ملك إنجلترا العجيب

ولد في منتصف القرن الثاني عشر (1157)، هو أحد أشهر ملوك انجلترا عبر التاريخ، فقد نُصّب ملكًا وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وتوفّي بعدها بعشر سنوات عام 1199. إنه ملك إنجلترا “ريتشارد قلب الأسد”، هذا الملك الذي عرفناه من خلال الحملة الصليبيّة الثالثة، والذي تصدّى له صلاح الدين الأيوبي، فانتهت الحملة الصليبية بتوقيع الهدنة الشهيرة، دون دخول ريتشارد قلب الأسد مدينة القدس. ولكن ما العجيب في هذا الملك؟

تتلخّص الإجابة في عدة نقاط: إنه ملك إنجلترا الذي لم يتحدّث يومًا اللغة الإنجليزية! إنه الملك الذي لم يقضِ في حياته أكثر من عدة أشهر في إنجلترا. إنه الملك الذي رفض إنجاب أبناء ليخلُفوه. وأخيرًا، إنه ملك إنجلترا الذي مات ودُفن في فرنسا. ومع ذلك فهو من أشهر ملوك إنجلترا!

جاء وقت كانت إنجلترا تحتلّ إحدى المقاطعات الهامّة غرب فرنسا “النورماندي”، وكان ملك فرنسا “لويس السابع” يحكم فرنسا المنقسمة المتحاربة، بين مقاطعاتها بزعامة النبلاء الإقطاعيّين، كلٌّ فى مقاطعته طامعًا في الاستيلاء على المقاطعة المجاورة له، كخطوةٍ للاستيلاء على حكم فرنسا فيما بعد.

كيف وصل ريتشارد قلب الأسد إلى إنجلترا

ورثت فتاة تدعى “أليونور” في الثالثة عشر من العمر ملكية مقاطعة “الأكيتين” جنوب غرب فرنسا، شمال الحدود الإسبانية، فأراد ملك فرنسا تحييد تلك المقاطعة الهامّة؛ فتزوّج من تلك الفتاة وهي في الخامسة عشر من العمر، فأصبحت ملكة فرنسا، لم يقم لويس السابع بأداء واجباته الزوجية لتفضيله حياة الرهبنة، وقت أن كانت الملكة هي التي تتخذ القرارات الهامة؛ رغم صغر سنّها، ورغم عدم اعتياد الفرنسيين على حكم امرأة! واستمر هذا الزواج سبعة أعوام فقط، لم تنجب خلالها أليونور سوى فتاتين، بعد أن ضغطت الكنيسة على الملك ليحاول إنجاب خليفةٍ للعرش. فانتهت العلاقة بالطّلاق، نظرًا لقوة شخصية الفتاة، وضعف شخصية الملك.

بعد الطلاق بثلاثة أشهر فقط، تزوّجت أليونور مرة أخرى بأحد النّبلاء الفرنسيين “هنري” المهيمن على مقاطعة “الأنجو” المتاخِمة للنورماندي. وكان زواجًا لمصلحة الأكيتين والأنجو، مع طموح أليونور وزوجها في الهيمنة على كل الغرب الفرنسي، حتى جاءت الفرصة، حينما ذهب هنري إلى إنجلترا مطالبًا بحقّه في ميراث العرش الإنجليزى بدعوى أنّ له جدة من أمه ذات صلة بالسّلالة الحاكمة الإنجليزية. وشاء الحظ في ذلك الوقت أن يُتَوفّى وليّ العهد، وكانت إنجلترا تعيش أحداث حرب أهلية، قضت على جزء كبير من ثرواتها وهيمنتها، فقَبِلَ الملك أن يكون هنري هو ولي العهد الجديد، حتى لا يترك العرش وإنجلترا فريسة لحروب أهلية ممتدة، فأصبح ملك إنجلترا هو “هنري الثاني”، وأصبحت “أليونور” ملكة إنجلترا، بعدما كانت ملكة فرنسا، وهكذا امتدّ نفوذ تلك السلالة التي حملت اسم “البلانتاجين” من أقصى شمال سكوتلاندا إلى أقصى جنوب غرب فرنسا. وانحصرت المملكة الفرنسية في النصف الشرقي لفرنسا.

