النَسق الأنطولوجي لسبينوزا وثُنائية ديكارت

إنَّ دیکارت هوَ الذي طبع المثل الأعلى الرياضي للعلم، وهوية الطبيعي والعقلي على مجالِ الفكر بأسره.»

إنَّ القوانين الفيزيائية عند ديكارت والتي تسري على سطح الأرض تصلُح للتطبيق في العالم المادي بأسره، بل إنهُ هو الذي أعرب عن النظرة العلمية في عباراتٍ دقيقة أنَّ العالم عبارة عَنْ نظامٍ متناسقٍ واحد حَيثُ لا نحتاج إلى علةٍ لتفسير الأحداث غير القوة الميكانيكية وأنَّ هذا النظام في متناول العقل، ومن هنا نرى أنَّ الواقع الوحيد الذي في متناول وسائل معرفتنا هو المادة -الطبيعة- يبدو لنا على شكل نسيجٍ من الخصائص المُرتبة بدقةٍ والتي يُمكن التعبير عن ارتباطاتِها بواسطة الرياضيات.

نقفُ في النسق الديكارتي أمام واقعين مطلقين تمامًا (العقل والمادة) وهما متنابذان تمامًا متمايزان تمامًا كما أنهما لا يستطيعان التأثير الواحد على الآخر وبالعكس، فالعقل ما دام لا يملك كثافة ولا يوجد في المكان لا يستطيع أن يدفع المادة والمادة لا تتحرك إلا في المكان والعقل لا وجود له في المكان ومن هنا لا يستطيع العقل أن يؤثر عليها في أي صورة من الصور. نحن إذن في نهاية الأمر أمام ثنائية تتكون من العقل والمادة، أي أننا لم ننته بالوجود إلى عدة حدود نهائية كما لم ننته به إلى حدٍ نهائي واحد كالمادة أو العقل بل انتهينا بها إلى حدين نهائيين، المادة والعقل. كان يعتمدُ ديكارت كثيرًا على العقل المجرد بوصفهِ أداة لفهم الوجود والكون وجَعَلهِ جوهرًا مستقلًا ومزودًا بصفاتٍ أولية أو معرفة قبليّة مستقلة عن التجربة؛ لأن لكل جوهر قوانينهُ الحاكمة له والمتنوعة عن الجوهر الآخر. 

إلا أن ديكارت لم يترك للعالم أول فلسفة للعلم الحديث فحسب، بل إنهُ ترك لنا أيضًا عالمًا آخر، هو عالَم النفس وقد وقف بطريقةٍ شاذة خارج عالم المادة وعلى النقيضِ منه عالم ليس في متناولِ عالم المادة وإن كان لا يُمكن فصلهُ عنه وبديهي أن هذهِ التفرقة كانت بمثابة تنازل للفكر التقليدي سواءً أكان ذلك عن وعي أم لا. لم يكن دیکارت من الطراز الذي يخوضُ معركة صريحة مع السلطات فقد شعر بالرعب عندما حكمت محاكم التفتيش على غليليو عام ١٦٣٢ إلى حد أنه قررَ عدم نشر مؤلفه عن «العالم» ذلك المؤلف الذي لم يرَ النور إلا بعد وفاته، ثم جاء صدور مؤلفه «تأملات في الفلسفة الاولى» عام ١٦٤١ مُخففًا لوطأة الشكوك التي كانت تحومُ حول اتفاق تفكيره والتقاليد المرعية، وهناك أيضًا تلك السطور التي ذيل بها كتابه «مبادىء الفلسفة» عام ١٦٤٤ والتي أخضع بموجبها جميع آرائه لسلطان الكنيسة: 

”وأيًا كان الأمر، ولئلا أذهب بعيدًا في الفرضيات، فأننيّ لا أؤكد شيئًا، بل إنني أُخضع جميع آرائي لسلطة الكنيسة، وحكم من هم أكثر حكمة، وأني لا أُريد أن يُصدق أحد من الناس أيًا من الأشياء التي قلت بها إلا لو اضطر إلى ذلك بفضلِ قوة العقل وبديهتهِ.”

ديكارت بحسب ما نستنتجهُ من فلسفتهِ وحسبما يلح عليه في فهمهِ للطبيعة يريدُ أن يلغي السبب الصوري وأن يقر فقط بالسبب المادي والسبب الفاعل، وهكذا نرى كيف أنَّ القول بثنائية المادة والنفس أقامت جسرًا أصبح من الممكن تعديه إلى العالم النفساني ثم نسيانه بعد ذلك، والحق أن هذه الثنائية تركت جميع المسائل الكبرى لتحسمها العقيدة تمامًا كما فعل المدرسيون من قبل. لقد أصبح من الممكن أن يكون الصحيح في الفلسفة خاطئًا في الدين و إن كان ذلك من وجهة نظرٍ مختلفة تمامًا عما سبق، لقد قدمت ثنائية دیکارت إحدى الأفكار الرئيسية للمناقشة الميتافيزيقية التي جاءت بعدها ولكنها لم تكن الفكرة الرئيسية عنده بل إنها فُرضت عليه بفضل نظرته إلى العالم كنظام مادي ورياضي خليّ من المؤثرات الخارقة للطبيعة.

