الوجه الآخر للسعادة.. ما الذي يجعلنا سعداء حقًا؟

“ما هو أرقى خير يمكن أن يبلغه المرء بجهده؟ يتفق عامة الناس وصفوتهم على أنه السعادة ، ولكنهم يختلفون في تحديد كنهها” آرسطو، الأخلاق النيقوماخية، الكتاب الأول، الفصل الرابع.

هناك أمر واحد نعرفه جميعًا عن بعضنا البعض، وعن كل شخص نلتقيه في العالم، أمر يشكل مصدر قلقنا، وهو الأكثر شيوعًا من بين جميع الأمور التي نقوم بها، والتي نتطرق إليها وهو أننا جميعًا نريد أن نكون سعداء. في هذا الموضوع بالذات كلنا متفقون على أن تصورنا للسعادة يختلف من شخص لآخر، لكنها تحمل قواسم مشتركة بيننا جميعًا، هي السعادة نفسها.

“السعادة ليست شيئًا جاهزًا، إنها تأتي من الأفعال الخاصة بك” دالاي لاما الرابع عشر.

حسنًا لست من هواة السعادة لأفسر ما قاله دالاي لاما، ولست شخصًا يمكن وصفه بأنه سعيد الآن، لكن ربما يحتاج هذا الموضوع لنظرة أخرى. فالدماغ هو مصدر السعادة، مسلمة يعرفها الجميع، الدماغ هو النظام الأكثر تعقيدًا في الكون كله. جميع أفكارنا، وأحلامنا، وطموحاتنا توجد في هذا العضو. لكن هذا الدماغ نفسه لا يستطيع أن يجيب بدقة عن ما هي السعادة ؟.

هذا السؤال استعصى على عدة مفكرين منذ القدم، فتارة نجد ألبير كامو يوضح لنا أن البحث عن معنى السعادة لن يجعلنا أبدًا سعداء، ونرى جون كراكوير مؤلف الرواية الشهير “إلى البرية” يخبرنا أن حقيقة السعادة تكمن في مشاركتها مع الآخرين، وعند بالزاك فهي تتعلق بالشجاعة و العمل.

كيمياء السعادة:

لا بد لنا أن نتكلم قليلًا عن عمل دماغ الشخص السعيد، خاصة ونحن نعرف أن الدماغ هو مصدر السعادة. يمكننا وصف السعادة على أنها شعور إيجابي ناتج عن إفراز بعض الهرمونات التي تتفاعل مع بعضها البعض من أجل تحقيق استقرار هرموني في جسم الإنسان، يمكن أن نختزل هذه الهرمونات في الآتي:

إعلان

السيروتونين: المتحكم في المزاج العام للدماغ، إذا فشلت في اختبار الجامعة سيهبط مستوى السيروتونين في جسمك لتدخل في حالة كآبة، وفي المقابل إذا ربحت جائزة مالية ضخمة سيرتفع لديك لتدخل في حالة من السعادة.

الدوبامين: هرمون المتعة، الجهاز العصبي يحدد الأفعال الإيجابية من خلال إفراز هذا الهرمون. الأمر ببساطة هو أن الدماغ يخبرك أن تكرر الأمور التي تعجبه، أكل شيء حلو، مخدرات..إلخ.

أوكسيتوسين: هرمون الثقة الذي يساهم في تقوية الروابط الاجتماعية وزيادة الحب والتعاطف مع  الآخرين، فالأم مثلًا تفرز الكثير من الأوكسيتوسين مما يساهم في تقوية الترابط بين الأم والطفل.

الأندورفين: المسؤول عن تخفيف الألم يفرز أثناء القيام بالتمارين الرياضية.

كل هذه الهرمونات تتفاعل مع بعضها البعض، من خلال آلية محددة ومتوازنة، من أجل المساهمة في تحقيق السعادة. وخير وسيلة لتحقيق استقرار نفسي أفضل هو تحفيز هذه الهرمونات بطريقة تلقائية دون استعمال محفزات خارجية كالمخدرات.

هل يجعلك خفض التوقعات سعيدًا؟

قد تكون التوقعات هي إحدى الميزات الرائعة عند البشر، يمكن استغلالها في زيادة سعادتنا إن كان توقعنا صحيحًا، ولكن الأمر ليس كذلك دائمًا، لكن إن خفضنا توقعاتنا وحصلنا على أفضل مما توقعنا، فان الأمر سيكون عظيمًا.

فلنقل أنك أردت الذهاب لتناول العشاء خارجًا في مطعم رشّحه لك صديقك على أنه أحد أفضل المطاعم  في المدينة، فإن ما تتوقعه الآن: مكان راقٍ، وخدمة ممتازة، وطعام ذو جودة عالية. ولنقل أنك وجدت ذبابة صغيرة في طعامك،  وأن الطعام كان سيئًا، هنا يمكن أن نقول أن اللحظات الأولى لتوقعك كانت مملوءة بالسعادة بأنك ستتناول طعامًا جميلًا، لكن الحقيقة التي خيبت آمالك أن الطعام ليس جيدًا كما توقعت مما خفض من سعادتك أيضًا.

