى تستوجب كل هذا الحذر ؟ ولماذا وصفه هيغل بقوله: “لا فلسفة من دون سبينوزا”؟

اقتنيت كتاب (الأخلاق) لسبينوزا، ويبدو أنني كنت أثق جدًا بنفسي لأبدأ بقراءة مثل هذا الكتاب الصعب، الذي كُتب بأسلوب هندسي، وما لا يُفهم منه أضعاف ما يُفهم بشهادة الكثيرين.

غلاف كتاب سبينوزا (علم الأخلاق)

فلغة سبينوزا الاستدلالية كانت بمثابة درع حماية له، فأفكاره الدينية والسياسية قد سبقت عصره. ولا يكفي أن يُنشر الكتاب من دون اسم مؤلف، وتحت اسم دار نشر وهمية، في مدن وهمية؛ بل عمد إلى استغلاق لغته عن فهم العامة ليتفادى غضب أهل عصره. لكن الكتاب نشره أصدقاء سبينوزا بعد موته في١٦٧٧.

وجدت ضالتي أخيرًا في رواية (مشكلة سبينوزا) للكاتب والمحلل النفسي الشهير، إرفين د يالوم

الكاتب والمحلل النفسي ارفين د يالوم

الذي سحرتني روايتيه (عندما بكى نيتشه) و(علاج شوبنهاور) والذي تعد رواياته مدخلًا مشوقًا للتعرف على بعض أهم ملامح فلسفة كل من نيتشه وشوبنهاور، إذ تمزج رواياته الفلسفة بالتحليل النفسي بقالب روائي ساحر.

قد صدرت الرواية عن دار الجمل، بترجمة مميزة للأستاذ خالد الجبيلي، الذي سبق وترجم روايتي يالوم السابقتين.

مصيدة الخيال

يقول نابكوف في محاضراته حول الأدب :

“لقد ولد الأدب في اليوم الذي جاء فيه فتى يصيح ذئب، ذئب، ولم يكن هناك ذئب يجري وراءه”.

الأدب وليد الخيال حتى وإن استقى مادته من واقع الحياة، إلا أنّ مهمة الأديب هي في خلق عالم روائي خاص به، يبني مؤسساته، و يبدع شخصياته، و يدير العلاقات فيما بينهم، لا تتوقف عبقرية الأديب في هندسة عالمه الروائي فقط، بل في قدرته على مزج الواقع مع الخيال، قد يستند المؤلف على حدث تاريخي، كما في روايتنا هذه، إذ الوجود التاريخي لسبينوزا وقرار طرده من الطائفة اليهودية أمر مثبت تاريخيًا، وتفاصيل علاقة ألفريد روزنبرغ مع الحزب النازي وعلاقته بهتلر حوادث حقيقية، ومع ذلك تدور في ذهن القارئ الأسئلة:

أين تقف حدود الواقع والخيال في الرواية؟

في رواية (مشكلة سبينوزا) يتقاطع الخيال مع الحقيقة. ويحتاج القارئ إلى ملاحظات من المؤلف لندرك الحد الفاصل بينهما.

الفريد روزنبرغ مع هتلر

ينسج إرفين د يالوم أحداث روايته من خيوط حياة الفيلسوف الهولندي اليهودي (باروخ سبينوزا) وخيوط حياة المنظّر الأيديولوجي للحزب النازي (ألفريد روزنبرغ) .

تمضي أحداث الرواية في مسارين زمانين، المسار الأول يبدأ في القرن السابع عشر (1656) في أمستردام، ويعرض لحياة سبينوزا في هولندا.

والمسار الثاني يبدأ في القرن العشرين ( 1910) في ريفال في إستونيا. ويتتبع فيها الكاتب أهم محطات حياة ألفريد روزنبرغ.

