جدل حول السنة: أبو شَهْبَة ضدُّ أبي رَيَّة
لا شكَّ أنَّ الخلاف حول السنة خلاف قديم جديد، لا يزال يتجدَّدُ كلَّ وقْتٍ، ويطل علينا برأسه كل حين. في هذا المقال حاولتُ أن أقفَ على أصول هذا الخلاف، وأن أضع خطوطا عريضة للمباحث التي يتجادَل حولها المتخالفون. وقد اخترتُ أن أعرض لهذا الخلاف من خلال كتابين اثنين؛ كُتِب الأوَّل انتقادًا للمُحَدِّثين وطريقتهم في قبول الأحاديث وردِّها، وكُتب الثاني ردًّا على الكتاب الأول ودفْعًا لما رآه يجانب الحقَّ فيه. أما الكتاب الأول فهو كتاب محمود أبي ريَّة (أضواء على السُّنَّة)، والكتاب الثاني هو (دفاع عن السُّنَّة) لمحمد أبي شهبة.
والسبب وراء اختيار هذين الكتابين؛ أنهما أوفيا على المطلوب، وجمعا ما لم يجمعْه غيرُهما، يقول أبو شهبة: “ولمَّا صدر كتابُ (أضواء على السُّنَّة المحمَّديَّة) وجدتُ المؤلف تلقَّف فيه كل ما قاله الأقدمون والمحدثون من طعون على الأحاديث ورجالها… وقد رأيتُ أنَّ الردَّ على هذا الكتاب يُعتَبَرُ ردًّا لكل ما أثير حول السنة من طعون ولغط[1]“. ونرى أيضًا أن أبا شهبة قد استفاد من ردود السابقين عليه، لا سيَّما رد المُعَلِّمِي اليماني، ورد محمد عبد الرازق حمزة، وشكرهما في مقدِّمة كتابه على ما قاما به من مجهود[2].
منزلة السُّنَّة من الدين
يتساءل الفريقان أولًا عن منزلة السنة من الدين، ومكانتها من التَّشريع الإسلامي. يرى الفريق الأول أنَّ القرآن الكريم هو الأصل الأول للدين، والسُّنَّة -بجميع درجاتها- هي الأصل الثاني، ومنزلة السنة من القرآن؛ أنها مُبَيِّنَة وشارحة له، تُفَصِّل مُجمَله، وتوضِّح مُشْكِله، وتُقَيِّد مُطلَقَه، وتُخَصِّص عامَّه، وتُبَسِّط ما فيه من إيجاز، ويعتمدون في ذلك على بعض الآيات، مثل قوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44][3].
ولا يُفَرِّقُ الفريق الأول بين السنة العملية وسائر أنواع السُّنة من حيث الدرجة، ويرون أنَّ السُّنَّة بوجه عام تقع منزلتُها بعد منزلة القرآن مباشرة، أما الفريق الثاني، فيُفَرِّق ويُفَصِّل، ويَرى أنَّ السُّنَّة القوليَّة في الدرجة الثالثة بعد السُّنَّة العمليَّة التي تلي القرآن في المرتَبَة، والقرآن حاكِم على الكُلِّ. والسُّنة عند هؤلاء مظنونة في تفصيلها، وإن كان مقطوعا بجملتها[4].
لذا، فالسنة عند الفريق الأول تستقل بالتَّشريع، ولكنها عند الفريق الثاني لا تستقلُّ؛ لظَنِّيَتِها؛ فلا نجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دلَّ على معناه دلالة إجماليَّة أو تفصيليَّة[5]. ومن أجل ذلك كان التحقيقُ أنَّ العمدة في الدين كتاب الله في المرتبة الأولى، والسنة العمليَّة المُتَّفَق عليها في المرتبة الثانية، أما أحاديث الآحاد فهي في الدرجة الثالثة[6].
يرى أبو شهبة أنَّ القول بقصر السنة على المتواترة العملية تفريط في آلاف الأحاديث القولية المنقولة عن النبي، أما أبو ريَّة فيرى أنَّ القرآن هو الأصل الذي ينبغي أنْ يُحْتَكم إليه في تلك الكثرة المتكاثرة من الأحاديث القوليَّة؛ مُعتمِدًا في ذلك على بعض الآيات القرآنية مثل قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]، وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38][7].
متى دُوِّنَتِ السُّنَّة؟
يرى أبو ريَّة أنَّ أحاديث النبي لم تُكْتَب في عهده كما يُكْتَب القرآن، ولا كان لها كُتَّاب يُقِّيدونها عند سماعها كما كان للقرآن كُتَّاب، بل جاءت أحاديثُ صحيحة تنهى عن الكتابة مثل قول النبي: (لا تكتُبُوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني غيرَه فليمحُه)، وأنَّ الصحابة استأذنوا النبي في الكتابة فلم يأذن لهم[8]، وكان تدوين السنة في آخر عهد التابعين، في حدود الخمسين ومائة؛ فأحاديث النبي إذن لم تُدَوَّن في حياتِه ولا في عصر الصحابة وكبار تابعيهم[9].
يرى أبو شهبة أنَّ النهي عن تدوين السنة في عصر النبي يرجع إلى أمرين؛ الأول: الاعتماد على قوة حفظهم وسيلان أذهانهم وعدم توفُّر أدوات الكتابة فيهم، والثاني: لما ورد من النهي عن كتابة الأحاديث والإذن في كتابة القرآن الكريم خشية أن يلتبس الحديث بالقرآن، أو أن يكون شاغلا للصحابة عنه، لا سيما وأنَّ القوم كانوا أمِّيين، بل جاءت الأخبار أنَّ بعض الصحابة كان يكتب أيام النبي مثل عبد الله بن عمرو بن العاص[10].