قد يبدو الأمر وكأن لو خفضنا توقعنا حول المطعم كنا سنشعر بالسعادة، لكن الأمر ليس صحيحًا دائمًا، حتى ولو كان الطعام سيئًا فإنك ستشعر بالسعادة فقط بعد زيارتك للمطعم، أما أثناء التوقع فقد كنت قليل السعادة لأنك توقعت أن المطعم سيكون سيئًا.

وهكذا فإن أفضل جرعة للسعادة يمكن أن تحصل عليها هي أن يصيب توقعك الإيجابي منذ البداية، وإن كان لديك خيار آخر فخفض توقعك قد يشعر بالسعادة أيضًا ولكن نسبيًا.

توليف السعادة:

هناك دائمًا حل، حتى إذا أردنا أن نصبح سعداء فالأمر ليس مستحيلًا، كل ما علينا فعله هو توليف السعادة.

لنفترض أن هناك شخصين أحدهما صار مقعدًا لا يستطيع أن يمشي، والآخر ربح جائزة في اليانصيب مقدارها مليون دولار، إذا أردنا أن نعرف من الأكثر سعادة من بين المقعد والفائز في اليانصيب، يبدو الأمر سهلًا فالجميع سيقول الفائز في اليانصيب أكثر سعادة من الرجل الذي صار مقعدًا. لكن الأمر ليس بهذه السهولة فالسعادة أمر نسبي. إذا سألنا عن الأكثر سعادة بينهما في لحظة فوز الشخص الثاني باليانصيب، فالأمر واضح أن هذا الأخير هو الأكثر سعادة. لكن السؤال كان من الأكثر سعادة في حياتهما؟ سنجد أن الاثنين لهما نفس المستوى من السعادة، حيث أظهرت دراسة حديثة أن الأزمات الكبيرة في حياة الأشخاص والتي فرضًا حدثت قبل ثلاثة أشهر مع توقعات قليلة لا تملك أي تأثير على سعادة الشخص، ببساطة لأن السعادة يمكن توليفها.

موريس بيكهام قال هذه الكلمات بعد قضائه 37 سنة في السجن لجريمة لم يرتكبها بعد أن برأ منها: “أنا لا أملك أي دقيقة ندم، لقد كانت تجربة مبهرة”، وها هو السيد توماس يكتب في سنة 1942: “أنا أسعد شخص على قيد الحياة، لأنني أملك في داخلي القدرة على تحويل الفقر إلى غنى، والمِحن إلى رخاء، وأنا أقوى من أخيل وثروة هات لا تهمني”يبدو أن للسيد توماس جهازًا عجيبًا في دماغه ويبدو أننا نملكه جميعًا لكن لا نستعمله كما استعمله صديقنا توماس، إنه نظام المناعة النفسي، نظام يملك عمليات إدراكية، والذي يساعدنا على تغيير وجهة نظرنا في الحياة لكي نشعر بشعور أفضل نحو أنفسنا، فالسعادة المولفة هي التي نحصل عليها عندما لا نحصل على ما نريد، بينما السعادة الحقيقية هي ما نحصل عليه عندما نحصل على ما نريد، لكن الأمر هو نفسه تمامًا السعادة هي سعادة. نحن نبالغ في اعتبار أن السعادة المولفة هي أقل من السعادة الحقيقية، فأهواؤنا وهمومنا تكون مبالغ فيها إلى حد ما، كما يقول آدم سميث: “المصدر الأكبر لكل من البؤس والاضطرابات التي يعيشها الإنسان، هو المبالغة في التفريق بين حالة دائمة وأخرى.”

ماذا عن الامتنان؟

جميعنا يعرف عددًا لا بأس به من الناس يمتلكون كل ما يجعلهم سعداء، لكنهم ليسوا كذلك لأنهم يريدون شيئًا آخر، أو يريدون المزيد مما لديهم، وجميعنا يعرف أناس لديهم الكثير من المشاكل، مشاكل لا يريد أحد الوقوع فيها، ومع ذلك فإنهم ليسوا فقط سعداء بل يشعّون سعادة والسبب هو الامتنان. فالامتنان هو ما يجعل الناس سعداء وليست السعادة ما تجعلك ممتنًا. كل لحظة، وكل فرصة، وكل موقف، هو من أجلك وحدك فقط، و امتنانك من أجل هذه اللحظات هو سعادة. و خير مثال على الامتنان هو الشكر، تخيل مثلًا أن تجد ورق حمام مكتوب عليه شكرًا! أنا متأكد أنك ستقضي حاجتك بشعور يميل نحو الفرح.

و في النهاية، ليس السعي إلى السعادة ما يهم، فما يهم حقًا هو تمكين نفسك من الحصول على الخبرات التي تجعل الناس أكثر سعادة، مثل قضاء بعض الوقت مع شخص يهمك، أن تكون موجود من أجلهم عندما يحتاجون المساعدة، ولتعلم أنهم موجودون من أجلك أيضًا هو أقصى درجات الامتنان والسعادة.

المصادر:
science of happiness
can we predict happiness
ted talks : dan gilbert asks why are we happy
ted talks : david steindl rast want to be happy be grateful
سيكولوجية السعادة لمايكل أرجايل.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد الغنفري

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا