انتسال المعنى

تأمل في أعمال الفنان التشكيلي بشير آمال

المعنى سليل الأثر وامتداده واتساعه، هو ذاك الظل السائل للإشارة والرمز والتومئة، ولتلك العبارة المنطوقة أو المكتوبة. ومن هذا القبيل؛ تحضرنا تجربة الفنان بشير آمال(1) حيث تقوم على تركيب المعني بالمعنى، لتأسيس عوالم للُجوء والهجرة.

ألوان وحركات المبثوثات في الوجود، وأصداؤها، تكتنز “المعنى” (المعنى في مطلقه الأنطلوجي) وتستبطنه وتخفيه. وكلها تتلفع بتمظهرات الوجود المختلفة، في شكل ملغوزات ورموز وعلامات وأسرار.

فإدراك معنى الأثر يعني للذات، تحررًّا وانتقالًا  من كون إلى كون آخر. ومقام هذا “الكون الآخر/الوضع الآخر” منوط بمدى جدوى المعرفة المستجلية.

العبارة، الكلمة، الرمز، الإشارة “كيفما كانت صفاتها” هي أوعية ذاتية للمعنى، هي آليات نسقية لتوليد واستنساخ المعاني، وتناسلها دونما انقطاع، فضلًا  عن اكتنازها ذاكرة أنثروبولوجية تراكمية تفاعلية تشكل منطلقات ومقوّمات تاريخية وحضارية، لرسم خرائط الأصل والجذر، وتطورات الكائن البشري على اختلاف أجناسه وأعراقه، وشعوبه وإثنياته وجغرافياته وزمنيته.

فهنا لا انفكاك لنا من أن تستدعينا اللغة لاستحضارها، أداة طبيعية ضاربة في البدء التعبيري والتواصلي، البشري/الإنساني (على أساس، في ما يخصنا إجرائيًا، أننا نعتبر اللغة جمعًا جامعًا لما تستهدفه تلك النسقيات جميعها، من بلورة للمعنى، واستقرائيته السيميائية، وتأويلاته الدلالية) فباللغة نصيغ المعنى، وباللغة نقيم تأويلها، وباللغة نصيغ فهمها وغائيته.

إعلان

وبالتالي، فاللغة تشمل كل آلية أو حدث يهتم بنحت وتشكيل متنًا ما (أثرًا)، معطى للتفكير والاستقراء والتأويل والاستنباط والتوصيل: أكان متنًا كتابيًا أدبيًا، أو بصريًا فنيًا تشكيليًا، أو سمعيًا موسيقيًا، أو إشاريًا حركيًا.

اللغة ( المنطوقة والمكتوبة على حد سواء) منظومة تركيبية تواضعية، تحكمها تلك القواعد والمنطلقات العلمية خاصتها، منظومة تستهلك الرمز والعلامة لصياغة الكلمة، غايتها تركيب نص محشو بمعانٍ مباشرة وغير مباشرة مُضمرة، معانٍ سابقة عن النص ولاحقة به في نفس الوقت، باعتبار أنّ الحرف علامة رامزة قائمة بذاتها، لها تعالقات سيميائية ذاتية وخارجية، تتكثف دلالاتها وتتوالد في وضعيات الجمع: كلمةً ونصًا و”غرافيكيا- graphique”. وبالتالي تكون اللغة – على هذا المنوال – منظومة علامات ورموز تقوم بنياتها على نظم معينة لغاية التعبير والتواصل والتوصيل.

اللغة قطعة من الذات، شرنقة للهوية وتربتها، منها تنطلق، وإليها تعود وتلوذ. وحين البعد والغربة، تبقى اللغة ذاكرة أبدية للهوية، وأرض لشتلة إنباض الأسطورة.

لغة الفن التشكيلي

وعليه، فالمتن التشكيلي لا يخرج عن مدار ما أسلفناه. إذ يشكّل لغة مخصوصة قائمة بذاتها، قوامها النَّظْم بمفردات بصرية وملمسية. مَحْتِدها وأدواتها اللون، والشكل (علامات ورموز وبصمات) والضوء، والأثر الحركي، وأشياء أخرى.