يعمد إيرفين يالوم إلى رسم خريطة روائية تتداخل فيها مسارات حياة بطلي روايته، رغم الفجوة الزمنية التي تمتد لما يقارب القرنين ونصف من الزمن، رغم الاختلاف الجذري الذي تبناه كل منهما، ليكون مدار الحديث حول المشكلة بل حالة الصدمة التي أحدثها التفوق الفكري لاسبينوزا ذي العرق اليهودي بالنسبة لروزنبرغ، الذي يرى في اليهود جنسًا أدنى، جرّ على أوروبا وفق قناعته كافة أنواع الكوارث التي حلت بها.

فكيف يمكنه أن يقرّ بعبقرية الفيلسوف اليهودي ( سبينوزا)؟

وكيف لقامة الأدب الألماني (غوته) الذي يرى فيه روزنبرغ مثلًا أعلى للعبقرية، أن يشيد باسبينوزا اليهودي! بل كيف يعقل أن يلازم كتاب (الأخلاق) لاسبينوزا جيب غوته ولا يفارقه!

هذه هي المعطيات هي التي كوّنت طرفي معادلة (مشكلة سبينوزا) عند روزنبرغ.

يقول فلوبير :

“الرواية تخلق الجمال أساسا في معالجتها لما هو داخلي وباطني”

فِي سبيل حل هذه المعضلة، تتكشف لنا خبايا حياة كل من ألفريد روزنبرغ النفسية، وخبايا فلسفة سبينوزا، الذي على الرغم من قلة المصادر حول سيرة حياته، إلا أن إرفين يالوم، قد أخذ بنصيحة نابكوف، وترك لخياله العنان ليختلق شخصيات وأحداث تسهم في توضيح العوالم الداخلية لبطلي روايته.

يقول إرفين يالوم :”ظللت ملتصقًا قدر الإمكان بالأحداث التاريخية، واعتمدت كثيرًا على خلفيتي المهنية كطبيب نفساني لأتخيل العوالم الداخلية لأبطالي: سبينوزا وروزنبرغ، وقد اختلقت شخصيتيّ فرانكو وبفستر، ليكونا بمثابة مدخل إلى نفسية أبطالي، وبالطبع، فإن جميع المشاهد التي ظهرا فيها، خيالية.”

فهل نحن أمام رواية فلسفية أم كتاب فلسفي؟

كتاب فلسفي أم رواية فلسفية؟

يجد الكثيرون صعوبة في فهم الكتب الفلسفية، التي تطرح الأفكار الفلسفية التجريدية بأسلوب جاف.

بينما يعمد البعض إلى استقاء معارفهم الفلسفية الأولى من روايات أدبية فلسفية، فهي توفر لهم فرصة الإطلاع على الأفكار الفلسفية المجرّدة ضمن سياق حالة إنسانية، فيها من الانفعالات والمشاعر والخيال، ما يسمح للقارئ بالتفاعل معها. ويخفف من ثقل الأفكار المجردة. هنا يحق لنا أن نسأل:

هل كان هدف الكاتب الكشف الموضوعي عن أفكار أبطاله (سبينوزا، ورزنبيرغ) بشكل حيادي؟

لكن قبل أن نجيب عن هذا السؤال دعونا نعود مرة أخرى إلى عنوان روايته السابقة (عندما بكى نيتشه) إذ يصطدم العنوان بجوهر فلسفة نيتشه المنادية بسمو الانسان المتفوق أو الأعلى “Übermensch” ، يبدو جليًّا في الرواية نقد لبعض جوانب فلسفة نيتشه من خلال محادثاته مع الدكتور جوزيف بريور، والأمر ذاته نجده في روايته ( علاج شوبنهاور) إذ تعرض آراء شوبنهاور التي ينادي بها بطل الرواية ( فيليب) لمبضع التشريح النقدي الفلسفي والفكري خلال جلسات العلاج الجماعي التي أدارها الدكتور جوليوس.

