مدرسة أثينا: قراءة في كتاب “الفلسفة من أجل الحياة” لجولز إيفانز

  1. مدرسة أثينا في لوحة

مدرسة أثينا أعظم أعمال الفنان الإيطالي العظيم رافائيل عام ١٥١١، وهي واحدة من أهمِّ اللوحاتِ الجدارية الأربعة على جدرانِ القصرِ الرسولي في الفاتيكان. ترمزُ اللوحات الأربع إلى الفلسفة، والشعر، واللاهوت، والقانون. وتمثّلُ مدرسة أثينا الجدارية الأشهر والأكثر جذبًا للإعجاب وهي عن الفلسفة. وترى فيها الفلاسفة ومعظمهم من اليونان بالإضافة إلى زرادشت وابن رشد وهيبتا المصرية مندمجون في نقاش حامي الوطيس حول جوانب الحياة. والحقيقة أن الفلسفة كما يراها القدماء لم تكن نشاطًا منعزلًا في أبراج عاجية، والفيلسوف لم يكن يسعى للابتعاد عن الحياة اليومية ولا يتسامى عن مشاكل الناس العاديين لأن الفلسفة تبحث في جوهرها عن معنىً للحياة وتعين الإنسان على تلمّس طريقه فيها.

مدرسة أثينا في كتاب

تحت سحر هذه اللوحة الفاتنة تخيل جولز إيفانز الصحفي والباحث الإنجليزي بجامعة لندن في كتابه الجذاب “الفلسفة من أجل الحياة والمواقف الخطرة الأخرى” “Philosophy for Life and Other Dangerous Situations” أننا سنقضي يومًا دراسيًا في مدرسة الأحلام أو مدرسة أثينا التي في اللوحة، وتضم المدرسة 12 من أعظم الفلاسفة الذين عرفهم العالم، ويقوم كل واحد بتدريس منهجٍ دراسي يضم أسلوبًا حياتيًا يمكننا استخدامه لتغيير أنفسنا إلى الأفضل، وأورد إيفانز قصصًا عن أشخاص حقيقيين استخدموا هذه الأساليب بنجاح في زماننا الحاضر من المارينز إلى رواد الفضاء وحتى علماء النفس المتخصصين في تقنية العلاج المعرفي السلوكي.

عندما يأتي المساء أعود إلى منزلي، وعلى المدخل أنزع ملابس العمل المتربة والمعلقة برائحة العرق، وأرتدي ثياب القصور وأدخل قصور القدماء حيث يحتفون بشخصي أيما احتفاء، وهناك أتذوق وحدي الطعام الذي أعدوه لي خصيصًا، والذي لأجله أنا جئت إلى هذه الدنيا، وهناك أمتلك الجسارة للحديث إليهم، وسؤالهم عن دوافع الكثير من أعمالهم، فيجيبون على أسئلتي بشرٌ أحياء لا خيال، ولمدة أربع  ساعاتٍ أنسى العالم، ولا أتذكر شيئًا يهمني ولا أخشى فاقة أو عوز، ولا أرتعد ثانيًا من مقدم الموت. نيقولا ماكيافيلي

مدرسة الأحلام

قام إيفانز بتنظيم كتابه حول فكرة مدرسة الأحلام، فمع تسجيل الحضور والغياب للتلاميذ عقب “نداء الصباح” يتم تعريف الطلبة أو القراء بالتعاليم السقراطية حول أهمية الحوار وقيمة الحياة المنضبطة، ثم تبدأ رسميًا “جلسة الصباح” لتناقش أساليب المدرسة الرواقية لمساعدة الأفراد على تحمل مسؤولية عواطفهم وفي “فترة ما بعد الظهيرة” يأتي فصل الشكاكين والصوفية، وفي الحصة الثانية بعد الظهيرة يتم تدريس التفاعل المعقد بين القيم والمعتقدات الفردية والجماعية. ولا يستطيع إيفانز تفويت الفرصة للحديث عن “تذوق اللحظة” مع أبيقور على الغداء، ويختتم الفصل الدراسي بحفل تخرج بقيادة سقراط.

فصول المدرسة

في كل فصل من الفصول الاثني عشر في هذا الكتاب الجميل جمع إيفانز بين شخصية معاصرة وأحد الفلاسفة الإغريق أو الرومان لاستعراض فكر أو أسلوب فلسفي معين، وأغلب الشخصيات المعاصرة التي أتى بها المؤلف شخصيات مشهورة أو معروفة إلى حدٍ ما، في الفصل السادس على سبيل المثال نلتقي مع رائد الفضاء أبوللو 14 إدجار ميتشل، والفيلسوف هيراقليطيس للحديث عن “فن التأمل الكوني” وتجربة النشوة العميقة التي غمرت روحه وإحساسه بمدى الارتباط بين وعيه والطبيعة.

