لماذا يجب على قارئ الرواية الاهتمام بالنقد الأدبيّ؟

رواية الغريب ل ألبير كامو نموذجًا

الأول: ما رأيك في رواية الغريب لـ ألبير كامو؟
الثاني: أحداثها مملة ولا أعلم سبب شهرتها!

يقول الناقد المغربيّ عبد الفتاح كليطو:

“إننا حين ندرس نصًا نفترض أنه غامض فنحمل مصباحنا المنهجي لإضاءته”.

أما الروائية أحلام مستغانمي عن العلاقة بين الكتابة والكشف عن الذات فتقول:

“الروائي هو الذي لا يتردد في فتح غرفه السرية أمامك، ويجرؤ على دعوتك لزيارة الطابق السفلي في البيت والقبو والأماكن المغلقة التي تكدس فيها الغبار والأثاث القديم والذاكرة وكل دهاليز النفس التي لم تدخلها الكهرباء بعد”.

النقد الأدبي هو الكشف عن مواطن الجمال والقبح في الأعمال الأدبية، ويعتبر النقد دراسة للأعمال الأدبية والفنون وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها والكشف عن القوة والضعف والجمال والقبح وبيان قيمتها ودرجتها.

ويحاول القارئ العادي غير المتخصص دومًا فهم ما يقرأ كما يحاول خلق معنى لما يقرأه من نسيج الكلمات باستخدام موسوعته العقلية، ويتم ذلك من خلال سعيه لتحليل النص تحليلًا مبنيًا على خبرته الشخصية ولغته وثقافته وغيرها من الوسائل التي يمتلكها، وأحيانًا يقوم بقراءة العمل الأدبي من خلال عمل أدبي آخر مما يخلق نوعًا من التحيزات الثقافية والتي من الممكن أن تضلله في قراءة النص أو الرواية.

إعلان

أهمية النص.. قراءة في نقد الحقيقة

ولتخطي هذه المشكلة يجب على قارئ الرواية أن يلجأ للنقد الأدبي لاختبار ما فهمه واستنتجه، وسنُبين لاحقًا بعض العقبات التي من الممكن أن تقابل القارئ في فهم النص وبعض الطرق المستخدمة لفهم النص عن طريق تحليل رواية الغريب لـ ألبير كامو، فنعرف من خلالها أسلوبه الأدبي الجديد وأفكاره المرتبطة بالاستعمار وعلاقة الوجودية والعدمية بالرواية، وأخيرًا دور الترجمة وتأثيرها على فهم النص.

أسلوب أدبيّ جديد:

تقول كابلان في مذكراتها “دروس في الفرنسية” أننا عندما نذكر الفلسفة الوجودية نتذكر مباشرة جان بول سارتر وألبير كامو، إلا أن مؤلفات كامو أفضل كثيرًا في حثه للقراء على التفكير العميق. وفي ذلك الوقت كان كامو يدلي بتصريحات تشهد على المبادئ التي كان يقوم بتطويرها لكتابة أعماله الروائية، مثل:

” إنّ العمل الفني الحقيقي هو الذي يُعلي الإيجاز”.

ويقول أيضًا:

“لكي تكتب عملًا ما لا بدّ أن تلامس لغة التعبير بدَلَ أن تبالغ في استخدامها ولا داعي للثرثرة”.

فبدلًا من أن يحاول جعْل بطل روايته محبوبًا من قبل القراء كما في “الموت السعيد” ترك بطله يتحمل مسؤولية نفسه دون مساعدة أو إرشاد وأيضًا دون أن يذكر له اسمًا بل اكتفى بإضافة حرف “الواو” إلى لقبه ليصبح ميرسوليت.

تقول كابلان أن الرواية قد غيرت تاريخ الأدب الحديث؛ لقد بدل كامو صيغة الرواية ليجعلها تتجه من الداخل إلى الخارج وكأنه أضاف لهذا المذهب الروائي “عملية نقل دم” فأضفى على أسلوبها التعبيري بساطة شديدة كما زاد من عمق هدفها عن طريق كتابة جملٍ أقصر وتَحاشي إبراز النسيج النفسي.

سارتر منبهرًا: 

وكان أول عرض مميز للرواية هو ما قدمه سارتر الذي وجد أن استخدام هذه الصيغ من الأفعال الماضية التي يلجأ إليها كامو (الفعل المساعد ثم التصريف الثالث) كان يهدف إلى “تحديد نقطة معينة في الزمن الماضي وليس للتعبير عن أحداث مستمرة في ذلك الزمن”.

كان سارتر منبهرًا بالشكل الذي تبدو عليه جمل كامو وكأنها جزر منفصلة عن بعضها البعض. ويقول سارتر “لفصل الجملة عن الجملة التي تليها إحساس بالعدمية” وذلك من أجل خلق غلاف جوي يتسم “بالسلبية والانغلاق وعدم التواصل والفوران”.

وعلى نمط روايات هيمنغواي المبكرة فقد استطاع كامو -على الأقل في النصف الأول من رواية الغريب- أن يُبقي نفسه على السطح، ولأن هناك أشياء لا تقال فإنه يدعونا إلى أن نتخيل الأعماق.

وتقترح كابلان بذكاء لاذع أنّ “الغريب” قد لاقت رواجًا بين مدرّسي اللغة الفرنسية الأمريكيين الذين أدركوا أن بساطة العرض تلك قد أقامت “جسرًا نموذجيًا بين دراسة اللغة والأدب”؛ حيث كان الطلاب يشعرون أنهم بحضرة فكر عميق مع أن الكلمات والجمل كانت تبقى دائمًا على السطح، ولعل هذا هو السبب الحقيقي لذلك الشعور.

نظرة إدوارد سعيد لغريب ألبير كامو: 

يرى إدوارد سعيد أنّ “نشأة رواية كجنس أدبي لم ترتبط فقط بصعود البورجوازية الأوروبية، وهو ما اتفق عليه العديد من النقاد، ولكنه ارتبط أيضًا وبشكلٍ عضوي بواقع التوسع الإمبريالي”.

ولهذا يقول أنه من الصّعب فَهْم ألبير كامو أو جيد أو كونراد أو كيبيلنج أو حتى ديكنز وأوستين في معزل عن الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الفرنسية أو البريطانية.

انطلاقًا من هذا المفهوم للعلاقة بين الإمبرايالية من ناحية والثقافة عمومًا والرواية تحديدًا يؤسس إدوارد سعيد فكرته عن وظيفة النقد ومهام الناقد، فالتحليل المجزوء الذي تطرحه مختلف المدارس النقدية يقود إلى قراءة غريب كامو في معزل عن الجزائر؛ حيث تدور أحداث الرواية وكأن النص منبت الصلة بالخطاب الاستعماري الفرنسي.

تقول رضوى عاشور:

“إن النقد الذي يقترحه سعيد يضع في الاعتبار العناصر المتداخلة والمتقاطعة لتجربة كونية لا يمكن الإحاطة بتضاريسها دون طوبوغرافيا شاملة تكشف المساحات الناتئة والمتداخلة”.

ويساعدنا هذا النوع من النقد في تحديد موقع الإنتاج الإبداعي في الآداب المختلفة حيث النصوص تُضيء بعضها بعضًا عبر تقاطعها وتقابلها، فندرس النص الذي أنتجه المركز في ضوء تجربة الهامش.

فمثلًا يزداد فهمنا لنص “آمال عريضة” لديكنز في ضوء تاريخ أستراليا وعلاقتها ببريطانيا، وتكتمل رؤيتنا لرواية “بنسفيلد بارك” لأوستين بمعرفة واقع المؤسسة العبودية في جزر الكاريبي، ونقرأ جيد وكامو في ضوء ما اكتسبناه من معارف من فرانز فانون، ولأنه لا تمكن قراءة تاريخ المركز في معزل عن تاريخ أطرافه أو تاريخ الأطراف مسقطين علاقتها بالمركز، وكذلك تستحيل الإحاطة بأعماق النصوص الأدبية وثراء تجربتها دون هذا النوع من النقد.

الوجودية والعدمية والغريب: 

ربط كامو بين فن الرواية وبين تأليف كتاب في الفلسفة، فالعمل يتناول فكرته دون أن يوضح ذلك في القصة بطريقة مباشرة أو أن يحشر الفكرة بطريقة فجة، ولكنه قام بتجسيد الفكرة في المواقف وطريقة الحوار والشخصية التي تشرح لنا العالم من خلال هذه الفكرة، وفكرتنا هنا هي العدمية التي جعل ألبير كامو بطله رسولًا لها. فما هي العدمية؟

هي فكرة قديمة ترجع لبعض الفلاسفة القدامى وتقول أن العالم لا يشتمل على أي معنى حقيقي، وهذه الفكرة تفرعت منها ثلاثة اتجاهات في العصر الحديث وهي: الوجودية والعدمية والعبثية.

تقول الوجودية: إذا كان العالم فعلًا لا معنى له فغاية وجودنا أن نخلق للحياة معنى بأنفسنا. وهذا هو ما توضحه المقولة الشهيرة لجان بول سارتر: “الوجود يسبق الماهية”.

وتقول العدمية: إذا كان العالم فعلًا لا ينطوى على معنى فنحن غير مطالبين بأن نخالف هذه الطبيعة الأصلية الموجودة فيه أو أن نبحث عن معناه.

