تنويعات على مقامات الموت: رواية الأفق الأعلى

“إن الروح حين تكون تحت أنظار كثيفة، لا تكف عن النمو والتورم والتضخم لكي تطير في النهاية نحو الأعالي كمنطاد مضاء على نحو بديع”. (كونديرا Milan Kundera/ الخلود Immortality)

كثيرة هي الروايات التي سلطت الضوء على جريمة ما يسمى بزواج “القاصرات” في المجتمع العربي، لكن قلة هي الروايات التي تطرح فكرة تزويج الطفل الذكر القاصر في المجتمع العربي، إذ إن الصورة النمطية الشائعة رسخت في الأذهان أن حالات الزواج المبكر قبل السن القانونية (18 عاماً) تقتصر على الفتيات دون الذكور.

غلاف رواية الأفق الأعلى/فاطمة عبد الحميد/ دار مسكيلياني للنشر

في رواية “الأفق الأعلى” للكاتبة السعودية فاطمة عبدالحميد نجد أنفسنا أمام سليمان، الطفل الذي سُرقت طفولته منه بتزويجه في سن الثالثة عشرة من عمره، لامرأة في الثالثة والعشرين من عمرها.

طفل لم تمل قدماه بعد من ركل الكرة، واللعب مع أقرانه في الملعب، لم يحفل بنداء الرجولة الذي فرضته والدته عليه “ليفعل ما يفعله الرجال” مع نسائهن، هرب مراراً من غرفته، من أحضان تلك الشابة ذات الوحمة الجلدية التي تغطي وجهها، فتشوهها الجسدي كان الدافع وراء قبول هذا الزواج الذي يفتقر إلى كل مقومات التكافؤ، فليس للمرأة في نظر هذا المجتمع الذي يقيمها، حسب طول قامتها، ولون بشرتها، وتناسق ملامحها، أي فرصة للزواج، إن عازها شيء من الجمال.

سليمان يستعد لركل الكرة، ليسدد الهدف الذي سيجعل منه بطلاً في عين أقرانه، لعله بذلك يخفف من وطأة سخريتهم من أذنيه الخفاشيتين، أذنا وطواط، لكنه تجاهل سماع نداءات أمه،” افعل ما يفعله الرجال”، حينها جاءته لتخطفه من بين أقرانه، الذين يسخرون منه: “سليمان يحرد من بيت العرسان”، وتحبسه في غرفته ليقوم بواجب الزوجية الذي لا يفقه عنه شيئاً، وتبقى تلك الركلة معلقة في ملعب حياته، تنظر تسديدة منه إلى شباك المرمى.

ولأنني لم أخلق للتردد، أو الشك أو الاستئذان، لم أكن في حاجة إلى سماع كلمات من نوع “ليس الآن”.

على لسان الموت تسرد الكاتبة أحداث روايتها، بعبارات قاطعة تهكمية “لا حقيقة سواي”، إذ يسخر الموت وهو يشاهد البشر وهم منغمسون في مشاغلهم، بينما يترصد بهم، ويبسط إليهم كفه، مجهضاً أماني كنا نرى تحقيقها قاب قوسين أو أدنى، هادماً بمخاطبته القارئ مباشرة كل الحواجز النفسية التي يضعها المرء حين ينغمس في القراءة، ولا مجال هاهنا للاستعارات أو المواربة، يقول الموت قولته بما لا تحتمل من تأويل ويمضي ليتابع حصد الأرواح، فهو لا يخاف أحداً.

إعلان

تعيد الكاتبة تعريف الموت من خلال سرد سيرة حياة سليمان وأبنائه، ليصبح الموت في إحدى تمظهراته هو المعادل الموضوعي لفكرة سرقة الطفولة المبكرة وانتهاك حرمتها، رغبة من والدة سليمان التي ترملت بخلود نسلها.

يولد الموت في داخلنا تلك الرغبة الجامحة نحو ترك ما يدل على وجودنا في هذه الحياة، يسميه البعض أثراً، أو بحثاً عن الخلود، وقد تكون تلك المحاولات التي تشبه محاولات جلجامش Gilgamesh في البحث عن عشبة الخلود نوعاً من التعبير عن الرفض والغضب المكبوت ضد فكرة وجودنا المؤقت والعابر في هذه الحياة، يقول زيجمونت باومان: “الخلود ليس مجرد غياب للموت. إنه تحد للموت وإنكاره”.

وجود يمضي كلمح البصر، كسراب يخاله الظمآن ماء، ويظنه المرء حياة، لكن سرعان ما يتكشف له أن لحظة ولادته هي الخطوة الأولى له في مسيرته نحو الموت على حد توصيف هيدغر.