مدرسة أثينا وعلم النفس المعاصر

يرجع السبب الأكبر الذي دفع المؤلف إلى كتابة هذا الكتاب هو أن الفلسفة قد ساعدته في الخروج من أزمة نفسية أوشكت على تحطيم حياته في بداية العشرينيات من عمره، ومن ثم بات مفتونًا بكيف لا زالت هذه الأفكار التي اختُرعت منذ ما يزيد عن 2000 عام تنقذ حياة الناس اليوم، وشرع في رحلة استغرقت خمس سنوات لاستكشاف كيف استخدم الناس من مختلف مشارب الأرض الفلسفة القديمة لمواجهة الأزمات والتغلب على الصعوبات وبناء حياة أفضل. وفي رحلته هذه أجرى المؤلف حوارًا مع مؤسسي مدرسة العلاج المعرفي السلوكي: الدكتور ألبرت أليس وآرون بيك. وعرف كيف استلهموا أفكارهم من الفلسفة القديمة ومن العلم.

إعلان

مدرسة العلاج المعرفي السلوكي

وأشار دكتور أليس إلى أن ما ألهمه بالتحديد عند طرحه أسلوب العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavioral therapy كان سطرًا قاله فيلسوف رواقي اسمه إبيكتيتوس؛ قال إبيكتيتوس: “ليست الأحداث ما يُقلق الرجال، إنما آراءهم عنها.“ وبناءً عليه طرح دكتور إيليس علاجه الشهير والمعروف باسم الـ (ABC)، حيث ترمز A لحدثٍ ما، وB ترمز لمعتقداتنا عن الحدث (طريقة تفسيرنا للحدث)، وC ترمز للانفعال الناتج (رد الفعل وما نشعر به من خلال تفسيرنا)، وتظهر لنا انفعالاتنا كأنها تحدث تلقائيًّا كرد فعل لحدثٍ ما، مثلًا لنقل أننا نمشي في الشارع ومررنا بشخصٍ متجهم ينظر في وجهنا دون سبب فنشعر على الفور بالاستياء، كأننا ننتقل من A إلى C مباشرةً، لكن عندما تفحص ذلك الحدث عن كثب (التجهم)، تجد أن ما حدث هو أنك فسرته على أن ذلك الشخص يعبس في وجهك باحتقار، وهذا التفسير هو ما أشعرك بالاستياء والسخط، وعندما ندرك أن تفسيراتنا تؤثر على انفعالاتنا فسنتمكن من تسليط الضوء عليها، فيمكننا اختيار تصوراتنا وتفسيراتنا على نحوٍ أكثر حكمة، وهذا سيؤثر بدوره على شعورنا.

الخلاصة

تعلمنا الفلسفة القديمة أن تفسيرنا للأحداث -وليس الحدث نفسه- هو سبب معاناتنا على الأغلب، فكل واحدٍ منا حبيس ذاته ومعذبها، إننا نتشبث بأفكارنا السلبية السامة حتى وإن آذتنا أو أهلكتنا، كيف نحرر أنفسنا إذًا من ذلك السجن الذي صنعته أيدينا؟ ينصحنا سقراط تعلّم كيفية استجواب أنفسنا، لا تفترض أن صوتك الداخلي صادق دائمًا، بل تعلم كيف تُشركه في حوارٍ عقلاني. تعالوا نتعلم من فيثاغورث كيفية استعادة الهدوء لحياتنا ولو للحظات. حيث أدرك فيثاغورث أن العديد من مخاوفنا وقلقنا يصبح أقل إتعابًا وإقلاقًا إذا نظرنا إليها من بعيد أو من منظور أشمل يضم بقية الناس معنا، وسوف نكتشف أننا مثلنا مثل الملايين من خلق الله فيما تعانيه، وأن عدم حصولنا على ترقية في العمل هذا العام لا يستحق كل حُرقة القلب التي شعرنا بها. من هذه النظرة من أعلى يمكننا أن نضع حياتنا في منظورها الحقيقي.

وختامًا، كتابٌ جميل لغةً ومضمونًا أوصي بقراءته، فهو سهلٌ على القارئ العادي غير الملمّ بالفلسفة وموضوعاتها، وإن بدا في بعض المقاطع كأحد كتب التنمية البشرية السطحية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا