حول الصمت | لـ مصطفى عثمان

يعجُّ متنُ چيل دولوز وفيليكس غوتاري بألفاظٍ مولَّدَةٍ، وما يعنيه اللفظُ المولَّدُ “neologism” هو استحداثٌ لكلمةٍ جديدةٍ كليًّا، أو استحداثُ معنىً جديدٍ لكلمةٍ قديمة، وتكمن ضرورةُ توليد الألفاظِ أو ما يسمِّيه الثنائيُ “خلقَ المفاهيم”  بكونه حركةً تعارضُ تحديدًا “أحاديةَ المعنى”، بمعنى التشكيكِ في أحاديةِ معنى الألفاظ، أي التوجه إلى نوعٍ من الاستاتيكا الهوّياتية -أي تصوُّر أنّ الهوّية هي المكوّن الثابت والأوليّ لتأسيس “الذات”- (1) وصولًا إلى نسقٍ متحرِّرٍ، وديناميكي من الإبداعِ المفاهيمي: “الفكرة في الفلسفة تطرأ على شكل المفاهيم. هناك خلقٌ للمفاهيم، وليس ثمّة اكتشافٌ للمفاهيم، لا يكتشف المرء المفاهيمَ، بل يخلقها”. (2) الاستفادة من “المفهوم” عند دولوز، إذًا، هو الدفع باللغة إلى حدودِها القصوى وخلقُ إمكاناتٍ جديدة مستخدِمًا مفاهيمَ جديدة، ومن أكثرها إثارةً مفهومُ اللا-توطين “deterritorialization” وإعادةُ التوطين “reterritorialization”.

ومعنى اللا-توطين هو إزالةُ شبكة العلاقات التي تشكِّل المعنى، وإعادةُ التوطين هي الاستعدادُ لتقبّل منظومةٍ جديدة من العلاقات لتشكيل معانٍ جديدة. أي يمكن تخيُّل المفهومين كأنّنا نمحو نقشًا على الرمال استعدادًا لنقشِ شكلٍ جديد.

وإذا ما أمكن الاستطرادُ فيما يعنيه “اللا-توطين” طبقًا لچيل دولوز وفيليكس غواتاري فإنّه نوعٌ من الانمحاء لأرضيّتنا الخاصة، انغمارٌ وتآكل. من الممكن، من جهةٍ ما، أن نفكّر في دولوز مستخدمين مفاهيميّةَ “الاكتشاف الداخلي” أي التآكلَ تمهيدًا ونبؤةً لما هو في الأفقِ بالفعل، كنوعٍ من الولادةِ الثانية. ولكنّ القصد الحقيقي لدولوز وغواتاري هو درجةٌ  محددةٌ من الفقد، انمحاء الاختلاف، أو تعثّر إدراكِ الصيرورة، أن نمحو ما يشكِّل فرقًا واختلافًا أعمقَ من المقابلةِ أو التضاد، أو بعبارة أخرى، تحلُّل الطّوب الأنطولوچي تاركين لطخةً متجانسة من الإسمنت، والتداخلُ مع الخلفية. من الممكن أن نتصوَّرَ وضعنا الحاليّ باعتبارِه وضعًا من اللا-توطين المطّرد، تدفقٌ مستمِرٌّ للدَّوال، يصبح المعنى أقلَّ فأقلّ بزيادة المعلومات -بعبارة چان بودريار- نتيجةً للكلام الذي يبدو الآن أنه يمتَّدُ إلى ما لا نهاية، أقربَ إلى الجدالات ولا يتخلَّلُه  صمتٌ: “إنَّ قوى القمع لا تمنع الناسَ من التعبير عن أنفسهم بل تجبرهم على التعبير. يا لها من راحةٍ ألَّا نملكَ شيئًا لنقولَه، الحقَّ في ألاّ نقولَ شيئًا، لأنَّه عند تلك اللحظة فقط يوجد احتمالٌ في أن نلتقط الشيءَ النادر، شديدَ الندرة، الذي يستحِّق القولَ”. (3) وللصمت طبيعةٌ ثقافية، يؤكِّد بيير كلاستر أنَّ في قبائل أمريكا الجنوبية كلامُ الزعيم واجب: “ماذا يقول الزعيم؟ ما هو كلام الزعيم؟ إنَّه قبل كلِّ شيء فعلٌ طقوسيّ” (4) لا يهمّ تحديدًا ما يقولُه الزعيم، كلام الزعيم هو لا-كلام، كلامٌ لدرءِ الصمت، لتبرئةِ الزعيم نفسَه من حيازة أيّ سلطة بشكل مطلق. أي أنَّه، ينبغي أوَّلًا التأكيدُ على أنّ ثنائية (الصموت-المثرثر) لا توجد إلَّا في شكلٍ اعتباريّ ثقافيّ تجاه الكلام، أي ما تفكر فيه تلك اللُّغة حول الكلام وكيف تمارسه. استخدم الإغريق تعبير “لقد دخل هِرمس” للدلالة على صمتٍ مفاجئٍ يقطع حديثًا ما. لذلك، الثقافات الهِرمسية -بهذا المعنى الصامت، لا المعنى الغنوصي- تستثنى من ثنائيات الكلام والصمت.