يعمد الدكتور إرفين يالوم في رواياته إلى طرح أفكار الفلاسفة ومناقشتها ونقدها منطلقاً من منظور التحليل النفسي حينًا، وحينًا آخر نجد نقد هذه الأفكار الفلسفية ينطلق من فهم معاصر للإنسان والدين والنفس، لم يكن شائعًا حين ظهرت تلك الفلسفات.

بيد أن هذا النقد الذي يتجلى خلال حوارات الشخصيات، قد يفقد الرواية لمستها الأدبية في بعض الأحيان، ويتحول النص لمحاضرة فلسفية جامدة، حتى يغدو الأمر كأننا نقرأ نصًا تعليميًّا، كما في محاورة فرانكو مع سبينوزا حول (أتاركسيا) و(حجة التناظر) في صفحة ٣١٩ من الرواية حين يقول :

“ولدى أبيقور حجة أخرى، تدعى حجة التناظر. التي قد تكون أقوى، تفترض أنّ حالة عدم الكينونة بعد الموت تتطابق مع حالة عدم الكينونة قبل الولادة. وبالرغم من أننا نخاف الموت، فإننا نجزع منه عندما نفكّر أننا مررنا بمثل تلك الحالة المشابهة..”

فما الذي يحمي الرواية من الوقوع في مصيدة التحول إلى كتاب أكاديمي أو فلسفي؟

إنه الخيال، هو من يبني سورًا حول حدود العمل الروائي، ليحميه من الخروج من نطاق الأدب. في الكتب الفلسفية لا مجال للعواطف لتنطلق من عقالها.

المجد للعقل والعقل وحده، فهو الصوت الذي نسمع به تلك الأفكار المجردة، بينما في الرواية الفلسفية والتأملية؛ يموج قلب القارئ بعواطف شتّى جرّاء مناقشة تلك الأفكار، هل جربت القراءة لكونديرا؟ سيّد الروايات التأملية الفلسفية، الذي يجمع أسلوبه ما بين المقالة الفلسفية والنص الأدبي، دون أن تمور عاصفة هوجاء في قلبك ما بين التعاطف مع تيريزا أو النقمة على توماس في روايته الشهيرة (كائن لا تحتمل خفته) مثلًا؟

هل تستوجب الروايات الفلسفية لإرفين د يالوم معرفة مسبقة بفلسفة نيتشه أو شوبنهاور أو سبينوزا حتى يفهم القارئ الرواية أو يتفاعل مع مجرياتها؟

في الروايات الفلسفية كل ما تحتاج إلى معرفته عن أفكار فيلسوف ما، سيتكفل الكاتب بالحديث عنه وتوضيحه من زاوية رؤيته للفلسفة التي يتحدث عنها.

أي أننا سنرى نيتشه بعيون الكاتب يالوم، وسنفهم فلسفة سبينوزا من منظور المؤلف، حتى وإن كانت النصوص التي يوردها للفلاسفة منقولة نقلًا حرفيًّا من كتبهم، كما في روايته هذه نجد نقلًا لأقوال سبينوزا من كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) وكتابه (الأخلاق) إلا أنّ انتقاء نصوص معينة للفيلسوف دون غيرها، يعكس الزاوية التي يراها يالوم للفيلسوف.

الروايات الفلسفية ليست أبدًا خيارًا مناسبًا لتناول قراءتها بعد نهار يوم شاق، وليست من الروايات التي تتسارع فيها الأحداث بوتيرة أفلام المطاردات الأمريكية لترفع منسوب الأدرينالين في الجسم .

فهي تحتاج إلى ذهن صاف لهضم مادتها الفكرية وتأمل ومساءلة للعديد من الأفكار التي تطرحها.

هذه الأمور تحدد طبيعة جمهورها القرائي، والبعض يرى فيها روايات نخبوية متخصصة، لكن مع الانتشار الواسع لرواية عالم صوفي، وتحويل عدد من الروايات الفلسفية إلى أفلام مثل رواية : كائن لا تحتمل خفته، وعندما بكى نيتشه، فإن الحديث عن نخبويتها المتعالية قد يكون موضع شك.

ومع ذلك سيظهر من يشكك في قدرة الأفلام على الوفاء لروح الرواية وفلسفتها. وهذه نقطة أخرى تحتاج لمقالة مفصلة .

ماذا عن فلسفة سبينوزا التي تناولها يالوم في الرواية التي بين أيدينا (مشكلة سبينوزا) ؟

 

إن كان سقراط قد دفع حياته ثمنًا لمخالفته الآراء السائدة في عصره، فإن سبينوزا قد دفع ثمن تمسكه بآرائه الفلسفية والدينية، فطاله قرار (الحرم اليهودي) حتى مماته. فلم يتعامل مع يهودي مدة عشرين عامًا، بما في ذلك أخيه وأخته!

مشكلة سبينوزا
لوحة سبينوزا والحاخامات

تصور لوحة «سبينوزا والحاخامات» (1907)، للفنان البولندي «صموئيل هيرشنبيرج» الفيلسوف الهولنديّ اليهودي باروخ سبينوزا وهو مُستغرقًا في قراءة كتاب في طريق مرصوفٍ بالحصى. بعد أن صدر بحقه حُكم النبذ والطرد الذي أنزله الحاخامات بسبينوزا، والذي جاء فيه: “لقد قررنا إقصاء وطرد ولعن واحتقار المسمى “باروخ سبينوزا”، فلتنزل عليه اللعنة في نومه وصحوه، وأثناء دخوله وخروجه، وليحرمه الله من عفوه إلى الأبد، وليصب عليه جام غضبه ويسومه ألوان العذاب المذكورة في الكتاب؛ وليمحى اسمه من العالم”. ولكي يكتمل الحكم، أردفوا العقاب الإلهي بعقاب إنساني مقتضاه: “لا أحد يقدم له المساعدة، ولا أحد يقترب منه بأقل من أربعة أدرع، ولا أحد يقتسم معه نفس السقف، ولا أحد يقرأ له كتاباته”.

تُظهر اللوحة كيف يمتثل الحاخامات لحكم النبذ و يرتدون في الخلفيّة مروَّعين من سبينوزا وكأنّه يمسكُ سلاحًا، فيما يهمُ أحدُ الحاخامات بإلتقاط بعض الحصى ليقذف به سبينوزا الذي كانَ يتبنى منهجًا فلسفيًّا مناهضًا للتقاليدِ اليهوديّة القديمة.

تستعرض الرواية أهم الأفكار التي طرحها سبينوزا في فلسفته و التي أدت إلى حلول لعنة النبذ على حياته. وإلى أن يستبدل اسمه، فبعد أن كان ينادى باسمه العبري ( باروخ) والتي تعني المبارك ، أصبح ينادى باسمه اللاتيني ( بينيديكتوس سبينوزا) بينتو.

فما الذي جرّ عليه تلك اللعنة حتى يحيا كشجرة مقتلعة من جذورها ؟

فهل تستحق هذه الأفكار هذا الثمن الباهظ؟

علاقة العقل بالإيمان

تبدأ مشاكل باروخ سبينوزا في الرواية حين يزوره يعقوب و فرانكو ، ويشكو له يعقوب من الأفكار الإلحادية التي بدأ يرددها فرانكو بعد أن شهد إعدام والده اليهودي حرقا من قبل محاكم التفتيش في البرتغال، و كيف بدأت شكوك فرانكو العقيدية تحوم حول معتقداته اليهودية، إذ كيف يمكن أن يتخلى الله عن شعبه المختار في محنتهم، ويترك لمحاكم التفتيش أن تسومهم سوءالعذاب بسبب تمسكهم بديانتهم و تقاليدهم اليهودية، و كيف اضطر بعضهم إلى اعتناق المسيحية ظاهريًا ، أو الهجرة من البرتغال إلى أرض التسامح الديني في ذاك العصر ( هولندا).

لم تكن تلك الزيارة سوى فخ فكري للإيقاع بسبينوزا ، واتهامه بالهرطقة انتقامًا منه بسبب خلاف مالي بينه و بين دويرت رودريغز الجشع.

وهذا ما تحقق حين صدر حكم الحرم (النبذ) بعد أن أصرّ سبينوزا أمام الحاخام مورتيرا على أفكاره الفلسفية فيما يخص اللاهوت.

إن كان (ديكارت) الأب الروحي للمنهج الفلسفي العقلي قد أخرج اللاهوت من منطقه العقلي فقال :

” إني احترم لاهوتنا، وأدعي أكثر من أي شخص آخر بأني سأنتقل إلى السماء، ولكن بعد أن عرفت معرفة يقينية بأن الطريق مفتوح أمام الجاهلين والعلماء على السواء وأن حقائق الوحي التي تقود إليه أعلى من عقلنا . لم أجرؤ على اخضاعها لضعف استدلالاتنا . أشرع في فحصها بنجاح ، رأيت أنني في حاجة إلى معونة خارقة من السماء ، وإلى أن أكون أكثر من انسان .”

لكن سبينوزا أخضع مسائل اللاهوت لأحكام العقل و منطقه يقول سبينوزا

“لذلك عقدت العزم على أن أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة ، وألا أثبت شيئاً من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه ، وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة .”

لقد سبق سبينوزا عصره في تناول النصوص الدينية بالنقد العقلاني ، تمظهر ت أولى انتقاداته في الرواية حين صرّح لفرانكو بقوله:

” جذور المشكلة تكمن في الاعتقاد أن الله كائن يفكر مثلنا.. إن الله لم يجعلنا على صورته. بل نحن الذين جعلناه على صورتنا . إننا نتخيل أنه كائن مثلنا..”

وترددت أصداء مثاله العقلاني المشهور، أن المثلثات لو أرادت أن تتخيل الإله لتخليته على شكل مثلث، أي وفق الصورة التي هي عليها.

تكمن أهمية فلسفته هذه في تصوير الإله مفارق في طبيعته عن جوهر البشر، فهو أزلي لا متناهي، لا يفكر مثلهم، إله بلا انفعالات ولا عواطف .فلا يحب شعبًا أو جنسًا دون غيره. وهذا يصطدم مع مقولة :” شعب الله المختار”. التي يرددها أبناء طائفته، فلا مكان لها في فلسفة سبينوزا، وهذه الفكرة جرّت عليه الويلات.

هنا تتقاطع فكرة ( النخبوية) بسبب الدين مع فكرة ( النخبوية ) بسبب العرق .

فسبينوزا قد نفى النخبوية الدينية، بينما تكمن فلسفة روزنبرغ النازية في المناداة بنخبوية العرق الآري.

فكرة سبينوزا حول نفي نخبوية الشعب اليهودي قد أدت إلى نفيه من قبل أبناء طائفته، أي قد مورس بحقه أبشع أنواع العذاب النفسي.

بينما أدت نظرية تفوق الجنس الآري إلى عملية نفي وجودي بمعناه الحرفي بشكل مؤسساتي منظم ضد اليهود في أوروبا.

هنا تتجلى خطورة فكرة الاعتقاد ( بالنخبوية) تحت أي مظلة جاءت. سواء دينية ، أو أيديولوجية، أو عرقية. لأنها تحمل بذور التعصب و الكراهية و نفي الآخر، أو النظرة له بمرتبة دونية، تنتزع منه إنسانيته.

الخرافة والإرادة الحرة و الشبكة المسببية

” الخوف هو سبب وجود الخرافة”.

تقترن فكرة الخرافة و الإحالة إلى عالم الماورائيات عند سبينوزا بجهل الإنسان.

” أعتقد أننا كلما استطعنا أن نعرف أكثر، أصبحت الأشياء التي ننسبها إلى الله أقل.”