أما خليفته العظيم (سبينوزا) فقد تعدى هذه الثنائية البدائية بكثير حَيْثُ وجد عند دیکارت تخبطًا جذريًا أقحمهُ في مصاعبَ فلسفية لا يمكن حلها، كما أنه لم يكن في وسعه إلا أن يفكر في إطار العالم الجديد الذي خلقهُ ومن ناحية أخرى كان سبينوزا مدينًا بالكثير إلى ديكارت فقد قبل مثل دیکارت النظرة العقلية إلى الحقيقة والابتعاد عن حفظ الأفكار بواسطة التفكير الرياضي واستعمال الأفكار الواضحة على الدوام.

إعلان

إنَّ سبينوزا يُمثل تحرر الفكر من حواجز العصور الوسطى بطريقةٍ أكملُ من ديكارت و إن لم يكن مذهبهُ العقلي خاليًا تمامًا من عدةِ آراءٍ دينية، إلا أن عقلية العصور الوسطى كانت في مرحلةِ الانهزام وكانت مرحلة جديدة في التاريخ البشري قد بدأت و هي مرحلة كشفت عن آفاق جديدة كما حملت فئات إجتماعية جديدة إلى النور.

كان سبينوزا أول فيلسوف عمل بشكلٍ منهجي وفي كافةِ مجالات الفكر على هدم النظرة الغائية إلى العالم وهي النظرة التي تصورهُ خاضعًا لاتجاهاتٍ وغاياتٍ علوية أو روحانية، و كذلك نراهُ قد عارض النظرية القائلة بوجود عالمٍ آخر أعلى من هذا العالم قائم وراء الظواهر، لم يكن هناك في نظره إلا عالمٌ واحد فقد نبذ فكرة التعالي نبذة تامة ومن ثم رأيناه يضعُ الطبيعة نفسها في كمالها وشمولها بما في ذلك الإنسان محل عالم العقل والمادة، ومن هنا أمكن القول أنه قدم حلولًا تقول بوحدة الوجود الطبيعي للمشكلات التي كانت تواجه الفلسفة في عصره وذلك بالقدر الذي سمح به الجو الثقافي آنذاك. لقد تغلب تمامًا على ثنائية ديكارت، فكيف كان ذلك؟ كان في مقدوره أن يهمل عالم الفكر تمامًا كما فعل بعض الماديين، قائلًا: أن هناك عالم واحد فقط، عالم المادة التي لا تفكر. وكان هذا الاتجاه موجودًا بالفعل وكان يمثله كل من جاسندي وهنري دي روا الهولندي، وعند هذا الأخير أن الفكر حال من بين أحوال الجسد وأن المادة والفكر نقيضين متعارضين وإن كانا مُختلفين.

وقد طوّر سبينوزا هذه الأفكار وعمقها ونماها إلى أن وصل إلى الموقف القائل بأن هناك جوهرًا واحدًا فقط ألا وهو الطبيعة وأن له مرحلتين أو صفتين: الامتداد (المادة) والفكر. ويمكن تلخيص هذا العنصر الأساسي في تفكير سبينوزا بقولنا: المادة توجد في المجال (إنها امتداد) وهذه المادة المتمددة تفكر أو باستعمال المصطلح المدرسي الذي كان يستعمله سبينوزا نفسه، نقول: هناك جوهر واحد (الطبيعة) يعرف عنهُ الإنسان صفتين: المادة والفكر، وكما أن لكل منحنى سطحان: السطح المقعر والسطح المحدب نجدُ أن كل قسم من الواقع وكذلك الواقع في مجموعهِ له جانب مادي وجانب عقلي. فالشيء العيني الواحد يقدم لنا منظرين مختلفين في بيئتين مختلفتين . وهكذا يصبح العالم منظورًا إليه كنظام نفساني / مادي واحد لا بصفتهما نظامين. ليس هناك فكر بدون مقابل مادي وليس هناك مادة بدون مقابل فكري. إن العلم الحديث يقبلُ القضية الأولى ما دام لیس هناك فكر بدون دماغٍ مفكر ولكنه لا يقبل القضية الثانية مادام هناك مادة لا تفكر.