فأن تعيش الحياة معناه أن تقرّ بالنهاية الحتمية لوجودك، وهذا الإقرار يخالطه رعب الفناء، والشعور الدائم بصراع المرء مع الزمن، فالزمن هو نكبتنا الكبرى، وساعتنا الرملية تنسل حبيبات رملها أمام أعيننا، فلا يبقى ما يمكن تداركه أمام إدراكنا بأن التمرين الأول على الحياة هو الحياة نفسها، وبأننا نعيش في الأغلب خارج “حيز أنفسنا” لنكون صورة لما يريده المجتمع منا لا ما نحن عليه حقا. فكما يقول كونديرا في روايته “الخلود”: أن يحيا المرء معناه أن يحمل أناته المتألمة عبر العالم، فالألم هو الضريبة التي لابد من دفعها لقاء أن يكون المرء ما يريد”.

تنويعات على مقام الموت

أرى بمقياس بشري خالص، فرصاً كثيرة لحدوث الأخطاء في الكمال الزائد عن حده.

ليس صحيحاً أن تعدد الأسباب سيفضي حتماً إلى الموت الواحد، فللموت أوجه عدة تتجاوز في جوهرها انفصال الروح عن الجسد وبرودة الأعضاء، وتوقف الجسم عن القيام بالوظائف الحيوية.

كأن يموت المرء شوقاً واشتياقاً، أن يحن إلى من يحب بألف حنين، “وكل حنين يهز الضلوع”، أن يتجرع مرارة الوحدة، وعلقم الخذلان، أن يصاحب صفحة وجهه فلا يرى حوله من يؤنس غربة روحه، أو يروي ظمأ أيامه للرفقة، أن يعتاد سماع صوته في لجج الصمت المطبق من حوله، أن يموت المرء كمداً، حسرة، وشكاً، وخيبة حين لا يبقى شيء ينتظره أبداً في هذه الحياة، حين يفقد الدافع للنهوض من سريره، أو اتباع حمية غذائية ليرتدي “الفستان الأحمر”.

لعل أكثر ما يثيرني هو أن أرى شخصاً يموت على غير يدي.. كالموت حباً، والموت غربة ووحدة، وكلاهما لا يمتان إلى بصلة، فكل موت ما عداي يظل مطالبا بتقديم أسبابه.

بيد أن كل تلك التنويعات لمقام الموت لا تستوجب بكاء الآخرين، أو تعاطفهم، أو أن يذكّروا أنفسهم بضرورة تذكر محاسن موتاهم، فلا يتجلى حب الإنسان لأخيه الإنسان، إلا حين يحمل على الأكتاف، ويستحيل اللقاء، أو الغفران، أو التعويض عن مرارة الحرمان.

كل صور الموت المجازية هي “ترف نفسي”، أو يوسم أصحابها “بالهشاشة النفسية”، فأن تموت حباً، أو غربة، أو وحدة، يعني أنك رهنت مصيرك بمصير فان آخر، متقلب بطبعه، لا يستقيم له ود، ولا يدوم له صاحب، وتنهال آيات اللوم والتقريع، فلا معنى لتعلق القلب بغير حب الإله، ولو كنت ذا إيمان متين لما حاد القلب عن جادة الصواب، وأمسى هشيماً تذروه الرياح.

نحن أحن ما نكون في بيوت العزاء، مترعة عيوننا بالدموع التي حبست، وجمدت منذ آخر خصومة، وعداوة نشبت بيننا وبين من فارقنا اليوم، دموع مهراقة تنسكب حسرة على ما فرطنا من محبة وتسامح، وما إن تنتهي أيام العزاء حتى نعود إلى سابق عهدنا، نكيل اللوم، ونستحدث عداوة جديدة.

في مجتمعاتنا لا مكان لمساءلة اليقينيات أو التشكيك في صحتها، لا مكان لإعادة تعريف الموت مثلا، ولا لرسم علاقة جديدة معه، الموت حسب ثقافتنا رحلة عبور إلى حياة أخرى، لكن الكاتبة في روايتها هذه أعادت تعريف الموت اليقيني الدلالة مجتمعياً بكثير من الشجاعة، قد يرى البعض في محاولتها استخفافاً من هيبة الموت، أو لعباً في المنطقة المحظورة مجتمعياً ودينياً، فكما أن الكاتبة أعادت تعريف الموت في روايتها من خلال قصص أبطالها، فقد تجرأت لتقدم صوراً مغايرة لما اعتدنا عليه في أدوار كل من  المرأة والرجل في علاقات معقدة، تقارب المحظورات الجنسية والعاطفية، بعيداً عن تكرار صورة المرأة الضحية والذكر المتجبر المتسلط.

