الدخول في عالم صوفي وهل أستطيع الخروج؟

عن رواية عالم صوفي للكاتب غوستان غاردر

عالم صوفي: عمل عظيم سواء أطلقنا عليه كتاب فلسفي أو رواية، ويعتبر من مقدمة أهم وأفضل ما قرأت في الفلسفة أو الأدب حتى الآن، يكتسب أهميته من الموضوع والمشروع المعرفي الموجود بداخله والأفضلية من حيث البراعة في التعبير عن هذه المعرفة والأفكار في شكل بسيط ومثير للدَّهشة. 

تدور الرواية عن حياة طفلة تدعى “صوفي” -ويمكن أن يشير هذا الاسم لعلاقة الأحداث كلها بالفلسفة، حيث أنَّ الكلمة المُشتقة من اللفظ اليوناني “فيلوصوفيا” هي حب الحكمة- وتبدأ الأحداث حينما تتلقى صوفي رسالة في صندوق البريد محتواها “من أنتِ؟” ولا تجد صوفي أي إشارة للمُرسِل، ثم تتوالى الرسائل التي تجعلها تكاد تشت من التفكير “من أين جاء العالم؟” وبالتوازي تتلقى رسائل مجهولة أخرى من أب لابنته “هيلد” في عيد ميلادها الذي هو نفس موعد عيد ميلاد صوفي ويقول فيها أنها مرسلة عن طريق الأخيرة.

تبدأ الفصول من “القبعة العالية” والتي يبدأ المعلم الذي يوضح تدريجيًا أن رسائله غرضها دروس في الفلسفة وهو ما يزال مجهول يقول “إن الميزة الوحيدة اللازمة لكي يصبح الإنسان فيلسوفًا جيدًا هي قدرته على الدهشة” وتبدأ الرسائل تأثيرها بتفاعل صوفي معها من حيث التفكير ورؤيتها لأمها التي رأت أنها كما يقول المعلم قد اعتادت على العالم ولا تندهش، وتتعمق الرسائل في عرض تاريخ الفلسفة أو التفكير منذ قبل الميلاد وهذا ما جعل المؤلف يضع في مقدمة الرواية مقولة غوته

“الذى لا يعرف أن يتعلم دروس الثلاث آلاف سنة الأخيرة، يبقى فى العتمة”

فهو باختصار يحاول أن يعطينا كبسولات لهذه الدروس بداية من (الأساطير، فلاسفة الطبيعة) والذين كانوا يبحثون في سؤالين أساسيين: “ما هو أصل العالم” و”هل هناك خلود؟” مرورًا بتأثير ظهور العلم وتفسير القدر، ثم فلاسفة ما بعد الطبيعة (سقراط، السفسطائيين، أفلاطون، أرسطو) وتتنوع طرق هذا المعلم حيث يرسل لها ظرف صغير به السؤال وظرف كبير به كلام عن الحقبة أو الفيلسوف الأهم الذي طرح هذا السؤال، ويرسل لها في الحديث عن سقراط وأفلاطون شريط فيديو يظهر فيه المعلم وشخصية سقراط وأفلاطون! وتبدأ صوفي بالرد عليه.

“إن الفلسفة ليست شيئًا يمكن تعلمه، وإنما يمكن تعلم التفكير بطريقة فلسفية”

ويستمر تأثير هذه الرسائل على صوفي، حيث تطبق ترتيب أرسطو للوجود في ترتيب غرفتها كل شيء حسب نوعه، وتحل في اختبار الدين في المدرسة بما تعلمته في دروس الفلسفة وما أوصلها له تفكيرها، وتتوازى الأحداث من حيث المعنى فيما تمر به صوفي في حياتها خارج الرسائل، مثلما جاء إختبار الدين موازيًا لطرح (الفلسفة الهيلينية) التي بدأ الاهتمام فيها بالأسئلة الأخلاقية ومزج الديانات والتي وجدتها ما يوازيها في الاختبار، ومرورًا بـ (الكلبيون، الرواقيون، الأبيقوريون، والأفلاطونيون الجدد، والهندو أوربيون) وقد يشتركوا بعضهم البعض في عدة نقاط ويتعارضوا في بعضها منها بشكل عام الإيمان بوحدة الوجود عند الأفلاطونيون الجدد والهندو أوربيون، أو التعارض في الإيمان بالزهد في المعيشة لدى الكلبيون والبحث عن المتعة لدى الأبيقوريون.

