جوزيب فونتانا: مقدمة كتاب ”قرن الثورة“
تأريخ للعالم بدءا من سنة 1914
إن الكفاحات الجماعية للمجتمعات البشرية محركّها الأساسيّ الأمل في بلوغ هدفين مترابطين ارتباطًا وثيقًا: الحرية والمساواة. هذا يعني القدرة على العيش دون عوائق تعرقل تطورنا التام، وحقنا في الحصول بالتساوي على الخيرات الطبيعية وعلى ثمار عملنا.
كتب كارل ماركس وفْريدْرِخ إنجلس سنة 1848: “إنّ تاريخ أي مجتمع حتى الآن هو تاريخ صراعات طبقية. أحرار وعبيد، نبلاء وعامة، بارونات وأقنان، معلمون وصانعون، وباختصار ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا صراعًا مستمرًا، تارة مستتر وتارة أخرى معلن “.
إنّ تاريخ البشرية حافلٌ فعلاً بمحطات من الكفاح من أجل الحرية والمساواة، بانتفاضات على الظالمين وبمحاولات لبناء مجتمعات عادلة أكثر، سحقها المدافعون عن النظام القائم، الذين لطالما دافعوا، ولا يزالون يدافعون اليوم، عن فكرة أن الخضوع واللا عدالة ضروريان من أجل ضمان الرفاهية الجماعية، أو حتى أنهما جزء من المشروع الإلهي.
لقد أثرت إحدى هذه المحاولات للتغيير الاجتماعي، التي بدأت في روسيا سنة 1917، على مسار المئة سنة التي مضت منذ تلك الفترة. إنّ تهديد النظام القائم الذي كان يمثله النموذج الثوري البلشفي حدّد المسار السياسي للأطراف الأخرى المنشغلة بمجابهته، وخاصة لمنعه من أن ينتشر في العالم. فمثلاً، وُلِدت الفاشستية والنازية كرد فعل على التهديد الشيوعي، واقترحتا كبدائل نماذج ثورة قومية لم تتعدّ العبارات البلاغية.
كان التقدم الذي أحرزته الحركة العمّالية بالتحالف مع الاشتراكية الاجتماعية في الكثير من البلدان ردّا أكثر إيجابية على ذلك التهديد بالذات. وتمّ بلوغ ذروة هذه الديناميكية بعد الحرب العالمية الثانية وانهزام الفاشستية، عندما تم توظيف التقدم الاجتماعي لدولة الرفاهية كدواء ضد توغل أفكار الشيوعية في مجتمعات العالم المتطور. هكذا تم الوصول إلى تلك الحالة الاستثنائية في السنوات الممتدة من 1945 إلى غاية 1975، لمّا سجّلت في البلدان المتطورة أكبر نسب المساواة على الاطلاق ولم يسبق لها مثيل، وتعززت حينها الفكرة الزائفة عن عالم من التقدم المستمر بحيث سيمكن بلوغ الأهداف الاجتماعية الكبيرة للثوّار بطرق سلمية من خلال التفاوض.
إلّا أنه بدءًا من سبعينات القرن الماضي، في حين كانت القوة السوفيتية تتقهقر ولم تعد الشيوعية تمثل خطرًا داخليا للمجتمعات “الغربية”، تغيّر ذلك المسار وفتح المجال لإعادة استرجاع السلطة من قبل الطبقات المسيطرة كما فتح مرحلة من التخلف الاجتماعي الذي بلغ أشدّه بعد الأزمة الأخيرة لـ”المنظومة الاشتراكية” سنة 1989 والتي حيّاها المثقفون في خدمة المنظومة متمنيّن أن تكون الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق مرادفان لبداية عهد جديد من التقدم والمساواة.
لم تجرِ الأمور على هذا النحو، حيث إنه اليوم، بعد خمس وعشرين سنة من التفكك النهائي للاتحاد السوفيتي، يتضح أنّ التقدم المعلن عنه لم يتحقق، وإنما نحن نتواجد في حالة من الركود الاقتصادي وأمام مشهد من اللا مساواة المتزايدة تتجسّد في تفقير عام .
يبدو لي مناسبا مراجعة تاريخ قرن الثورة هذا لمحاولة فهم الأسباب التي أدت بنا إلى الوضع الحالي، أمام تفسيرات أولئك الذين يدافعون عن فكرة أنّ الركود واللا مساواة الحالية هما النتيجة الحتمية للتطور الذاتي للقوى الاقتصادية، متجنّبين أي إشارة إلى أسبابها السياسية.
ليست المهمة بالسهلة، بحكم أنّ الأهداف الاقتصادية، الصيغ السياسية والتبريرات الأيديولوجية تبدو مرتبطة بالواقع ارتباطًا وثيقًا. ومحاولة تبيينها منفصلة عن بعضها البعض قد تعني تحريف طبيعتها، وقد تحرّف الطابع المُعقّد لدوافع فاعليها. وبما أنّ تاريخ هذه الكفاحات يندرج ضمن مجمل التطور السياسي، الاقتصادي والثقافي، فلا يسعنا سوى أن نتعقّب مساره في سردية مرتبطة به بشكل أو بآخر. هي مهمة صعبة، ومُعرَّضة جدًّا لأخطاء محتملة، ولا أشك أنني ارتكبت أخطاء في أكثر من مناسبة، بالرغم من المجهود الذي بذلته في التأكد من المعطيات وإظهار المفارقة بين التأويلات. ولكن أهمية الهدف تعوّض عن هذه المخاطرة.
لقد اخترت أن أبدأ من سنة 1914، عندما فجّرت الحرب العالمية الأولى، المعروفة عامة بالحرب الكبرى، النظام القديم، وأختم القرن عند عام 2017، حين سيتم الاحتفال بالمئوية الأولى لثورة لا تزال شبحا يؤرق ليالي الأقوياء، بمكاسبها وأخطائها وفشلها النهائي.
نويت استرجاع السياسة، بمفهومها كفعل جماعي للـ”بوليس” POLIS، كعنصر تاريخيٍّ تفسيريّ، سعيًّا مني إلى فهم العالم الذي نعيش فيه، بالإضافة إلى قناعةِ أنه لا يمكن استرجاع ديناميكية تجعل مجدّدا التقدم في نيل الحرية والمساواة ممكنة؛ إلّا بانطلاقها من السياسة.
مرجع هذا النص: كتاب جوزيب فونتانا El Siglo de la Revolución, una historia del mundo desde 1914, Editorial crítica, Barcelona, 2017.