المقام الأول من مقامات الموت: طفولة مسفوحة على مذبح الرجولة

لم يكن طفلاً يوماً… هذا ما انتابه لحظتها، إنه رجل منذ القدم، رجل فحسب.

تجلت الصورة الأولى للموت في الرواية بسلب طفولة سليمان، وسلب رجولته، حين زوجته أمه حمدة، وهو في عمر الثالثة عشرة من امرأة تكبره بعشر سنين، ليملأ البيت عليها أطفالاً، إذ تحول الطفل بنظرها إلى ماكينة تخصيب تضمن استمرار النسل، فبعد أن مات لها زوجان، وبقيت مع وحيدها، حاربت كل الأعراف والتقاليد، وعكست الآية التي لم ينكرها المجتمع يوما، فأن تتزوج فتاة قاصر ممن يكبرها فلا بأس في ذلك، ولكن أن يتزوج فتى قاصر ممن تكبره ففي ذلك ظلم له حسب رأي المجتمع الذي لا يحفل حقاً بصوابية نظرته للعدل!

بقي سليمان طوال حياته مع زوجته “نبيلة” يشعر بالعار، بالذل، بالمهانة، يتذكر كيف كان يهرب من سريرها طفلاً، وكيف أخذت بيده لتعلمه كيف يكون رجلاً، ولا يخفى هاهنا لو تجاهلنا مسألة الفارق العمري بين سليمان ونبيلة ـ وهو أمر صعب التجاهل ـ أن نجد بذرة لتفكير ذكوري تفترض أن الثقافة الجنسية، والمبادرة بالجنس شأن ذكوري، وأي تعد على حمى تلك المنطقة من قبل النساء يعد انتقاصاً من رجولة الذكر.

قد يعجبك أيضًا

عاش سليمان حياته تحت وصاية أمه “حمدة”، ومن بعدها زوجته “نبيلة”، نجد أنفسنا حتى هذه اللحظة في ظل مجتمع ماترياركي “أمومي”، لكنه لا يختلف كثيراً عن قمعية المجتمع البطريركي “الذكوري”، وهذه الحالات رغم ندرتها في مجتمعاتنا الشرقية إلا أنها وجدت طريقها إلى قلم الكاتبة لتصف ما يقع من ظلم أيضاً على الرجل، فالظلم الذي تعالجه بصورته الأعم هو سلب الطفولة، وسلب حق الإنسان في الاختيار، سواء أكان رجلاً أو امرأة.

وجد سليمان بعض السلوى في بناء بيوت من أعواد الكبريت، مع ما تحمله تلك البيوت من دلالة الهشاشة، والانهيار الوشيك، والقابلية لاحتراق كل شيء، فكأنه يعوض بتلك البيوت -وإن كانت هشة لكنها من تصميمه ووفق مخططه بنيت- عن غياب اختياره حين زوجته أمه طفلا وليفتح “بيتاً”.

تعيد نبيلة تمثيل دور حماتها حمدة، فتمارس الوصاية والتدخل في شؤون حياة أبنائها، تختار الزوجة التي تراها هي مناسبة لابنها، تختار هدايا أعياد ميلاد زوجات أبنائها، وترسل صورة للهدية، ولا تترك مجالاً للانفكاك من سطوة اختياراتها، فاقتراحاتها ترقى لمرتبة الإلزام لا النصح، فترسل لابنها اسم المحل ليشتري الهدية التي اقترحتها منه.

أن تحيا يعني أن تتحمل نتيجة اختياراتك، لكننا هاهنا نجد سلب حق الإنسان في الاختيار، وسلب إرادته، وحريته إحدى أوجه الموت التي ألمحت إليها الكاتبة.

المقام الثاني من مقامات الموت: حب مجهض

أحبك بمعنى أنى أحياك.

يمضي سليمان أكثر من ثلاثين سنة “هادئة” نسبياً في زواجه مع نبيلة، زواج لا ينقصه سوى الحب، لكن غياب الموت لا يعني تصدر الخلافات، بل هو الهدوء المقيت، هدوء صامت، لا يأمل أحد تغير أحد، لكنه لا يرضى عن شريكه، ويشعر بغياب شيء ما، قد يكون هو الحياة نفسها!