ضجيج الحداثة

ما يسِم عالمَ الحداثة تحديدًا هو الضجيج، ضجيج التقانة وضجيجُ كلامٍ لا نهايةَ له. في رسالة من بول أوستر إلى چون ماكسويل كويتزي بتاريخ 14 يونيو 2011: يذهب بول أوستر لطلب شطيرة، ينتظر من أربع إلى سبع دقائق. “باستثناء نوع السندوتش الذي أريده، نادرًا ما أقول أيَّ شيء لأيِّ أحد. ولكن ما أكثرَ ما يرى المرء ويسمع فيما بين أربع دقائق وسبع” (5).

وما يثير الاهتمام هو أنّ الكلام يتحوّل أنثروبولوچيًا، أي لا يصبح حوارًا -سواء كان ثنائيًا أو متعدد الأطراف- ولكن يصبح كلامًا له طبيعةٌ شبكية، ينتشر ولا يعرف الصمتَ، أي كلامٌ بلا تواصل. ما يشكِّله الصمت تحديدًا، باعتباره فجوةً في اللغة هو: إيقاع الكلام وكيمياء الكلام الخالصة، يضبط الصمتُ إيقاعَ الكلام وتختمر الأفكارُ في الصمت. يجترُّ الكلام المطّرِد بلا صمت الأفكارَ، أي إنَّه درجةٌ من اللا-توطين، نتلاشى في الخلفية تحديدًا إذا ما فقدنا الضبطَ الإيقاعي-الكيميائي للأفكار.

إعلان

ضجيج الحداثة هو بالضرورة ضجيج المدينة، أو ضجيج المباني التي: “تأوي الإنسانَ، أي أنَّه يسكنها، ومع ذلك هو لا يسكن فيها” (6) طبقًا لهايدجر الذي قضى حياته بعيدًا عن المدينة قدر استطاعته، المدينة مملوءةٌ بالثرثرة. تكمن مفارقة الثرثرة تحديدًا في أنَّها على النقيض من الكلام، أي أنَّ الثرثرة تعرقل التواصلَ في الأساس، من خلال تحويل الكلام إلى انفصالٍ استعراضيّ، محولة إيّاه إلى أداء (Performance) أكثرَ من كونه فعلًا تواصليًّا، أي فعلُ عزلٍ للآخر. ما ينتهي إليه ضجيج المدينة، سواءٌ أكانَ ضجيجُ المعدَّات الثقيلة أو ضجيج الثرثرة، هو تغريبٌ للفرد. الأمر الذي يؤكده رايموند ويليامز في الفصل الثاني من “طرائق الحداثة” إذ يعيد البحثَ عن الصلة بين التحديث و”موتيفات” من الشعر الرومانتيكي، مقتبسًا من وودزورث ما يعبّر عن الاغتراب في المدينة:

“الحاضر والماضي، الأمل، الخوف، كل ما قيل،

كل قوانين الإنسان الفاعل، المفكِّر، المتكلِّم،

كل هذا يمضي عني، لا أعرفه، ولا يعرفني.”

لعلَّ ما لا يعلِّق عليه ويليامز بشكلٍ كافٍ هو وقوف وودزورث مرتين عن الكلام، بشكلٍ يحفّز على صمتٍ له طبيعةٌ تأمليّة: “كل ما قيل” و”الإنسان المتكلم” أو الـ Homo Loquens، إذا ما تحتَّم عليَّ أن أتموضع في اللغة، فعندها يصبح الكلام ضرورة. ولكن إذا أصبح الكلام نفسُه ذا طبيعة شبحية، أدائية، ثرثارة، فما نقف أمامه هو انهيارٌ للغويّ في اللُّغة، أي في التمفصلات التواصليّة في اللغة نفسِها، وذلك بالتحديد هو أساس بداية استحالة التواصل.

الرغبة في الصمت

يمكن التأكُّد، من خلال چنيالوچيا ما، أنَّ للصمت مكوِّنًا دينيًا، أو نوعًا من التصوُّف. أي أنَّ الإلهيّ يحضرُ في الصمت، ما يتمِّم تجربة المتصوِّف هو عجزٌ عن وصف الإله، فيلوذ بالصمت. في نسقٍ أكثرَ أوروبية، تجتمع طائفة الكويكر (Quakers) (7) الإنجليزية على رغبةٍ في الصمت، ارتكازًا على منح ما هو أساسيٌّ لله، أي الذهنَ والقلبَ، لأنَّ التجربةَ الدينيةَ لا تنوجد على مستوى صُوَريّ: “لا شيء آخر غير تناول سرِّ قربان القلوب”. (8) عند الكويكري، تنزاح المؤسَّسة لتفسح مكانها للرب. الكويكري هو إنسان صمُوت. ما يثير الأعصاب تجاه الإنسان الصَّموت هو أنَّه يحوِّل اللُّغة إلى نوعٍ من الدَّجل، فالصمت يقوم بعمليّة تفريغٍ دلاليّ، فتصبح اللغة ذاتُها من النوافل أمامَ الصّمت.

من الممكن أن يكون الصّمتُ في ذاته تمرُّدًا من نوعٍ ما، لأنَّ للُّغةِ سلطةً دلاليةً إكراهيةً لغير-المستمع. إلَّا أنَّ التباس دلالاتِ الصمت هو في طبيعة الصمت ذاته، لذلك يُفضي الصمت في الأغلب إلى سوء فهم، طالما قرَّر الصامت أن يقيم في نسقٍ حواري ثنائي (dialogue) أو متعدِّد (polylogue)، وقد يكون الاستثناء النادر هو صمت (ثورو) القابعِ في (ولدن)، مستقبلًا عددًا قليلًا من الزوَّار في الشتاء، مستأثرًا ببقيّته لنفسه.

في مقالة في مجلة “الصوت والصورة” كتبت سوزان سونتاج عن “بيرسونا”: “ما يعرضه بيرسونا هو نقص اللُّغة الملائمة، لغةٍ ممتلئةٍ بحقّ” لأنَّ فجواتِ الكلام تصبحُ أكثرَ قوَّةٍ من الكلام ذاته”.

الصامت والثرثار

يعرّف تيوفراست الثرثرةَ بأنَّها شكلٌ من: “الإسهاب وعدمِ الإمعان في الكلام” (9) وفي موضعٍ آخرَ في نفس الكتاب بأنَّها مجرَّد “إفراطٍ بالكلام”. (10) أثَّر كتاب “طبائع” لتيوفراست بشدَّة في العصر القديم، واليومَ يمكن اعتبارُه محاولةً سيكولوچية بدائيةً من خلال تقسيم أنطولوچي قائم على الأعراض في المقام الأول، خاصةً لأنَّ تيوفراست يرى الثرثرة باعتبارها مرضًا، فالثرثار “لا يسعه السيطرةَ على نفسه في عدم التزام الصمت”، (11) ويعرقل الثرثار-المريض- سيرَ الدولة (البوليس)، أي أنَّ الثرثار عند تيوفراست مرفوضٌ سياسيًا: “[فهو] يعيق كمستشار أحكام القاضي”.(12) تأخذ أوصاف تيوفراست السيكولوچية شكلًا تربويًا وأخلاقويًا محضًا من خلال فحص الكلام، فكلُّ لبسٍ أخلاقي أو روحي يعبّر عن ذاته عند تيوفراست في “الكلام والأفعال” وهي هنا لفتة أسلوبية، التزام شكلاني من قِبل تيوفراست، للفت نظرنا تجاه اللغة اليومية باعتبارها من المسلَّمات، ولا يوجد بطبيعة الحال ذكر للصامت عند تيوفراست مكتفيًا بذكر “الرذائل الروحية” لِتجنَّبها. -تجنُّب الرذائل-

صمت الأدب، رغبة الكتابة

“جلستُ في هذا الوضع تمامًا عندما ناديتُه، مقررًا بسرعة ما أردت منه القيام به -عنيت أن يفحصَ معي- ورقةً صغيرة. تخيَّلوا دهشتي بل ذعري عندما، دون أن يتحرَّك من عزلته، أجاب بارتلبي بصوتٍ لطيفٍ وحازمٍ على نحو فريد: أفضِّل ألَّا” (13)

طبقًا لچيل دولوز فإنّ ما نلاحظه في هذه الجملة: “أفضِّل ألا” هو نوع من الأسلوبية، بمعنى أنَّ الصِّياغة الأصلية هي صياغة نادرة في الاستعمالات الشائعة للغة: “I would prefer not to” في حين أنّ الصيغةَ الأكثرَ اعتياديةً قد تكون “I had rather not”، يستعمل بارتلبي نوعًا من الانزياح اللغوي، أي ميلًا لخرق النسقِ الاعتيادي للكلام.

في الرواية القصيرة لـ هرمان ميلفل “بارتلبي النسَّاخ” نقرأ الآتي: “أوه، يفضَّل؟ أوه نعم، كلمة غريبة. أنا نفسي لا أستخدمها أبدًا.” (14) ما يثير الدهشةَ، والسخريةَ بالنسبة لبارتلبي هو أنَّ الجملة من الجهة النحوية صحيحةٌ بالتأكيد، ولكن الانتهاء المفاجئ وغير المتوقع للجملة: “أن-لا”، ما هو ذلك الذي لا يفضله بارتلبي؟

في رواية “الثرثار” للوي-رينيه دي فوريه مفارقة، فهي قصةُ رجلٍ صامتٍ لا ينفكُ يتكلَّم بالكتابة: “يقول أصدقائي أنِّي الصمتُ بعينِه”. (15) مفارقة رغبة الصامت في الكلام، فهي مفارقة في العنوان، فالثرثار يكسر تبادلية الكلام لحساب أحادية صوتية، الأمر الذي يفضي إلى نشاز: “أنا كنت موجودًا، وأنا أوجد، وسأكون موجودًا” هو لسان حال الثرثار، وثرثار دي فوريه الصامت ليس استثناءً حقيقيًا، فهو كأيّ ثرثار، لا يستطيع تحديدًا أن يحادث جدارًا أو شجرة، ولذلك يملؤه حنقُ الكلام. حنق الكلام يخلخل اللُّغةَ نفسها. عندما قابل هارولد بنتر في شبابه صامويل بيكيت، امتدح بشكل مطّرد أسلوبَ بيكيت، أوقفه بيكيت ليخبره: “أسلوبي، أسلوبي هو سرطان اللسان”. حدثت تجربةٌ مشابهة لچاك دريدا: “لقد حدث ذلك حينما فاجأتني تلك الجملة، في الضوء -“نحن ندين بأنفسنا للموت”- واعترتني فورًا رغبةٌ في أن أنقشَها على حجر، بلا تأخر” (16) يمتلئ دريدا بحنقِ الكلام، ولكن يرجِئه لحساب كتابةٍ بدون متلقٍ باستخدامه وسيطًا كتابيًا منقرضًا من الناحية العمليّة: الحجر. الأمر الذي قد يوازي من جهة ما، استخدامَ لغةٍ موازية، كالتي يتمناها إيشيكاو تاكوبوكو في الهايكو الخاص به:

“ربما سأقولُ ذاتَ يوم

إنني الوحيد الذي يعرفها،

الكلماتِ التي لا يستخدمُها البشر “(17)

صمت المحِّب

يقوم مذهب الطمأنينة (Quietism) على نوعٍ من تبديد الذات في الحبِّ الإلهي، تذويب الأنا لتتحرك نحو الارتقاءِ الروحي والذي كان يُعدُّ مذهبًا هرطوقيًا من قِبل الكنيسة الكاثوليكية. حظيت قضيّة مدام دي غويون سنة 1694 باهتمام من العامّة، انتهى الأمر بالحكم عليها بالسّجن في فوجيرار ولابستي من 1696 إلى 1703، كان السّجن في دير راهبات، حيث تمَّ اضطهاد مدام دي غويون وتشويهُ سمعتها. من الطّريف، أنه بالرجوع إلى القضية نفسِها نجد أنه لم تُدَن مدام دي غويون على أسسٍ هرطوقية ولكن لأنها كانت تفكّر في الأسقف فرانسوا فانلون “أكثر مما تفكر في نفسها”. ولكن ما يهمّ حقيقةً هو ما كتبه سان سيمون عن علاقة فرنسوا فينلون بمدام دي غويون: “في ذلك الزمن، الذي ما زال غامضًا، سمع فانلون الناس يتحدثون عن السيدة غويون، التي أحدثت في ذلك الحين ضجةً كبيرة للغاية في المجتمع بحيث أصبحت فيه معروفة أكثر من اللزوم، فلا حاجة لديَّ إلى التوقُّفِ عندها بوجه خاص. لقد رآها هو، وراقت روحاهما الواحدُ للآخر، فامتزجت روعتُهما.” (18) ما تشكّ فيه چوليا كريستيفا هو أنَّ فانلون هو من رآها، لأن مراسلاتِهم تخبر بالعكس، هي التي رأَته. فيما خلا ذلك، ما يثير الاهتمام هو لحظةُ الصمتِ المتزامنةُ مع الرؤية. صمتُ الاستماع إلى تناغمات الخلفيّة الجديدة، خلفيّة المحبِّ، باعتبارها لحظة التذاوت الأسمى: ذاتي، ذاتُك. ما يعزِّزه صمت المحبِّ هو الحفاظُ على ذكرى الآخرِ حيّةً، أن أحفظ وجه الآخرِ منتعشًا فيَّ ويغدو حيًّا على الدوام، “أن تحفظَ [الآخر] في الحياة، وفي داخلك نفسه، هل هذه هي الحركةُ الأفضلُ للوفاء؟” (19)

صمت المرض، والموت

طبقًا لماكس بيكارد، في حينِ أنَّه لا يمكن تخيُّلُ عالمٍ لا توجد فيه إلا اللُّغة، يمكن بالفعل تخيُّل عالم لا يوجدُ فيه إلا الصمت. وهو تصوُّرٌ لا يبدو بدون فائدة بطبيعة الحال. بغض النظر عن مستويات الضجيج، فإنَّ المرضَ دائمًا محاطٌ بصمت، صمت يصبح جزءًا من المرض وتصبح اللُّغة ثانوية: “كما لو أنَّ الشخصَ المريضَ كان مجرَّدَ مكانٍ استقر الصمتُ فيه”. (20) ما يؤكِّد عليه بيكارد جملةً أنَّ الصمت في وقتٍ ما، كان جزءًا صالحًا من الحياة، ولكن تحوَّل بالتدريج إلى شكلٍ من أشكال الشرِّ الروحاني، فينفُذُ من طرق السقمِ والمرضِ والاعتلال. فالسرطانُ أعراضُه تشبه “أعراضَ صمتٍ شرّير فحسب”. (21) صمتُ المرض هو استباقٌ لصمت الموت، صمتِ الاحتضار، لا يمكن ملء صمت الاحتضار، أو صمتِ تجربة الاقتراب من الموت: “ومن المفترَض بعد مجزرةٍ ما أن يكون كلُّ شيء هادئًا وصامتًا باستثناء الطّيور طبعًا. والآن لنرَ ما الذي يمكن أن تقولَه الطيور؟ كلُّ ما يمكنها أن تقوله حول المجزرة هو أشياءٌ من قبيل “بوو تويت”. (22) صمت العصيِّ على القول، أو صمت الهوَّة، الصمت الذي يؤكد أنَّ خلف القناع جثةً، أي إدراك حقيقة ذات طابع كلياني: “لا بدَّ أن نشير لخطة، تتضمَّن في الآن نفسه، افتراضًا وإعلاءً لتجلِّي الغير في الوجه؛ خطة تقوم فيها الأنا وراء الموت وتنكشف فيها أيضًا بعودتها لذاتها. هذه الخطة هي من قبيل الحب والإخصاب، حيث تبرز الذاتية وفقًا لحركاتها”. (23) وجه الميت، ميتي، يبدِّد الكلام بصمت إما يكون دائمًا أو ينقطع بصرخة، وبالتدريج ينكمش جسد الميت في الصمت، ويكون “الانكماش” له طابع حرفي، أي أنَّ جسد الفقيد بدأ في التحلُّل، يصبح ضروريًا لقطع صمت الحداد أن يتحوَّل الحديث عن “روح” الفقيد من خلال حوار باطني. الروح لا تتحلَّل، لكن الكلام، ما هو من الممكن أن يقال، القابل للقول – القول الجنائزي – يتحلَّل.


مراجع وهوامش: 

1. The Deleuze Dictionary, edited by Adrian Paar, p. 124-5 (Edinburgh
University Press, 2005)

2. ألف باء دولوز، كلير بارنت، چيل دولوز، ترجمة أحمد حسان، ص 92 (المحروسة، 2018)

3. Negotiations, Gilles Deleuze, Translated by Martin Joughin, p. 128
(Columbia University Press, 1997)

4. مجتمع اللادولة، بيير كلاستر، ترجمة محمد حسين دكروب، ص 158 (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1991)

5. هنا والآن: رسائل 2008-2011، بول أوستر، ج.م. كويتزي، ترجمة أحمد الشافعي، ص 295 (دار الكتب خان، 2016)

6. كتابات أساسية، الجزء الثاني، مارتن هايدجر، ترجمة وتحرير إسماعيل المصدق، ص 222 (المركز القومي للترجمة، 2002)

7. الكويكرز جماعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في القرن السابع عشر من قِبل چورچ فوكس، وشددوا على ضرورة التجارب الإيمانية الداخلية عوضًا عن الممارسات الخارجية الشكلية. -قصة الحضارة، المجلد الثامن، الجزء الثاني، ترجمة محمد علي أبو درة، ص 27 (دار الجيل – بيروت، 1988)-

8. رسائل فلسفية، فولتير، ترجمة عادل زعيتر، ص 36 (دار التنوير، 2014)

9. طبائع، تيوفراست، ترجمة عبدو زغبور، ص 18 (دار التكوين، 2016)

10. المصدر نفسه، ص 26

11. المصدر  نفسه، ص 27

12. المصدر  نفسه، ص 27

13. بارتلبي النساخ، هيرمان ميلفيل، ترجمة زوينة آل تويه،  ص 41 (دار نينوى، 2010)

14. المصدر نفسه، ص 67

15. الثرثار، لوي-رينيه دي فوريه، ترجمة منار رشدي، ص 9 (دار شرقيات، 1998)

16. Athens, Still Remains, Jacques Derrida, Translated by Michael Naas, Pascale-Anne Brault, p. 1 (Fordham University Press, 2010)

17. الأعمال الكاملة، إيشيكاو تاكوبكو، ترجمة محمد عُضيمة وكوتا كاريا، ص 66 (دار التكوين، 2020)

18. قصص في الحب، چوليا كريستيفا، ترجمة محمود بن جماعة، ص 295 (دار التنوير، 2017)

19. الكتابة والاختلاف، چاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، ص 214 (دار توبقال، 2000)

20. عالم الصمت، ماكس بيكار، ترجمة قحطان جاسم، ص 187 (دار التنوير، 2018)

21. المصدر نفسه، ص 187

22. المسلخ رقم 5، كورت فونيجنت، ترجمة يونس بن عمارة، ص 40 (دار كلمات، 2016)

23. الكلية واللامتناهي، إيمانويل ليفيناس، ترجمة عبد العزيز بومسهولي، ص 280 (صفحة سبعة للنشر والتوزيع، 2021)

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مصطفى عثمان

تدقيق لغوي: ريم حاتم محمد

اترك تعليقا