عدالة الصحابة
يرى أبو ريَّة أنَّ البعض غلا في القول بعدالة الصحابة حتى قضوا بعدالتهم جميعا حتى من انغمس منهم في الفتنة أو نزل الكتاب بنفاقه، بحيث لا يوجَّه إلى واحد منهم نقد، أو تُقابَل روايتُه بشك، ومن فعل ذلك فقد فسق، وهذا إسراف في الثِّقة، وإفراط في التقدير، وقد أوجب العلماء البحث عن رواة الحديث؛ إذ لا يصح أن نأخذ قول أيِّ إنسان دون تمحيص وتحقيق ونقد، إلا أنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة، على حين أنَّ الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضا، بل كفر بعضهم بعضا أحيانًا[11].
يُعارِض أبو شهبة هذه الرؤية؛ فيقول: “الصحابة كلهم عدول عند جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء والأصوليين، ومعنى عدالتهم أنهم لا يتعمَّدون الكذب على رسول الله؛ لما اتَّصفُوا به من قوة الإيمان… وليس معنى عدالتهم أنَّهم معصومون من المعاصي أو السهو أو الغلط”[12].
الرواية بالمعنى
يرى أبو ريَّة أنَّ الصحابة اختلفوا في رواية الحديث؛ فبعضهم كان يرويه تامًّا، ومنهم من يأتي بالمعنى، ومنهم من يُورِدُه مُخْتَصَرًا، وبعضهم يغاير بين اللفظين ويراه واسعًا إذا لم يُخالف المعنى… وكانوا يقولون أنَّ الكذب على من تعمَّده[13]. أدَّى هذا بأبي ريَّة إلى القول بأنَّ أحاديث النبي التي بين أيدينا لم تأتِ صحيحة المَبْنى، مُحكَمة التأليف، وأنه دخلها من التغيُّر في ألفاظها ومبانيها ما دخلها، وهذا ما جعل بعض النُّحاة لا يستشهدون بالحديث في تقرير قواعدهم؛ لأنها لم تُرْوَ باللفظ.
يرى أبو شهبة أنَّ الأصل أن تكون الرواية باللفظ المسموع، أما الرواية بالمعنى فهي رخصة يُتَرَخَّص فيها بقدر الحاجة إليها إذا غاب اللفظ عن الذهن، أو لم يتأكد منه… والرواية بالمعنى لا تجوز إلا لعارف بالألفاظ ومقاصدها، خبير بما يحيل معيانيَها، بصير بمقدار التفاوت بينها، ويرى أنَّ هذه الشروط تجعلنا نطمئنُّ إلى ما يُؤدَّى إلينا وإن كان بالمعنى[14].
نقدُ المتن
يتوهم كثيرون في رأي أبي ريَّة أنه إذا صح الإسناد صحَّ الحديث، وليس كذلك فإنه قد يتفق أن يكون رواة الحديث مشهورين بالعدالة، معروفين بصحة الدين والأمانة، غير مطعون عليهم، ولا مستراب بنقلهم، ومع ذلك يعرض لأحاديثهم أعراض على وجوه شتى من غير قصد منهم إلى ذلك[15]. ويرى أنَّ علماء الحديث حصروا أنفسهم في نقد السند، ولم يولوا نقد المتن أهميَّة كبرى.
لا يُخالفه أبو شهبة كثيرا في هذا، إلا أنَّه يرى أنَّ عناية المحدثين لم تتوقف عند العناية بالأسانيد فقط، ولكنَّهم عنوا أيضا بنقد المتون، ولكنهم لم يُبالغوا في ذلك مبالغتهم في نقد الأسانيد[16] لأمورٍ منها: أنَّ العقول ربما لا يمكنها الاستقلال بإدراكه؛ فينبغي إمراره والإيمان به كما هي، أو أن يكون المتن من قبيل المجاز لا من قبيل الحقيقة، أو أن يكون من قبيل الغيبيَّات، أو من الأخبار التي لم يكشف العلم عن مساتيرها[17].
كلمة أخيرة
حاولتُ الاقتصار قدر الإمكان على مفاصل الخلاف؛ فاختصرتُ وأوجزت، ولكن عليَّ أنْ أقول أخيرا أنَّ الخلاف بعد ذلك يتشعَّب ويتشرذم، وينتقل إلى خلافات حول موقف بعض الصحابة من الرواية، وخلاف في الحكم على بعض الصحابة والشخصيات الحديثيَّة، والموقف من كتب السنة؛ لا سيما صحيحي مسلم والبخاري، وكل هذا موجود في مظانِّه إن أردتَ الاستزادة.
[1] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 60، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [2] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 61، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [3] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 65، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [4] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 12، دار المعارف، الطبعة السادسة. [5] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 13، دار المعارف، الطبعة السادسة. [6] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 15، دار المعارف، الطبعة السادسة. [7] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 375، دار المعارف، الطبعة السادسة. [8] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 18، دار المعارف، الطبعة السادسة. [9] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 240، دار المعارف، الطبعة السادسة. [10] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 76:77، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [11] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 311، دار المعارف، الطبعة السادسة. [12] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 199، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [13] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 53، دار المعارف، الطبعة السادسة. [14] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 137، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [15] أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو ريَّة، ص 71، دار المعارف، الطبعة السادسة. [16] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 94:96، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019. [17] دفاع عن السنة ورد شبهة المستشرقين والكتاب المعاصرين، محمد محمد أبو شهبة، ص 117:119، دار القدس العربي، الطبعة الرابعة 2019.