تموت نبيلة الإنسانة الرياضية، المتبعة للحمية الغذائية طوال حياتها، وهي تركض في الممشى، تموت بعد أن مارست كل أشكال الظلم ضد المعلمات المتزوجات السعيدات في مدرستها، وأتاح لها منصب المديرة أن تبرر قمعها لكل من تظهر عليها علامات السعادة الزوجية، بل تكلفهن بمهمات إضافية، كأنها تنتقم من الحياة التي حرمتها تلك السعادة.

يحرر موتها سليمان من سطوة قوانينها التي فرضتها عليه، ويسأل: كيف للموت أن يأتي هكذا ويخطف نبيلة دون سابق إنذار!، لكن موتها كان بالنسبة له، ولادة جديدة. فمن الموت تخرج الحياة، لتبدأ قصة حب سليمان مع جارته سمر الأربعينية، التي تزوجت من رجل أبله، فاضل مدلل والدته، اللاهث خلف رغباته، هاجراً زوجته، التي لم تجد ما يشبع جوع جسدها سوى علاقات عابرة مع هذا وذاك، فالمرأة التي قدمتها الكاتبة لتقع في شباك الحب لم تكن قديسة، ولم تنكر سطوة نيران الرغبة حين تحرق كل ذرة في جسدها الذي يركض نحو الشيخوخة، ويحتاج إلى اعتراف ذكوري بأنوثته المهملة من قبل زوج لا يحفل بزوجته، وكل ما يهمه أن لا يعكر صفو راحته شيء. فتكفلت والدته بمنح زوجته شقة فاخرة لتقيم بها، مقابل أن تنجب من ابنها من يحمل اسم العائلة، وتجاهلت كل الشائعات التي كانت تتداولها الألسن حول علاقات سمر مع الرجال، فهي تدرك أن هذا الزواج صوري لا أكثر، والغاية منه حفظ استمرارية نسل العائلة، وهنا تظهر عقدة الأم الشرقية التي تحرص على استمرار نسل ابنها وإن كانت بصورة تبدو للوهلة الأولى عكس صورة حمدة، فحمدة قذفت بابنها إلى عالم الرجولة وهو طفل، لينجب لها أحفاداً، بينما أم فاضل حمت طفولية تصرفات ابنها الرعناء اللامسؤولة، مقابل أن تتكفل بتوفير المسكن والمأكل لسمر، آلة الانجاب لاستمرار النسل.

بالانتقال إلى شكل آخر من أشكال الحب المجهض نجد قصي أحد أبناء سليمان، يعاني من زوجته أسماء المهووسة بالنجاح المهني، والسعي خلف وهم “الإنجاز”، فلا مكان للعاطفة، أو العلاقة الحميمية، أو إنجاب الأبناء، فمسيرتها المهنية أهم من أي اعتبار.

هذا هو الوجه الثاني للموت في الرواية: “غياب الحب” والشوق، والرغبة، أن يمسي الإنسان كائناً بارداً بملامح متجمدة، ليظهر أمام الجميع متماسكاً حرصاً على مظهره الاجتماعي، لكنه يحترق من الداخل كمداً لغياب الحب عن حياته.

الشيطان والحب وحدهما قادران على العبث بالبشر. أما الشيطان فأمره هيّن، إذ تكفي النية الصادقة أو الموسيقى لطرده. أما الحب. فلا شيء يمحوه، بل إن كل ما يحدث وما لا يحدث يكون سبباً في إحيائه.

المقام الثالث من مقامات الموت: الخيانة والخذلان

في رواية “الخوف من الطيران” لإريكا يونغ Erica Jong، كشفت ورقة التوت عن سوءة العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل، متخطية بجرأة لم يعهدها الأدب من كتابة كل المحظورات في وصف تفاصيل مغامراتها الجنسية، لكن ما يجعل لتلك الرواية قيمة في نظري ليس سرد تفاصيل العلاقات الجنسية، بل تحليلها نفسياً، وبخاصة حين قالت إن الجنس شأن عقلي خالص، فالجنس كما أشار إريك فروم Erich Fromm هو في أحد أوجهه أداة نفسية، لمواجهة الضغوطات، أو الحاجة إلى الاعتراف…

وفي رواية الأفق الأعلى تستثمر الكاتبة دراستها في مجال علم النفس، لتتحدث عن مشاعر زوجة تعلم أن زوجها لا يرغب بها، وإن لم يصرح بذلك، وأنه حين يغمض عينيه عندما يقبلها، يستحضر عشرات النساء في مخيلته، وحين يضاجعها لا يعدو جسدها أن يكون كومبارساً، بينما تطوف عشرات النساء عرايا في مخيلته.