إحدى لوحات الفن التشكيلي لبشير آمال

وبالتالي، لغته لغة في عموميتها بصرية وقد لا ينسحب هذا التوصيف كليًّا على نمط الفن المعاصر، إذ يتضمن هذا الأخير جميع أنواع اللغات التعبيرية الفنية، وغيرها من المستحدثات الوسائطية: البصرية والسمعية والحركية، ولغة الفراغ والبصريات الافتراضية الذكية.

عمومًا، الصنيع التشكيلي – مهما اكتنف الوضوح معالمه، لا يفتأ يشكّل أحجية متنامية في غورها صوب عمقها السيميائي، مشْكَلَة ملتبسة على مستوى تفكيك طبقات شفراتها ودلالتها التحتية.

وذاك ما خبره التاريخ، طبيعة الرسومات والصور أن تتسربل بأبدية التوليع الجمالي والاستدعاء الفكري، حيث أنها ليست نهائية مختتمة، ولا مستقرة دلالتها، ولا مستنفذة في إفصاحها؛ بل متغيرة زئبقية الكنه، مفتوحة على الممكنات القرائية والاستقرائية. مرد ذاك متن فني أبدي، قد يتقادم، لكنه لا يفنى، حي لا يفتأ يجدد ذاته وتفاعليته بزمنية حاضره.

أليس الفن ضربًا من ضروب الفتنة والإفتان؟ سحر آسر سالب، يستقدم التفكر ويستثير التفلسف، حيز للاستفراغ والتحرر والانطلاق. سحر بنقيضين: جميل ومقلق في الآن ذاته.

الفنان خيميائي خبير، يسبك من الوهم جمالًا  بصريًا وألغازًا ببصيرته وعبقريته، يستجلي ما يتخفى، عبر مرموزات أيقونية، وشعريات بديعية استيتيقية. ويعمل على تشكيل خرائط ومتاهات للاستكشاف والإنصات، والتوحد في الجمال، خرائط تستدعي سؤال الوجود لتستبقيه قائمًا، وتعمل على تكثيفه.

فبالسؤال نوطد ونرسخ لغز الوجود في الذات، لغزًا يخترقها كجمرة الرماد، متأججًا ومربكًا يلهب فيها قلق الماهية والمآل.

التشكيل هو روائع كما هو متاهات، إبداع لشراك وكمائن التوهيم. شُغل الفنان بشير آمال، هو كذلك، يبتكر المناورات الفنية، الفكرية والفلسفية، ويشعل الاستفهامات. فولعه أن ينشئ فضاءات متراكبة ومتشابكة، تبدو معالمها، تشبه تلك المدن التي يحلم بها الأطفال، في فرحهم وحزنهم، لا يستوطنون ولا يستضيفون فيها سوى ما هو جميل صافٍ.

يركِّب الفنان معالم مدنه على غرار الأسطورة، والحكاية والقصيدة، ويصففها بذاك الذي يهب الشعر أناقته وشاعريته وفتنته، ويغمرها بخيال يُنيل ترحالًا وتطوافًا بين نورين:

نور الشفق، ونور الغسق. حيث تكون اللوحة قد استكملت صفاءها وتحررت من عوائق الليل وغبشه. لكن، هذه المدن المتأنقة السعيدة، رغم ذلك، تُبقي فينا عطشها وتلك الحاجة للارتواء. هي لعبة مزدوجة تقوم على تعشيق الجمال بالفكرة، واستدراج المندلس في الخفاء من المعنى، عبر البارز المعلن من البديع، جميل يضمر أحجيات مستعجمة. وذلك مع إقلال تقني وصباغي يروم الرواية والحكي، فقط بما تلزمه حاجة المعنى، دونما إنقاص مفرط يبتر العبارة، ولا مبالغة فائضة تفسد القصد.

مراحل الفن التشكيلي لدى بشير آمال

تبلورت متدرجة التجربة الإبداعية للفنان بشير آمال ضمن مسار تراكمي تطويري نقوم باختزاله في ثلاث مراحل بارزة أساسية:

مرحلة السديم الأسود أو مرحلة السواد، ومرحلة “الفسيفسائية الفائرة”، وحاليًا، مرحلة الرماديات. وهي التي تختبر الملصوقات الرمزية بشكل أساس. وعندها سنتوقف بالقول قليلًا؛ لما نرى لها من أهمية خاصة من حيث زخم متنها الإبداعي والتشكيلي، وغنى تركيباتها سيميائيًّا وفلسفيًا.