إعلان

ثم ينتقل لاستعراض سريع للديانات الثلاثة (اليهودية، المسيحية، الإسلام) وما يطلق عليهم اسم الساميون لقوله أنه لأساسهم السامي المشترك ويتشركون في عدة نقاط أساسية هي: الإيمان بإله واحد، ويوم الحساب الأخير، الاعتماد على سماع كلام الله. والإيمان بقصة خلق آدم، وأرى أن هذا الفصل كان مختصرًا اختصار مخل، ينتقل بعدها إلى القرون الوسطى وتطور الأحداث عند اتصال “ألبرتو كونكس” بصوفي لدعوتها للمقابلة في كنيسة يستعرض لها تاريخ تلك الحقبة فيها في عدة ساعات فيقول: “يمكننا أن ننطلق من مبدأ أن يسوع ولد في منتصف الليل، وأن بولس بدأ يبشر قبل الثانية عشر والنصف ومات في روما بعد ذلك بربع ساعة، في نحو الساعة الثالثة كانت الكنيسة المسحية محظورة، لكن لم تلبث أن نالت اعتراف الإمبراطورية الرومانية في العام 313م في عهد الإمبراطور قسطنطين، الذي تعمد على سرير الموت بعد سنوات، ومنذ العام 380م أصبحت المسيحية دين الإمبراطورية الرسمي” ويحكي عن ظهور الثقافة الإسلامية (632م) ووفاة النبي محمد ولعب العرب دور مهيمن على العلوم المختلفة، ثم فلسفة القرون الوسطى التي كانت تركز أغلبها في سؤال “هل هناك تعارض بين الإنجيل والعقل؟” وأهم فلاسفة تلك الحقبة (الفيلسوف أغوسطينوس، القديس توما الأكويني) وبشكل ما كانوا مشتركين في محاولة التوفيق بين المسيحية والفلسفة.

مع دخول عصر النهضة، تنفصل الفلسفة والعلوم عن اللاهوت الكنسي، وتنطلق الفلسفة من مركزية الإنسان على عكس القرون الوسطى التي انتقلت من ضوء الله، ويمكن الإشارة إلى اختراع (البوصلة، البارود، المطبعة) كرموز لتطور المعرفة في هذه المرحلة “أيها الجنس الإلهي المتنكر إنسانًا، أعرف نفسك” يبدأ المايجور والد “هيلد” في رسائله بربط ما يحدث لها من دروس الفلسفة بحالته في الحرب، لأن الفلسفة هي دعوة للخلاص من الحرب، ومع دخول (عصر الباروك) الذي تميز بالأشكال والآراء المتناقضة في الفن والفلسفة والعلم والسياسة، والذي كان أهم فلاسفته هم “ديكارت” و”سبينوزا” العقلانيين ثم نقدهم من خلال “لوك” و”هيوم” التجريبين ثم “بيركلي” الذي لا يؤمن بالعالم المادي.

يتحول مسار الحكي إلى شخصية هيلد بشكل مباشر في عيد ميلادها، وإرسال والدها المايجور لهدية عيد ميلادها التي هي كتاب “عالم صوفي” تبدأ في قراءة كل الفصول السابقة وهي مندهشة، ويتوازي هذا مع دخول (عصر التنوير) والذي قد يرمز في لهذا التنوير الحادث في الرواية لدى الشخصيات، ويبدأ ألبرتو وصوفي في الشك في أنهم ليسوا إلا نتاج خيال المايجور والتفكير في محاولة الإفلات، وللتأكيد أنه هذا التطور في الخطوط الدرامية الإثنان للأحداث والصراع هو ما خلق حالة من الإثارة التي كسرت الملل من المحتوى المعرفي فقط والحبكة التي تطرح فكرة فلسفية أشمل، سوف أتحدث عنها أكثر في نهاية العرض، وبالعودة لعصر التنوير فإن من أهم سماته (التمرد على السلطة، العقلانية، فكر عصور التنوير، التفاؤل الثقافي، العودة إلى الطبيعة، الديانة الطبيعة، حقوق الإنسان.) وأهم فلاسفة هذا العصر هم “كانط” الذي أسس (قانون الواجب الأخلاقي)، والمدرسة “الرومانسية” التي جاءت كثورة على الفلسفة الصارمة للعقل التي كانت متمثلة بقوة عند كانت، وقد أثرى هذه الحركة الفيلسوف “هيغل” الذي كان يعتقد بذاتية الحقيقة.