هذا البعد النفسي في وصف العلاقة الحميمة هو ما يمنح قصة باسم مع زوجته منال بعداً يقارب إحدى صور الموت، وهو الخيانة أو لنخفف من حدة الوصف ولنقل الخذلان، فهو إن خانها في خيالاته، بل على أرض الواقع في أسفاره العديدة إلى تركيا وغيرها، فهي قاومت ذاك الخذلان، الذي ترى فيه موتاً لزواجها، بأن جعلت من إنجاب الأبناء حبلاً لربط الأب المتفلت عاطفياً!

تلك الحيلة التي تلجأ إليها كثير من النسوة لإطالة عمر زواج يلقط أنفاسه الأخيرة منذ بدايته، قد تضمن بقاء الزوج قريباً من عائلته، لكنها لن تزرع الحب يوماً في قلبه تجاه زوجته.

القصة الثانية التي تجلى الموت فيها بمظهر الخذلان، هي حين طرد سليمان من سيارته فتاة شابة كانت تهرب من شيء ما في الشارع، وتوسلت إليه أن يبقيها في سيارته، لكنه أصر على معرفة ما تهرب منه وإلا فلتخرج من سيارته، خرجت وكان الموت ينتظرها، إذ صدمتها شاحنة حين ركضت لتقطع الشارع.

أن تخذل من احتمى بك، من وثق بك، من رأى في عينيك واحة أمانه واستقراره، أن تخذله يعني أن تموت في عينه وفي عيني نفسك أيضاً.

للموت أوجه إن أنكرناها فهي تعرفنا جيداً، تحدق في أعيننا لنرى كم مرة تسببنا في موت قلب، وجرح نفس، وكآبة منظر.

المقام الرابع من مقامات الموت: لعنة الظل

ليس ثمة نهايات سعيدة في حياة تقف على ساق واحدة.

تمثل قصة أمجد أصغر أبناء سليمان، وأكثرهم شبهاً به، إذ له أذنان خفاشيتان مثل والده، تمثلان أحد أوجه القتل الرمزي للأب، حين أصرّ أمجد على الانسلاخ من أي شبه قد يكون ملحوظاً بينه وبين والده، وكأنه يقتل أباه رمزياً ليتحرر منه، فعمد أمجد إلى إجراء عملية تجميلية لأذنيه، لكن لم ينتبه إليه أحد.

سليمان بدوره حين اكتشف علاقة حبيبته سمر بالصيدلاني، قرر أن يقتل حبها في قلبه، فسعى إلى التقرب إلى زوجها، ويمضي قدماً في حياته وكأن سمر وحبها لم يولد يوماً في قلبه. ارتدى وهو في الخمسين من عمره ملابس لاعبي كرة القدم، وطلب من أبنائه استئجار ملعب ليسدد الهدف الذي سحبته أمه حين كان طفلاً قبل تسديده، فكانت هذه المباراة بمثابة مباراة اعتزال لسليمان لا في ملاعب الكرة بل في الحياة نفسها.

لكن الملابس، والتظاهر بالسعادة لم تنجح في قتل ذاك الحب، ولا في استعادة الحياة التي لم يعشها يوماً.

تحاول الكاتبة في آخر الرواية لملمة تلك الحكايات المتشعبة في روايتها، وربطها قائلة: “أليست سمر هي الطفولة التي لم يعشها سليمان؟ أيحب قصي بالفعل أسماء؟ أم هي آخر ما بقي له من أمه؟ وذاك الذي تعثّر به باسم في تركيا، أهو حبّ؟ أم بحث مشروع عن حياة لم يعشها؟ والأذنان المشكوكتان بثلاث غرز في كل اتجاه، أهي محاولة أمجد للهروب من شبهه بأبيه؟”

هل هناك وقت مناسب للموت؟

هذا السؤال الذي لا يمكن الإجابة عنه قطعاً، فلا وقت مناسب للموت، وكل ادعاءاتنا بأن الموت جاء في الوقت المناسب، هي مجرد هراء، فلا يمكن أن يكون هناك وقت يناسبنا للقاء فناا، لكن ما قد يحركه هذا السؤال هو مراجعة النفس إن كانت قد عاشت قبل موتها، إن حلمت، اختارت، أحبت، جُنت، غامرت، إن كانت حرة… بعد ذلك قد تشعر بالرضا حين تصعد روحها نحو الأفق الأعلى.

 

إعلان

اترك تعليقا