فكلما أزداد جهل العامة بطرق عمل الطبيعة أزداد عدد المعجزات .

حينها تزيد مخاوف الإنسان وتظهر الخرافات، وينتفي التفكير بالشبكة المسببية التي وصفها سبينوزا، فلا شيء يحدث عرضيًّا. بل كل شيء هو نتيجة شيء يسبقه، وكلما فهمنا هذه الشبكة المسببية أكثر ازددنا تحررًا من الخرافة و الخوف، ويدفع الإنسان للتفكير بالأسباب المنطقية، وفق قوانين كون منظم تسييره قوانين يمكن التنبؤ بها، مستمدة رياضيًّا، عالم ذو قوة تعليلية لا نهائية.

على ضوء هذه الفلسفة ينفي سبينوزا الافتراض أن يمتلك أي كيان في الطبيعة إرادة حرة، فكل ما نفعله تقرره أسباب خارجية وداخلية.

وهذا ما يتعارض مع فلسفة الإرادة المطلقة عند نيتشه. التي تنادي بإمتلاك الانسان إرادة حرة تمكنه ليصبح إنسانًا متفوقًا، متغافلة عن دور العوامل البيئية و الوراثية في تحديد مصيره .

هذه النقطة تحديدًا يغفل عنها روزنبرغ، الذي لم يفكر بالشبكة المسببية، وعلّق هزيمة الألمان على مشجب العرق اليهودي، وتعلّق بخرافة تفوق العرق الآري وبكتابات تشامبرلين العنصرية، وآمن بالإرادة الحرة المطلقة للنهوض بالأمة الألمانية،متجاهلا الظروف التاريخية المحيطة.

مفاتيح الحقيقة

بالعودة إلى أفكار سبينوزا نجده يؤسس لمنهج دراسة النصوص الدينية ضمن السياق التاريخي

“لا يمكن أخذ كلمات التوراة حرفيًّا ، وإنما يجب فهمها من خلال سياق ذلك الزمن.”

ويقصد بالسياق ، اللغة و الأحداث التاريخية التي جرت في ذلك الزمان، فلا يمكننا أن نفهم التوراة بلغة اليوم، يجب أن نقرأها بمعرفة ودلالات لغة الزمن الذي كتبت و جمعت في أثنائه.

هذا المنهج يستوجب إجادة اللغة العبرية، وفهم التوراة بروح جديدة من غير قيود كما يقول :

“ونفهم الكلمات ذاتها من التوراة ، لا كما يقول لنا بعض الأخبار ماذا تعني، ولا استعارات و مجازات متخيلة يدّعي الأحبار أنهم يرونها ولا يراها غيرهم، ولا أنها تنطوي على رسائل سرية كما يراها الكباليون في أشكال و كلمات و قيم أحرف عددية .”

فهو يريد أن يعود إلى قراءة التوراة فعلًا، لا ما يقوله مفسرو التوراة. ما يعني سحب بساط حصرية التاؤيل من تحت أقدام رجال الدين، وهذا الأمر يشكل تهديدًا وفق ما رأى رجال الدين في عصره- وحتى في أيامنا- لمكانتهم كسدنة وحراس للحقيقة.

لذا حاربت المؤسسة الكهنوتية منهج سبينوزا لما فيه من تهديد لمصالحها.

أثارت هذه الفلسفة جدلًا واسعًا ، وما زالت تثيره، حول تاريخية النصوص الدينية، وهل يصحّ تطبيقها عند دراسة أديان أخرى؟

هذه المسألة الشائكة قد دفع البعض أرواحهم ثمنًا لتبني نهجها الفكري، واغتالتهم أيدي التطرّف، أو نادت بمعادتهم.

تجدر الإشارة إلى أن كتابات المفكر محمد أركون قد عالجت فكرة تاريخية النصوص الدينية الإسلامية.

علمانية الدولة

عبر تاريخ الإنسانية ارتبط الدين بالسياسة، واستمد الوجود السياسي مشروعيته بمباركة رجال الدين.

لكن سبينوزا يتطرق في كتابه ( رسالة في اللاهوت و السياسة) إلى شكل العلاقة المفترضة بينهما، وقد سبقت آراؤه عصره في هذا المضمار.

فهو يصرّح بشكل واضح عن ضرورة فصل الدين عن السياسة، يقول :

” أظن أن رجال الدين يفقدون توجيههم الروحي عندما يتدخلون في الشؤون السياسية للدولة ، فسلطتك أو تقديمك للمشورة يجب أن ينحصر في إسداء النصح حول التقوى من الداخل.”

ويطرح سبينوزا الديمقراطية كخيار بديل عن سلطة الدين، تستند على فكرة اختيار زعيم منتخب، تحدد سلطته من قبل مجلس منتخب بشكل مستقل، يسعى لخير المواطنين عامة دون أن يخص بذلك أصحاب معتقد ديني دون آخر برعايته.

يندد سبينوزا بالآلية التي يحكم بها رجال الدين الشعب، فهي تستند على التحكم بالناس من خلال الخوف والأمل، الخوف من العقاب الآخروي بما سيحدث إن عارضهم الشعب، وبث الأمل في نفوس الرعية بأن لهم الآخرة إن عاشوا وفق سلطتهم .

قد يرى البعض في تجربة حكم بعض الأحزاب الدينية مثالًا حيًّا لتوصيفات سبينوزا، لكن هل غررت الأحزاب الأيديولوجية و السياسية الأخرى بشعوبها ، حين أدّعت أنها تملك مفاتيح الخلاص الاقتصادي لشعوبها؟

ماذا عن نازية روزنبرغ التي روّجت لفكرة خلاص الألمان من شقائهم إن هم تخلصوا من اليهود؟

عبودية العواطف

“لا يمكن فهم الانفعالات الإنسانية إلا بمثابة خطوط ومسطحات وأجسام “

فالعاطفة عند سبينوزا تتوقف عن كونها عاطفة، ما أن نشكل فكرة أوضح عنها، أي التفكير بالرابطة المسببية التي تنطوي عليها العاطفة.

تحت باب عبودية الإنسان كتب سبينوزا في كتابه (الأخلاق ) يقول :

“عندما يكون الإنسان فريسة لانفعالاته لا يكون سيّد نفسه، بل يخضع لسلطان القدر ” .

لكن هل حقًّا علينا أن نُخضِع جميع المشاعر للتفكير المنطقي؟ أليست هناك مشاعر مساوية للعقل، كما توجه فرانكو بالسؤال لسبينوزا؟

هل يمكن أن نحرر أنفسنا من الانفعالات والعواطف بأن نجعل العقل هو العاطفة؟

لكن الكاتب يالوم و رغم قلة المصادر التي تروي عن الحياة النفسية لاسبينوزا، قد سمح لنفسه؛ بحكم عمله كطبيب نفساني؛ أن يقوّض أركان فكرة سبينوزا هذه من خلال تصوير انفعالاته النفسية، والحنين الذي استبد به لأبناء طائفته. فهناك عواطف لا يمكن عقلنتها، وقد تكون مساوية للعقل، مثل الحنين إلى الماضي مثلًا.

بالعودة إلى مسار حياة روزنبرغ يعزو يالوم على لسان الدكتور فيتشر الأسباب التي أدت إلى التطرّف الفكري عند روزنبرغ، رادًّا ذلك إلى الجفاف العاطفي الذي كان يحياه، فقد خلت حياته من الحب الأمومي، ومن الصداقات، بل وحتى لم يحظ بعلاقات اجتماعية مبنية على المحبة والثقة بين باقي أعضاء حزبه النازي.

الإشباع العاطفي ليس أمرًا ترفيًّا ، بل هو ما يحقق للإنسان التوازن الروحي و النفسي في حياته.