إعلان

نشأة وحياة ريتشارد قلب الأسد

أنجبت أليونور وهنري الثاني ثلاثة أبناء وخمس بنات. وكان الابن الأوسط هو ريتشارد الذي لُقِّبَ فيما بعد بـ “ريتشارد قلب الأسد”، وكان هو الابن المفضّل لأمه، وتربى فى كُنفِها وبأسلوبها الفرنسي مع الميول للأدب والشعر والموسيقى. ولم يكن وليًا للعهد حتى تُوفّي شقيقه الأكبر. و كان ريتشارد قد حاول، بمساعدة أمه، الانقلاب على أبيه الملك هنري الثاني وهو لايزال في السابعة عشرة من عمره، ولم ينجح إلا فى التسبب فى حبس أمه بمعرفة أبيه فى أحد قصور إنجلترا لمدة خمسة عشر عاما، حيث ظلّت في محبسها حتى وفاة الملك، فتولى ريتشارد الحكم، ولكنّه مارسه من داخل فرنسا فى مقاطعة النورماندي، تاركًا لأمّه إدارة شؤون القصر الإنجليزيّ.

كان ريتشارد قد اكتسب سمعة الغِلظة والغضب الشديد من أعداءه، فكان يتحوّل إلى حيوان مفترس بلا رحمة عند اضطراره مواجهة أعداءه (ولهذا سُمِّيَ في فرنسا بقلب الأسد، رغم عدم تغيير اسمه في إنجلترا حيث ظل ريتشارد الأول)، وفي النّقيض كان عُرِفَ عنه ميوله الجنسية الشاذة (وإن لم تثبت بالأدلة)، وميوله للفن والشعر. وكان أثناء الحملة الصليبية، يقتسم الفراش مع “فيليب أوجوست” ملك فرنسا، نظرًا لعلاقة صداقة قديمة، تحولت مع الوقت لاحقًا إلى عداء وكراهية. ويُذكَر عنه قيامُه بحرق مدنٍ كاملة، وذبح أهلها بلا رحمة أثناء الحملة الصليبية، وقد فعل هذا في ليماسول بقبرص وفي عكا بعد كسر حصنها.

خاتمة

هكذا كانت شخصية ريتشارد قلب الأسد؛ مليئة بالتناقضات، عاش أحداثًا عديدة، آخرها كان قيام ملك النمسا بالقبض عليه أثناء عودته من الحملة الصليبية، وحبسه بالنمسا، مطالبًا إنجلترا بفدية ضخمة، مما اضطر أمه “أليونور”، وهي فى الخامسة والسبعين من العمر، إلى جمعها الفدية بصعوبة لفكّ أثر ابنها المفضّل بعد عامين من الحبس.

مات ريتشارد قلب الأسد مقتولًا بمقاطعة “الليموزان” بجوار ليموج الفرنسية، أثناء محاولته الاستيلاء على أحد القصور للسطو على كنز عُرِفَ أنه مُخبَّأ فيه، وتولّى شقيقه الأصغر من بعده عرش إنجلترا، فانهارت كل المقاطعات الفرنسية التابعة لملك إنجلترا، فاستعادتها فرنسا وعادت للسيطرة عليها داخل المملكة بعد حرب المئة عام.

قصة ريتشارد قلب الأسد هي مثالٌ لقصّة حاكم – أو ملك – ساقته الأحداث إلى الحكم، رغم عدم توافر المقومات لذلك فى شخصيته، ثمّ دخل التاريخ، وأصبحت له صورة مثالية مليئة بالبطولات المزعومة، رغم الحقائق المعاكسة لتلك الصورة، لذلك فهو مثالٌ شاذٌ لملكٍ عجيب. ولكن، هكذا يكون القدر أحيانًا!

إعلان

اترك تعليقا