مع دخول فصل “كيركيغارد” تبدأ هيلد في التفكير في التمرد على أبيها، تتجلى بوضوح فلسفة كيركيغارد عند الانتقال لصوفي عندما تشرب سائل سحري أرسله المايجور جعلها تشعر أن كل ما حولها واحد وهو فلسفة الكلية، ثم السائل الذي يجعلها تشعر بفردية الأشياء والتجربتين معا يوضحون فكرة أن الحقيقة مركبة من السائلين، وتستمر هذه الأمثلة عند الإنتقال لـ “ماركس” حيث تقابل رجل ثري وفتاة فقيرة، ثم عند الإنتقال لـ “داروين” يأتي لهم نوح بلوح عليه صورة الحيوانات المنقذة من الطوفان وسلالتها، ثم عند الانتقال لـ “فرويد” يأتيهم رجل عاري يحمل تاج، والثلاثة الأخارى هما من يمثلان هذا التيار الطبيعي الذي كانت كلماتهم المصطلح عليها: البيئة، التاريخ، النشوء، النمو. أشار ماركس إلى أن الأيدلوجيات الإنسانية هي نتاج الظروف المادية للمجتمع، وأوضح داروين أن الجنس البشري هو ارتقاء بيولجي بطيء، وكشفت دراسات فرويد عن اللاوعي أن تحركات الناس وتصرفاتهم في معظمها تنتج عن دوافع أو غرائز حيوانية.

بالدخول للحقبة المعاصرة تشعر هيلد بهذا التأثير من فصل فرويد، فتحاول مراقبة أفكارها اللاواعية، وعند النوم تستكمل حلم قد حلمته صوفي في الرواية، تظهر في هذه الحقبة المدرسة الوجودية والتي يمكن تلخيص فكرتها في قول (نيتشة) “كن وفيًا للأرض ولا تصغ لمن يعدك بحياة أفضل في العالم الآخر.” والذي جاء من بعده أهم الفلاسفة الوجوديين، والذي كان يقول بأن “الإنسان محكوم بأن يكون حرًا” ويستمر الحديث عن تطور البشرية المستمر لأن الأسئلة تزداد تعقيدًا، مما قد يؤدي إلى سير الحضارة في مسار الانحدار أو لجوء الناس للخرافة، ويمثل هذا المكتبة الضخمة التي زارها ألبرتو وصوفيا التي تحتوى على كتب مثل هذه الكتب الخرافية، وبعدها يخرج ألبرتو لصوفي من المكتبة كتاب “عالم صوفي”!

وفي حفلة الاستقبال في الهواء الطلق التي تقيمها صوفي للاحتفال بعيد ميلادها إعلان ألبرتو في حفلة عيد الميلاد على حقيقة أنهم ليسوا إلا شخصيات وهمية في خيال المايجور وعليه وعلى صوفي الهرب وبالفعل يفعلوا ذلك، وينتهي الورق عند هيلد ولكنها تحاول أن تقرأ بين السطور، حيث يدخل ألبرتو وصوفي في عالم المايجور الحقيقي، وتنتقل هيلد إلى التحكم في عالم والدها بإرسالها لجوابات له قبل أن يصل من السفر فلا تعرف من يتحكم في من حتى وصوله وحديثهم عن الكتاب! وبالفعل يذهب ألبرتو وصوفي إلى مكان المايجور وهيلد ويحاولون لفت نظرهم ولكن لأنهم غير مرئيين في هذا العالم فلا يؤثروا حتى تشعر هيلد بوجود ما بتذكرها لخطة المايجور الخفية للإفلات.. أثناء حديثها مع أبيها عن الإنفجار البدئي وتمدد الكون المستمر وكيف سيؤول ذلك، وأثناء حديثهم تنجح صوفي وألبرتو في تحريك القارب الخاص ببيت هيلد ويقوم المايجور للسباحة لاسترجاعه، فتقول له هيلد “فلنسبح معًا” في رمزية لاستكمال هذه الرحلة من السباحة في عالم صوفي والفلسفة، ومفارقة في أزمة الرواية الأكبر التي خلقت الصراع في مشكلة حرية الإرادة وهل وجودنا حقيقي ولنا التحكم به، ومن الجدير بالذكر أنه هذان العالمين ليسوا إلا من خيال مؤلف آخر ومن يعلم لعل هذا الأخير وأنا قارئ الرواية أيضًا من خيال مؤلف أكبر وأكبر!

الكلمة الأخيرة، ماذا لو كنت قرأت هذه الرواية وأنا في عمر صوفي؟ أعتقد أنني كنت سأكون شخصًا أفضل كثيرًا. 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: يحيى خليفة

تدقيق لغوي: مريم زهرا

الصورة: مريم

اترك تعليقا