مرحلة السواد السديمي

اتسمت بملمح استتاري إيمائي، حيث فضاءات الأسود واطئة مهيمنة، مشكلة الشطر الأوسع من بنية اللوحة. يخترقها أحيانًا انبثاق بعض الأحزمة وأشكال هندسية، تقليدية (إقليدية): كالمستطيل والمربع. وأخرى مرتجلة على شاكلة ما يذكر بالحرف العربي، والرقش والتوريق الزخرفي. وكلها تمتح لونياتها من مقامات كروماتيكية متوهجة، قوامها الأبيض والأحمر ومشتقاته. فهذا التلألؤ الطيفي، المطل من هنا وهناك، يكسر هيمنة سواد هذا السديم الموحي بصمم بصري، لا يتيح للتأمل سوى مسربًا أحادي الاتجاه. أليس في الأسود مبدأ ومنتهى الغياب والفناء؟ فمن السواد ينبلج النور وإليه يعود ليتلاشى وينتفي.

أليس الأسود نورًا في غياب النور، ومجمع الألوان في تخفيها، فصمته صائت في كمون، وبوحه جهر هامس في استخفاء. يقول بالإماءة المستترة، ويحكي بحدسية الوجدانية والروحية. ثقب أسود يثوي الحرف والكلمة (وما حوت) ويمنع الإفصاح من التلقائية.

من خلال طبقة صباغية شفيفة على غرار حجاب، الفنان بشير آمال، أحيانًا، يطمس أو يمحو ملامح ملصوقاته كليًّا أو جزئيًّا، مكتفيًا بملامح تكتنفها ضبابية تحجب تعرفها لتغدو شبحية، سرابية التحديد. لتقيم قراءتها مقام الاستفهام والحيرة.

السواد امتناع الوجود من الحضور في الرؤية، للتبدي والترائي في الخيال والفكرة والمعنى، هو سياق لإنتاج التوحد في الخفي، والممكن ونقيضه، السواد عتبة ومنتهى الإيماءة المراوغة، حيث تومئ في حيز سرابي، فيه تنصهر وتنفصل (في ذات اللحظة) كينونات متناقضة الجوهر مثل: الفراغ والامتلاء، الحضور والغياب، اليقين والحيرة، الحياة والموت، هو الحدس يتطلع للمسك بما خلف الدثار والحجاب.

السواد مثل نقيضه البياض، غير أنهما مترادفان، كونهما “فضاء إقامة” لما يتستر ويستعجم في أندلاس خلف الرؤية، غير أنّ لكل منهما فلسفته المخصوصة في الإيهام والإخفاء. هما لونان زاهدان في بهجة اللون، يقفان منعزلين عند مفترق الألوان، الأسود يضمر الألوان جميعها في طيّه، والأبيض يعرضها منصهرة نورانية دفعة واحدة . هكذا ليبدو الأبيض فصيحًا متجردًا، والأسود ليلًا  حاجبًا متكتمًا.

مرحلة “الفسيفسائية الفائرة”

تراكيبها تبعثرية مثلما تتناثر حروف وكلمات تاهت عن مستقرها السردي، لتهيم في الخواء، تنظم قصائد تتهاوى توًّا قبل أن يشرق صبحها، ليبقى المعنى معلّقًا بين عتمة وعتمة، وبين تبيان وإبهام. المرحلة تعتمد استحداث عواصف وزوابع لصياغة متنها الجمالي وسرديتها الرامزة، ذاك لما للعاصفة من مكنة في إبداع أثر التلقائية والعشوائية الذكية، المربكة لمنطق استقامة السطر في رياضيته، ولدقة ميزان الزمن في حسابه.

العاصفة مقام الالتباس والحيرة، والتجلية والتجدد في آن. فبالعاصفة تتفكك اليقينيات ويتكشف الـ”ما تحت”، هي نوع من التنظيم والـ”عود على بدء”. العاصفة تُجرد الكلمات والقصيدة من وجهتها وسطوتها. وتُنضج الزهرة في خريفها والجفاف.