لم يستطع سبينوزا -وهو ابن عصره- أن يتصور المادة على صورةٍ تطورية. لم يكن في مقدوره أن يتصور وجود فترة لم تكن الحياة والفكر فيها بعد. و من ثم كان لزامًا علينا إذا أردنا أن نجمع بين العقل والمادة ألا يكون ذلك في درجات التطور العليا بل في مجال المادة بأسره حيث تمنحُ المادة -كل مادة- مظهرًا فكريًا، هذه هي الفلسفة القائلة بحيوية المادة.

والآن، لننظر إلى صورة الكون باعتباره كُّلًا معقولًا. إن سبينوزا یبدأ أولًا بالنظر إلى الكون لا بصفتها مادة ميتة و لا بصفتها نتاج لخالق خارجي ولكن بصفته كونا حيا يخلقُ نفسه بنفسه وهذهِ الأفكار يدينُ بها سبينوزا لبرونو إلى حدٍ بعيد. إن هذا الكون هو الجوهر العالمي الوحيد والفكرة العظمى عند سبينوزا هي أن هذا الكون كائنٌ بفضلِ نفسه أي أنه لا يحتاج ولا يمكن أن يحتاج إلى شيءٍ غيره ليبررَ وجوده، إنهُ علة نفسه.

إننا نجدُ عند سبينوزا إلى جانبِ نظرته إلى الواقع ككل عقلي بلغ درجة الكمال الفكرة القائلة أنه بينما لا يتغير الكل فإن هناك تغيرات تطرأ عليه من الداخل. إنها فكرة تنذرُ بالقانون الفيزيائي الهام القائل بأن كمية الطاقة في الكون كله لا تتغير بينما يتغير شكل هذه الطاقة، أيّ أن كافة الظواهر الطبيعية هي  تحولات في الطاقة لا تدخلُ فيها طاقة إلى الكون من الخارج كما لا تُفقد فيها طاقة.

«الوجود معناه التحديد، فلولا استعداد كل كائن محدود في إطارهِ الخاص به لرد جميع الغزوات الموجهة إلى حقوقه المكتسبة، إلى حقه في أن يكون هو هو ولا شيء إلا ذلك، لما كان هناك ثبات في العالم. ومن ثم، فإن القانون الأساسي بالنسبة للإنسان إنما هو قانون طبيعته التي لا يمكن أن يهرب منها، وهذا القانون يفترض الرغبة والجهد والنزوع. فالخير بالنسبة للإنسان هو كل ما يسمح لنفسه أن يستعمله لمحاولة الإبقاء على ذاته أو لزيادة ما يتمتع به من الواقع، والسيء هو كل ما يعرقل بلوغ هذه الغاية»

روجيرز في كتابهِ «عرض للأخلاق»

من هنا تنبع الأخلاق عند سبينوزا وهي التي تقوم على شمولِ الإنسان كُليًا في نظام الطبيعة. إن القانون يهيمن على أعمالهِ ومصيره وهو لا يخضع لأي التزام إزاء أي قوى أو مبادئ روحية خارج نطاق نظام الطبيعة الأوحد

کما لا يحركهُ شيء خارجه، والإنسان لا يستطيع أن يفعل ما يشاء وإلا لما كان جزءًا من الطبيعة فالإنسان من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن يخضع لأمر أخلاقي يكون مصدره خارج الطبيعة، وهو يستطيع فقط أن يحقق الطبيعة الخاصة التي منحته إياها الطبيعة وذلك في نطاق الظروف المحددة التي يجد نفسه فيها، ومن ثم كانت الفضيلة هي العمل في وفاق مع قوانین طبيعتنا فبقدر ما كان شيء ما متفقًا مع طبيعتنا بقدر ما كان جيدًا. 

إنَّ نظرة سبينوزا هذه الى الطبيعة البشرية وإلى الحرية يمكن أن نستخلص منها نتيجتين: النتيجة الأولى هي أن الحرية الوحيدة إنّما تكمن في معرفة الضرورة، فأنت حر في الوصول إلى هدفك فقط عندما تدرك لماذا تجعل الظروف من الضروري عليك أن تحققه لكي تنجح، والنتيجة الثانية هي أنه ما دامت الظروف هي التي تصنع الإنسان أصبح لزامًا علينا أن نُغير هذه الظروف إذا أردنا أن نحقق الخير الأعظم للإنسان.

هوامش:

١. ميلنر/ سبينوزا 

٢. راندل/ تكوين العقل الحديث 

٣. جون لويس/ مدخل إلى الفلسفة

٤. روجيرز/ عرض للأخلاق

٥. كارل ياسبر/ مدخل إلى الفلسفة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: فَرح علي

تدقيق لغوي: دانا خالد

اترك تعليقا