(تقدير الذات الفارغ)

يقول أوسكار وايلد :

” الخير هو انسجام الإنسان مع نفسه، و الفوضى هي اضطرار الإنسان للانسجام مع الغير”.

في مسيرة حياة سبينوزا كما عرضتها الرواية، يفضلّ سبينوزا الإقرار بأفكاره الفلسفية، ويتحمل تبعات قراره، ويرفض أن يحيا بتناقض بين ما يُؤْمِن به فعليًّا، وبين ما عليه الإقرار به ليحظى بقبول طائفته.

ماذا لو لم يتمسك سبينوزا وسقراط بآرائهم في سبيل إرضاء الآخرين ، هل كان سيكتب لهم و لفلسفتهم الخلود؟ قطعًا لا.

كان سبينوزا يرى أن سعي الإنسان الحثيث لإرضاء الآخرين يفقده جوهره.

” إذا كان تقديرك لذاتك يستند إلى حب الآخرين، فإنك ستكون في حالة قلق دائم لإن هذا الحب متقلب وغير ثابت، وهو ما يشير إلى ذلك بتقدير الذات الفارغ.”

بالعودة إلى روزنبرغ، الذي عانى من عقدة شعور بالدونية و النقص، وانتفض غاضبًا على ما كان يروّج له أخوه بأن أحد أجدادهم من اليهود، فإننا نجده قد ترجم هذا الشعور بالدونية و طوّره إلى عقدة الشعور بالعظمة، التي هي بكل بساطة الوجه الآخر من العملة نفسها، حسب توصيف الطبيب النفسي ألفرد أدلر.

في مقابل ذلك، لا يمكننا أن نضرب بعرض الحائط قوة تأثير آراء الآخرين علينا، وهنا تكمن عبقرية الإنسان و ذكائه الاجتماعي في التعامل مع آراء الآخرين .

” فالرجل الشجاع يجبر نفسه على قراءة الأشياء المؤلمة كل يوم حتى لا تعود مؤذية.”

تمضي الرواية في رحلة كشفها عن مكنونات النفس، فتتناول سؤال الهوية، و ما الشيء الجوهري الذي يجعلها على ما هي عليه؟ و ما الذي يجعلها هذا الشخص و ليس شخصًا آخرًا؟ وما الكينونة؟ ما هو دور الماضي و اللاوعي في تشكيل الشخصية، وعلاقة الأنا بمحيطها؟

قد تتشابه الظروف نفسها، لكن يبقى أثرها مختلفًا على كل شخصية، فعزلة سبينوزا قد أتاحت له التفكير في فلسفة ساهمت في تقدّم البشرية، بينما عزلة روزنبرغ النفسية قد قادته إلى التنظير لأكثر الأيديولوجيات دموية عبر التاريخ.

ختامًا، قبل أيام راسلتني إحدى الصديقات تشاركني مخاوفها من قراءة الأعمال الفلسفية حتى وإن كانت أدبية. وهذه المخاوف كثيرًا ما أسمعها. إن كانت رواية ستزعزع إيمان القارئ فعليه أن يراجع إيمانه أولًا. ويثبت أركان إيمانه في قلبه، وهذا لا يكون إلا بالتفكر و البحث و القراءة .

فما فائدة كتاب يقودنا إلى كتب أخرى؟

الروايات الفلسفية رحلة في مساءلة القناعات و المسلّمات التي أعتدنا على ترديدها .

يقول اينشتاين :” إن سرّ الإبداع هو أن تعرف كيف تخفي مصادرك.”

ومع أن الكاتب إرفين د يالوم لم يخفِ مصادره، ورحلة كتابته للرواية، إلا أن عبقريته تحلّت في الخروج بهذه التحفة الأدبية بثوبها الفكري.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: رائدة نيروخ

تدقيق لغوي: دعاء أبو عصبة

تحرير/تنسيق: دعاء أبو عصبة

الصورة: خالد عبّود

اترك تعليقا