المنحوس وخائب الرجاء

لانعرف إسم الرجل الذى بصق فى وجه الزعيم ” أحمد عرابي ” حين كان خارجا من مسجد الحسين بعد عودته من منفاه، ناعتا إياه بـ “الخائن”، ولكننا نعرف أن زعيما آخر هو “مصطفى كامل” (باشا) كان قد شن حملة عنيفة على ” عرابي ” لم يقصر فيها على خلع كل أوصاف الخيانة والجبن والتهور وربما الرعونة على الزعيم العائد  الإحتلال الإنجليزى لمصر لما قام بثورته على الخديوى “محمد توفيق”، وتبعه كثيرون كان من بينهم أمير الشعراء “أحمد شوقى” الذى هجاه بقصيدة كان مطلعها :

صغار فى الذهاب والإياب

أهذا كل شأنك ياعرابي ؟

عفا عنك الأباعد والأدانى

فمن يعفو عن الوطن المصاب؟

كان ” أحمد عرابي ” قد عاد للوطن بعد سنوات طويلة قضاها بالمنفى فى جزيرة سيلان عقب فشل “ثورته” وإحتلال مصر عام 1882، ومن أجل الحصول على العفو البريطانى فإنه أرسل عرائض إسترحام كثيرة ومطولة للملكة “ڤيكتوريا”، وكذلك أدلى بتصريحات ودية تجاه ” الصديق البريطانى” فى الصحافة المعروف عنها موالاتها للإحتلال (جريدة المقطم).

وبالتأكيد فإنه فوجئ بالحملة الشنيعة عليه والتى تتهمه فى شرفه ووطنيته ولذلك شرع على الفور فى كتابة مذكراته عن “الحوادث العرابية” ليرد على الإتهامات ويبرئ ذمته!

فى ذلك الوقت كانت مصر تعيش “حالة ثورية” قادها الخديوى “عباس حلمى” (الثانى) بالتعاون مع بعض العناصر الوطنية للتخلص من تحكم وسيطرة الإنجليز المتمثلة فى شخص “كرومر” ذلك الإستعمارى العتيد، وكانت الخطة هى الدعوة لعودة النفوذ العثمانى (ومصر رعية من رعايا الدولة العثمانية لازالت) وأيضا البحث عن حليف أوروبى (فرنسا بحكم عدائها التاريخى لبريطانيا)، وكانت عودة ” عرابى ” هى المناسبة التى إستغلها الخديوى وأتباعه لتعزيز وتأكيد “الولاء” لتركيا فكان التركيز على أن “عصيان عرابى” لولى الأمر فى الأستانة هو السبب الرئيس فى هزيمته وإحتلال مصر،والمنطق هو أن دولة الخلافة هى الوحيدة – ! – التى تستطيع مقاومة الإنجليز وإخراجهم من القاهرة.

ولقد وصلت الحملة لحد أنها إتهمت “عرابى” بأنه كان “عميلا” (!) لبريطانيا ليسهل لها غزو مصر،والدليل أنه حصل على العفو وعاد للقاهرة!

إعلان

ومع أن هدف الخديوى وأنصاره كان فى جزء منه وطنيا بالدرجة الأولى ففى النهاية كان تحرير مصر هو الغاية، لكن – قطعا – كانت وسيلتهم لذلك الهدف متضاربة ومشوشة لحد بعيد.

إن “عرابي” بالتأكيد لم يكن خائنا أو متواطئا مع أحد، وكانت “حركته” الثورية فى الأساس عملا وطنيا هدفه تأسيس دولة عصرية بكل مقومات الدولة العصرية، ولكنه كان “منحوسا” بشكل كبير، ففضلا عن الخيانة العسكرية والسياسية ممن كانوا حوله عندما رأوا التصميم البريطانى لغزو مصر، ومكاسب ذلك الغزو على المستوى الشخصى البحت، فإنه كان قد خسر تأييد دولة الخلافة ليس بسبب معاداته لها وإنما لأن الخليفة العثمانى لم تكن لديه الهمة أو حتى النية للدخول فى عداء مسلح مع “بريطانيا العظمى” ،وهكذا أصدر “فرمان” عصيان “عرابى” الذى كان القشة التى قصفت ظهره!

ولم تكن حركة “الوطنية الرومانسية” أو السلمية التى قادها “مصطفى كامل” وأنصاره بعد ذلك لتفهم أن دولة الخلافة أضعف وأوهن من أن تناصره أو تقف وراء ممثلها فى القاهرة، الخديوى “عباس حلمى”، وهكذا أصبح هؤلاء القادة ” خايبين الرجا”…لم يقدروا حتى على حماية أنفسهم فى النهاية، فإذا كان ” عرابي ” سببا فى وقوع البلاد تحت الغزو فإنهم كانوا سببا فى تمكين المحتل من البلد وتثبيت أقدامه!

 

في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك

لماذا يقتل مسلمي بورما “نظرة تاريخية لمعرفة السبب”

كيف تقتل مائة ألف ، و يصفق لك الناس ؟ “

تاريخ مصر مع الوهابية

إعلان

اترك تعليقا