وتقول العبثية: إنّ البحث عن معنى للوجود في صراع دائم مع حقيقة انعدام القدرة على إيجاد أي معنى، وكل أفعال البشر في هذا النطاق من محاولة وفشل أبديّ تعتبر عبثًا محضًا، مثل العقاب الذي وقع على سيزيف في الأسطورة اليونانية الشهيرة (حيث كان يدفع صخرةً بمشقة صعودًا إلى قمة مرتفعة، حتى إذا بلغها هوت الصخرة إلى السفح فيضطر إلى إعادة الكرة وهذا يحدث للأبد ولا ينتهي).

والرواية تصور بالتفصيل حياة ميرسو في إطار العدمية الوجودية والأخلاقية ويظهر هذا من خلال مجموعة من المواقف التي تعرض لميرسو مثل مشاعره تجاه موت أمه في صورة استخفاف من كامو بدلًا من رد الفعل الأخلاقيّ الطبيعي في هذه الحالة، وكذلك تعامله مع الجنازة بشكل روتيني كأنه حضور حفل.

والرواية مليئة بالأحداث المستقاة من الفلسفة العدمية التي جسدها كامو في الشخصيات والمواقف وحتى في الأماكن؛ مثل أن يعيش ميرسو في غرفة واحدة من شقته الواسعة، فكأن كامو كان يريد أن يرمز بالشقة إلى العالم الواسع وبالغرفة إلى ذات الإنسان العدمي، في إشارة للفردية التي يفرضها التوجه العدمي على من يؤمن به.

القتل في الفلسفة العدمية:

يقول ألبير كامو:

“نحن لا ننشد عالمًا لا يقتل فيه أحد بل عالمًا لا يبرر فيه القتل”.

وفي الرواية حين سُئل ميرسة عن سبب قتله الرجل الجزائريّ قال ببساطة أن هذا حدث بسبب الشمس، سبب مادي مباشر لا أثر فيه لأية قيمة أو اختيار أخلاقي، وكأنه أراد أن يشير إلى أن هذه الإجابة غير المستساغة أكثر جدية من أي مبرر أخلاقي آخر؛ فالعدمية تقول بانعدام المعنى وبالتالي انعدام الأخلاق وأن الأخلاق نسبية ولا وجود لشيء اسمه الضمير الإنساني، فلا فرق إذًا بين الموت والقتل فكل المصائر متساوية لأن النهاية هي العدم. وعلى عكس ما نظن من كلام كامو فإنه يقصد ما وضحناه في الأعلى من أنه لا يحاول تبرير القتل بل يوضّح أن القتل ليس له مبرر أخلاقي كما يدعي البعض وذلك بسبب عدم وجود أخلاق مطلقة -وفقًا للعدمية-.

الترجمة و النقد الأدبي: 

في النص الأصلي للرواية يعتمد ألبير كامو على الأفعال المبنية للمجهول لشرح واقعة القتل وكأنه يحاول أن يوضح عدم تأثير ذات البطل في قرار القتل وأن القتل تم بطريقة مادية بحتة غير ناتجة عن أي قرار أخلاقي (كما شرحنا من قبل) وهو بذلك يشبه الأمراض والزلازل، لكن هذا غير موجود بالترجمة التي تجد فيها كل الأفعال مبنية للمعلوم! مما يُعطي انطباعًا للقارئ بأن البطل هو صاحب القرار وله مبرره الأخلاقي وبالتالي يضيع مفهوم العدمية من النص العربي المترجم. ومن فوائد النقد الأدبي إزالة الغموض عن مثل هذه الأخطاء ومحاولة شرحها كي يتسنى للقارئ فهم موضوع النص جيدًا.

تتضمن الترجمة مشاكل كثيرة منها مشاكل بنيوية ومشاكل سلوكية، فمن المشاكل البنيوية انتقال نص تحكمه ثقافة معينة وبيئة مختلفة ولغة مغايرة بتصريفات ودلالات خاصة بها إلى لغة أخرى مختلفة الثقافة والبيئة، حتى أنّ النقاد وضعوا مصطلح “غير قابل للترجمة” في إشارة إلى الترجمة بين لغتين مختلفتين إلى درجة أنه ما من ترجمة صحيحة من إحداهما إلى الأخرى وهذه هي فائدة الأدب المقارن.

المراجع:
1- رواية الغريب، ألبير كامو، ترجمة:محمد آيت حنَّا، منشورات الجمل. 
2 - كتاب صيادو الذاكرة "في النقد التطبيقي" تأليف رضوى عاشور، المركز الثقافي الغربي. 
3 - كتاب الحكاية والتأويل تأليف عبد الفتاح كليطو، دار توبقال.
4 - كتاب الثقافة والإمبريالية تأليف إدوارد سعيد، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب.
5 - كتاب الأدب المقارن تأليف مجموعة من الكتاب، سلسلة عالم المعرفة العدد 451 أغسطس 2017. 
6 - مقال آلة الألغاز Enigma machine مجلة الثقافة العالمية السنة الثالثة والثلاثون مايو - يونيو 2017م.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد محمد

تدقيق لغوي: دعاء شلبي

اترك تعليقا