فلسفة تشيّد البنيات بتهديمها، وتقيم الانتظام بالفوضى. فالفوضى لا تشي دائمًا بالفوضى والاختلال، بقدر ما تكون مبدأ انتظام وقاعدة انسجام، بل الفوضى تُهنّدس، بسرها الخاص، جمالًا بديعًا، على غرار ترتيب الطبيعة لفصولها الأربعة، مقيمة يباس الإدبار، في خُضُلَّة الإقبال.

وبالتالي تدور الدائرة دورتها، ومعها يدور، في آن واحد، ما يتلف ويبيد، وما يبعث ويحيي. الفوضى نظام قبل النظام وبعد النظام. فسجية الفن وفلسفته، أن يسلك مسالك الهدم لا البناء والتشييد. وبهذا يستديم الإبداع ينعه وإثماره وديمومته.

الفن التشكيلي

هذه المرحلة شكّلت، بشكل واضح، منطلق افتتان الفنان بشير آمال، بفلسفة وسحر الملصوقات وغواية متونها المركبة بسيميائيتها الغنية، فنيا وتشكيليا و”إستيتيقيًا”. تأثيث الفضاء للوحة يسلك رهان التشظية والنثر، والبعثرة الأريبة والملهَمَة في انطلاقاتها وحركيتها. مما يضفي على مرئية هذا المتن التجريدي الـ”ما بعد حداثي“؛ ملمح الشتات، حيث الشذور الورقية ومزقات أشكال شريطية وبصمية، كعلامات ورموز مجردة. إضافة إلى مثلثات وتبقيعات “خلاسية” الهندسة والملامح، مرتعشة الحواف، تنزق هنا وهناك كأنما تستجدي قرارا غير موجود.

تبدو بنيات أعمال هذه التجربة تمتح جماليتها وتستمد بعدها الدلالي من دينامية بصرية تروم هدم بؤرة استقرار المسار، وإقامة بؤرة قلق الوجهة، القائمة على تفتيت ونثر نظام الارتباطات المؤدية للقراءة التلقائية، غير أن الأشياء وآثارها كما تبوح في إقبالها تبوح أيضًا في إدبارها وانقلابها، بل أكثر في غيابها وعدمها، ويبقى الخيال محتدها ومفتاحها.
المتون الجمالية للمرحلة مضطربة مترججة البنيات، كأنها تعتمد انتقاء ما تبقى من رفات تلك الكلمات المنسية في تلك الطرقات المضمخة برائحة أولئك الأولين، الذين عبروها ليلا في صمت، دون أن يعلموا وجهتها ولا منتهاها… لم يسألوا عنها ولم يتعرفوا، فقط، كان عليهم أن يترجلوا مسرعين… سلكوها لأن أقدارهم مرت من هناك ذات صباح… أو كأن حروف هذه المتون لم تعد تدرك ذاتها، أضاعت البوصلة عند الذاكرة، فانفسد واختل صحوها لتنتهي إلى تحير يدور حول المعنى الأصلي فلا يجده.

ذاك المعنى المنفلت الذي لا يحضر سوى ليغيب. حيث المقتطعات الأيقونية وشظايا الصور تجاور الأخريات ضمن دوامات دوارة، تتقاطع أحيانًا لكنها لا تتلاحم ولا تنصهر ليقوم الاستكمال والتكامل، على خلاف مرحلة “السواد السديمي”.

مرحلة الرماديات والملصوقات المكثّرة

وهي المرحلة الحالية، وتبدو حبكة الفنان التشكيلية تقوم على فلسفة تركيب وصياغة المعنى واستزادتها وتكثيف ترميزيتها، هكذا ليكون بشير أمال فنانًا وأديبًا متفلسفًا في اللحظة ذاتها، ينظم القصيدة وينسج الحكاية بالحرف التشكيلي ودواله السيميائية. مما يمد أعماله بغنائية المعالم وغنى الضِّمن، حتى لَيرتبك المراد وتتغبّش وجهة الولوج أمام ذاك التلقي العابر في استعجال. وكأن الفنان يقوم بدس نور الفجر في ثنايا ظلمة الليل وحلكته.

عمل الفنان، عالم ثنائي الضمن، يثوي عالمين مدمجين أو معنيين (كينونتين):

عالم الملصوقات وعالم فعل اليد فيها وما تقيمه. فتغدو اللوحة فاكهة، تُستعذب منها أناقة القشرة، ويُلتذ بطعم الثمرة، والغاية من ذلك ليست سوى ذلك، أي أن الفنان يضمر المعنى في ما يبديه، على غرار تورية الشاعر.
لا انفكاك للمدلول عن الدال، ولا المعنى عن العان، ولا للأثر عن تلك اليد السحرية العارفة بأسرار الجمال ومكامنه. يد تعلي الأثر إلى دروة البديع ومقام الإفتان والإمتاع، يد لها مكنة الخلق وابتكار ممكنات الوجود من عدمها، واستدراج الكمال واللذة من صدر العماء، وفجيعة القبيح، يد تعرف أين يليق بها أن تبحث وتنحت، هي كإلهة الخيال، تستمد سرها من سماء البدء، ألم تكن آلهة أرض الإغريق سوى سلالة تلك الأيادي الملهَمة الملهِمة التي أبدعت مباهج الفتنة والانتشاء والدهشة والإعجاز؟ سلالة تعشّقت بالجمال وحكمة التفلسف القصوى.

بدقة جراح الفنان بشير آمال ينسج المعنى ويرتق الدلالة، مفعِّلًا  تلك الصور والرسومات المهاجرة التي يقوم بانتزاعها من مواطنها ومتونها الأصلية، ليستوطنها من جديد، لاجئة بقوة التهجير، من خلال فعل التقطيع ودهاء الإلصاق، غاية ذلك بلورة أحجيات وأحياز لمعان جديدة مستحدثة من الأشلاء، وأكوان تتفتق لتوها مثلما تتفتق الكلمات من الحروف، ويتفتق الصّدّ والانعتاق من العبارة، هكذا تتولد متون الهجرة بالتجاور وبالتناسخ، تآلفًا أو تنافرًا، هذه الأحياز مستقلة بخيالها الذاتي، تستقطب الدلالة من جديد عند بؤرة الرؤية وسرديتها في لحظة حلم يقظ، ورحلة مصغية متدبرة.

على مستوى التجميع والجمع، كل حيز/ متن، من هذه الأحياز يتواشج مع الآخر والآخرين، حيث تتمدد متعاضدة في وحدة نسقية، فنية تشكيلية وفلسفية. فتلك هي البصمة الأسلوبية الفنية للفنان بشير آمال ونهجه الفكري والبحثي، فالفنان يعرف جيدًا أن ما تحبكه يده بما تمليه سلطة الدلالة، هو عين جمال الفكرة وجوهرها، وذلك هو أوثق وأديم من جمال وأناقة الخدعة، ودهشتها البصرية. أحيانًا تكون الملصوقات عبارة عن مقصوصات داخل نصوص موسيقية وكاليغرافيكية رمزية وعلاماتية، أو تخطيطات بملمح هندسي على غرار الرسومات البيانية للفنان دافينشي مثلًا ، وبالتالي هي دلالات مجتزة من عوالم سيميائية قائمة بذاتها، تستمد هويتها من تلك المتون والسياقات المخصوصة، بمعنى أنها ذوات نشأت دلالاتها وتبلورت ضمن تلك التعالقات والارتباطات المتْنية المتكاثفة.

هكذا، وبتفعيل لتلك المعاني المحررة من أنساقها الأصلية، يقوم الفنان بإنشاء مرابض بصرية، وبرازخ لمعان تشكل معابر مفتوحة، وأمكنة لفترة الانتظار. تقوم الحبكة على تحريف مسار المعنى إلى حيث يمكن إعادة ترتيب المستقرات والملاجئ على غرار ما تفعله الاستعارة والتورية بالمقاصد، مما يوحي بأن يد الفنان تبدو تختبر إجادتها ترتيب الوجود بما يزيد الجمال جمالًا  وائتلاقًا، ويذيب القبيح في متعة الفكرة، ولذاذة الاستكشاف، هذي هي حيلة الفنان لاستدراج الكينونة أن تقيم خارج أيسها.

