بين الوجود والعدم

والغسق يسربل المكان بحلل الجمال، ويلألئه بضياء الحسن والبهاء؛ جلست صاخي السمع، متقد الفطنة والتبصر، كما احتشد مني الاعتبار، في حضرة شيخي المعتّق بالمعارف، وهو يقتعد مصطبته المجلّلة بأنوار الأوراد والأذكار، وأوبات الليل، يعتمر عمامة فضيّة اللون، مطرّزة بحروف لغاتِ الكون: ما كان وما هو كائن والـ”مايزال في مشيمة الغيب… سيدي الكان لجواهر الحقائق. الماهر في القول الفصل فيما يقال وما لا يقال، المتمكّن من استكناه ما يُضمُّ في أرحام الأسرار وما حوته السرائر، واستشفاف ما يجوب في المتسترات خلف الظنون والمضمرات، وما قرب أو انتأى من الباب المعاني والفهوم خلف المعالم والرسوم. قطب الأقطاب، المتنور بسناءِ مدارك الكلم، المتنفّذ في المعنى والفهم والإشارة، الجائل في مغاوير العبارة وخفاياها، السابر لفنونها والفاسخ لمصاعب مساربها، والرّاسخ في استجلاء ملتبسات التأويل فيها… أشرقت بسمة مهيبة بمحياه، مثلما تشرق زمردة سنية في صدر ملاك، فتوهّجت طلعته وضاءة وملاحة، قرفص بجانبه، عن اليمين مطأطئًا الرأس ساهمًا كرونوس الرهيب، قاتل أبيه أورانوس بمنجل الموت، وعن يساره أوديب بعينين منفقئتين. أسيانًا ينتحب في صمت، بينما الشيخ، مرّة بعد مرة، يكفكف دموع الحسرة عن صدره، مربّتًا على كتفه بيده اليسرى يتأبط أوديب مخطوط خطيئته المضمخة بدم الندم ولعنة الإله زيوس.

أطرق الشيخ رأسه كأنما يخمن، أو ينتقي أجود الحديث، ثم قال بصوت خفيض:

– ” إذا ما أصبت بفتنة “أن تكون هنا”، وضعت بين الحيرة والحيرة، بين الفراغ والفراغ، وكان سقطك إلى حيث لا قاع ولا قعر وقد ماجت فيك الأهواء معربدةً حتى تشرّدت وتاهت منك الجهات والمقاصد، فما عليك سوى أن ترقص بكليتك وروحك، أن تدور بعنفوانك حول نقطة سرّك، دونما توقف حتى تغيب عنك ويغمى على تعرّفاتك ويستشري فيك الوجد فيتخلّى عنك الوجود وتنتفي هباءً في غور النسيان والتّرك والتجرّد، عليك أن ترقص بكل الذي يضنيك ويكلم صدرك ويربك الوجدان، والذي يأخذ بتلابيب كونك إلى جوفِ حزنك الفتّاك؛ ذاك الماحق لشتلة المحبة وبذرة العشق فيك، والمتلِف لقلبك الطيب السموح في أصله… ياولدي! إن ما يواجهك تجهله مثلما تجهل الزّهرة اليانعة حتفَها الكامن في تلك العاصفة التي تأتيها في الخريف القادم فلا قبل لك بمدى قسوته وبطشه الأعمى، وتجهل لمَ أنت منذور لصده، تلك الصخرة الصلدة والتي من رخام صقيل سويت. فما يواجهك، كلّ شيء  فيه أكبر منك، ومن نواياك المجنونة المنفلتة أشدّ من عنادك اللحظي الطائش، وتعنترك الأخرق، أنت تواجه دورة بينية تعاقبية تستمد ديمومتها واستدامة وجودها من ذاك التكررالأبدي: عدم يعقبه انبعاث، وانبعاث يعقبه عدم. بينما أنت بين هذا وذاك، سوى خائر البنيان، ضعيف متعنت، تمور في مخاضات صياغة هذا “الوجود السر”، فتتلظى منك الأضلاع والأنفاس، وينتكس متكسّرًا فيك ذاك التّوق الجامح الأحمق بفرط جشع التملك والتكديس، الذي لا ينتهي دومًا سوى بالخيبات والخراب والشظايا، وأخيرًا- وقد استوى خريف عمرك- تلوذ بذاك الاستسلام المدوي الأخير لأنياب تلك الطاحونة الجوعى من الفتك: سيرورة خلق أزلي، يحتدم فيها الوجود والعدم… هذا قدرك المحتوم، وما تحصل عليه حظك من قبل أن تكون؛ فلست شمسًا ولا نجما مديدي البقاء، فلا تبتئس ولا تتضجر، ذاك هو المصير لك، وللأشياء والتمني، ليس لك غير أن تُقبل وتدبر ولا يتبقى منك باقية، وإنّما حكايا تحكى عن الفراغ تلو الفراغ، وآثار باهتة لحروف وكلمات مآلها النسيان. أنت سوى وهم يستجدي وهما-هي ذي الحقيقة ثابتة- وللكل واحدة وإليها الموجود يسير، ويحث الخطى في تسارع مستعر. غير أنّ الطرق والسّبل صوبها تفارقت وتعدّدت كما تعدّدت الأفكار والفهوم حولها، ذاك مآل وحيد أوحد، ليس يختلف ولا يتنوّع مهما يكن من أمر والسّير إليه قدر مقدور، هي نشأة منذورة للزوال والفناء لا حياد ولا زوح عنها فأنت ورقة يتيمة لا تقوى على البقاء فتختار أبدًا الرحيل”.

زفر الشيخ عميقًا كأنّه يطرد نفسًا شابه درن غفلة أو لفتة ماكرة، ثمّ استطرد موضّحًا ومتوسّعًا في كلامه:

– “خطيئتك الكبرى في حياتك، وجرمك الجلل في حقك؛ أنّك قد لا ترى في المرآة حقيقة نفسك، وتتماهى مع توهماتك متخاذلًا ومتماديًا في التّعامي والتّجاهل، توهّمات تنطبع على مرآتك، أنيقة جذابة متبخترة متعالية، غير أنّها مخادعة ماكرة المظاهر، وهي سوى صورة جميلة يصوغها توقك الهادر، بألوان وبهجة الأعراس، ويعطرها بأريج بساتين ومروج الوهم والأهواء. فتستعذبها وتطرب لها نفسك، وذالك إنما لاستهتارك الأرعن واستخفافك بضعفك الإنساني الفاضح، ومحدوديّة النّفوذ والسّلطان لديك على مصيرك والموت، ولكي تهدأَ وتستكين منك مجامع مملكتك وأمجادك؛ كرّسْ انطلاقك والمسير لسبر مكامن الحب فيك، وفي الأشياء من حولك. توحّد في منابع الجمال والتجرّد لا في سواها، فثمّة الجدوى والأجدر لو رمت القسطاس والإنصاف، أنت كائن يعتوره الخؤور وسوء المنقلب بالفناء فالعقل منك نعمة في بناء الذات وعمارتها، وآفة ونقمة في الحروب والتدمير، وفي استئصالك للحياة والوجود. وإقبارك الأمل والعشق فيك… ياولدي! عليك أن تنشر ما يلتحم به جرحك والآخرين من حولك. وتنثر الأزهار في تربة بستان إنسانيتك. أن تحتضن البرعم الغض في انطلاقته، وتربت على صدر الذي ينتظر بباب سرك، حين يتفتق فيك، وتشرق شموس المعرفة في عينيك. ويتسع فيك الكون بما يحويه من  دقائق الحقائق والألغاز. عليك أن تتملى الشفق أمامك، كيف هو رائق وجميل، يدللك بما يسعدك ويلاطفك بسحر ألوانه وبهاء ضيائه…”.

يسمع الآن هديل يمامة استقرّت فوق الكرمة بجوارنا، أطلق الشيخ نظراتَه متأمّلًا الأفق المتوهّج بحمرة المغيب، بينما تورّدت شفتاه بابتسامةٍ شفيفة ودودة، أومأ إلينا أن حان أوان المغادرة، مطّط ساقيه النحيلتين وهمّ واقفًا، ودعنا بحنان وانحدر يسير متثاقل الأطراف، وسمة المعارف والحضور بادية عليه، في ذات اللحظة، كان النّقاش والتّأويل حول حديث الشيخ وإشاراته قد احتدم بين كرونوس وأوديب، اللذين ما لبثا أن امتطيا نسرهما العملاق؛ نسرًا هلاميًّا من ضباب وغيم، كان زئير رؤوسه الثلاثة يشطر الفضاء بينما أجنحته الأربعة كبرق تخترق الزمن وتطوي تحيّزات المفهومات وتستحيلها من جديد أسئلة وأحجيات تطلب تمحيص واختبار الرائي النبيه المتفطن كما الغافي.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد كريش

تدقيق لغوي: أمل مصري

اترك تعليقا