وعلى هذا المنوال، تكون بلاغة الإبداع عند الفنان بشير آمال، صياغة متون سيميائية لاختبار اغتراب الذات والكينونة في معطاها الأنطولوجي حيث المتون تحيل “الأنا” مرآة لـ”الأنا الآخر” و”الهنا” مرادفا لـ”الهناك” والمعنى غير المعنى، والسؤال غير السؤال.
الدلالة تقيم عند عتبة الاستحالة، فيبقى مد حبل الوصلة والوصال يستجدي الاستعارة، وحدها لا غير، فاللوحة تحولت إلى متاهة كلمات متقطعة مستعصية، يقتضي افتضاضها دليلًا  طارئًا لإرشاد الإنصات والإصغاء إلى نقطة الانطلاق، وبصيرة ورويّة تفلسفية معاوِدة، حاذقة نافذة.
الكلمات والصور أوطان للمعاني ومراتع للجمال والفتنة والمتعة، كما هي مهاجر للغرباء والمجهولين والممنوعين من التعيين، أولئك المقيمون بين المرادفات وبين الفواصل ونقط الحذف، كتبوا ذات يوم أسماءهم وعناوينهم على خلفية صور بهتت منها الملامح، ومعها تلك الذكرى التي شكلت وتد النعت، ومسمار الهوية، ومأوى لقصيدة الحب التي صدت بغتة العدم والنسيان.

صنيع بشير آمال الفني يستحث القراءة على المعاودة، وعلى مقايضة النص بالنص، والمعنى بالمعنى والآخر بالآخر، فالمنافي ليست فضاءات استقرار وإنما محطات برزخية مؤقتة، لترقب هجرة تأتي دونما استئذان. أعمال هذا المبدع تشكل مختبرات خيميائية لكتابة القصيد البصري وشعرياته، وإقامة مكامن لإثارة السؤال، ولتعديل وإعادة ترتيب الذات في بعد سيميائي طارئ. متحول يتجدد باطراد على غير مقاس.

كل لوحة تشكل جزيرة من أرخبيلات مجهولة تشكلت للتو، زمنها غير الزمن حيث الوقت يتهجى في تعديده ويتعود سيلانه، يتلمس الفضاء والسؤال لأول مرة، فيندهش من “أنا” يته وهويته، وجود مركب مفرغ من ذاكرة تربك الخطو نحو الأفق. حتى تُمنَح للذات والكينونة لحظة التخلص من وهم الانتماء و حبل الارتباط، هي فسحة لاستدعاء الحلم والخيال، وترتيب إيقاع الأقدار والمعاني بما يُبقي المرآة بمنأى عن الحجارة، ويُبقي اليد المبدعة خالية من أثر رحلة كادت أن تخطئ وجهتها، و تبقي الـ”أنا” بعيدة عن تجربة الهاوية، جزر فيها تتولد البدايات وتتعرف المعرفة عن المعرفة، ويتشكل السبيل من ذاكرة تلك الطرقات التي في غفلة منها، سقطت من خرائط تحديد المسالك، لكنها مع ذلك ما تزال تحفظ وجهتها نحو لحظة المتعة بجمال العين، ولحظة الاندهاش بالفكرة المقلقة، وانصباب الحكي عما لا يتبدى، إنها أحياز موازية “مخضرمة” للنزوح، محاضن لمعاني ودلالات لتلك الأمكنة والأزمنة التي يتلعلع فيها التوق للتجدد، والانعتاق من سردية الاحتباس والقَفَار.

ألم يكن جلجامش قد رحل يبحث عن الخلود، لكنه انتهى إلى معناه؟

على غرار شامان الأسطورة المطبِّب المعالج، ولع الفنان بشير آمال، أن ينشئ ويجدد باستمرار، صورًا هي ملاجئ للأمان، ومخابئ للحلم في دروة حيرة الخطو والعبارة، وانقطاع العوْد يطمر المعنى في سواها، ويفتل الإشارة بالإشارة، ليعود التأويل قصيدة شمس، فالصورة متاهات بمنافذ ومخارج لا يحصيها سوى وحدهما، الخيال والمجاز.

نرشح لك: استهلالٌ في الهُوِيّة والفن والجمال

1- بشير آمال فنان تشكيلي مغربي ولد سنة 1954. عمل أستاذ للفنون التشكيلية. أقام معارض فردية وشارك في أخرى جماعية عديدة، داخل المغرب وخارجه... فنان تجريدي يشتغل، أساسا، بصباغة الأكريليك إضافة إلى مواد أخرى متنوعة. أحجام لوحاته متفاوتة، تنطلق من مقاسات قد لا يتجاوز طولها عشرين سنتيمتر، وقد يصل أحيانا إلى خمسة أمتار...

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مريم زهرا

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا