حروب الرحماء.. الصحابة كـ “بشر”

الخطأ الأكبر لأي قاريء يقرأ رواية إبراهيم عيسى ، الصادرة مؤخرًا عن دار الكرمة للنشر، “حروب الرحماء”، الجزء الثاني من سلسلة “القتلة الأوائل“؛ هو قراءتها باعتبارها تأريخًا لأحداث وشخصيات فترة ما يُعرف بـ”الفتنة الكبرى”، التي عاشها المسلمون في صدر الإسلام، ولا تزال تداعياتها وأصداؤها، حتى بعد مرور أربعة عشر قرنًا، مؤثرة بشكل أو بآخر حتى الآن!

إن القراءة الصحيحة للرواية يجب أن تظل في حدود أنها رواية، حتى وإن بدا الكاتب مُصرًّا على التأكيد على أن أحداثها ومشاهدها وشخصياتها حقيقية، وأن يصل باصراره على وضع أسماء وعناوين المصادر والكتب التي استقى منها روايته، على العكس مما يفعله الروائيون عادة.

فالواضح أن الكاتب يُدرك تمامًا خطورة موضوعه وحساسيته عند كثيرين، لذلك أكد التزامه بما ورد في المراجع والمصادر المعتمدة، لكنه في نفس الوقت أعمل مخيلته في نسج وترتيب السياق العام للأحداث، بحيث تخرج روايته بالشكل الذي خطط له وأراده، فلا تصبح الرواية، في النهاية، مجرد إعادة سرد منظم، أو “تجميع” للأحداث، يدلُ على قدرة هائلة في القراءة والبحث وينتهي الأمر. كذلك الحال في الحوارات التي دارت بين شخصيات الرواية، فلم يترك لنفسه أن يتوسع فيها، وأبقاها عند حدّها الأدنى، مُعتمِداً على الوصف والتوصيف للأجواء والظروف المحيطة بكل شخصية، ومواقفها السابقة واللاحقة للفتنة، وأفكارها وخواطرها، وأطماعها وشهواتها. ولقد بدا الكاتب مُتمكنًا لأقصى درجة من لُغته ومفرادته، بحيث يصبح القاريء قريباً من أجواء الزمن الذي تدور فيه الرواية، قولاً وفعلًا.

بشكل عام، ربما يكون من الصعب تحديد هدف أو أهداف الكاتب من روايته -أي كاتب وأي رواية- على وجه الدقة واليقين. وقد تختلف التفسيرات اختلافًا جذريًّا في الرواية الواحدة من شخص لآخر، سواء أكان قارئًا عابرًا أو ناقدًا مُتخصصًا. وفي هذه الرواية وهذه السلسلة التي يقدمها إبراهيم عيسى، تزيد الاختلافات عن الطبيعي والمألوف، فهناك من يُشكك في نوايا الكاتب من الأصل، ويتهمه البعض بالانحياز لهوىً طائفي مُعيّن، بناءً على آرائه السياسية ومواقفه الفكرية، خاصةً أن الحدث الذي يقدمه في روايته، وهو الفتنة الكبرى، أدّى لانقسامات حزبية وطائفية، أشعلت -ولاتزال- حروباً وثارات لمّا تهدأ.

لكن ما لا يقبل الشك هو أن الكاتب حاول تقديم الشخصيات، التي ربما تتمتع بهالة شبه مقدسة عند كثيرين، بشكل “إنساني”. نعم، نتفق جميعًا أن معظمها لها وضعها ومكانتها الخاصة، والخاصة جداً في تاريخ الإسلام، لكنهم في النهاية بشر، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم؛ من أحلام وتطلعات وشهوات أيضًا. وكانت تلك المحنة/الفتنة امتحانهم الأكبر والأخطر، إذ استدعت كل ما كان مخزونًا وكامنًا في أعماق كل واحد عاش تلك الفترة، سواء أكان ذلك المخزون همًّا عامًّا ينشد الصالح العام، أو مأربًا شخصياً يطمع في سلطة أو منصب؛ وبما يتناسب مع تكوين كل شخص وبيئته وشكل نشأته ونظرته للأمور، وكذلك مع ظروف العصر وطبيعته. وهذه العناصر كلها تجعلنا نفهم أسباب الصراع وتطوراته، وكيف تحول الخلاف حول مسائل سياسية واقتصادية إلى حرب طاحنة بين “رحماء” لم يرحموا أنفسهم، وحرب استنزفت كل طاقاتهم ولم يربحها أحد.

إعلان

مواقف ومشاهد كثيرة جدًّا، في رواية “حروب الرحماء”، تؤكد هذه الرؤية وتُشدّد عليها؛ منها -مثلًا- أن كثيرين من معسكر معاوية وجنوده كانوا يذهبون، وقت الصلاة، لمعسكر علي، يؤدون خلفه الفروض الخمسة، ثم يعودون لقتاله، ولما سئلوا عن سبب ذلك كان الرد بأن: “الصلاة عند علي أتقى، والطعام عند معاوية أشهى”، وهو تصرف لا يُفسّره سوى أن الإنسان، بكل ما فيه من تناقضات، كان الحاكم والمُتحكم حتى وإن لم تتوافق الأقوال والأفعال.

من ناحية أخرى، ترصد الرواية الأسباب والدوافع، الظاهرة والخفية، التي تقود وتدفع الإنسان المؤمن نحو التطرف والغلو؛ من خلال قصة عبدالرحمن بن مُلجم: ذلك الرجل المغمور، الذي يعيش على هامش الأحداث، وهو في نفس الوقت حافظ القرآن، والتقي والورع والزاهد. من رحلته من اليمن حيت أسلم على يد مُعاذ بن جبل، إلى المدينة المنورة ليحفظ القرآن ويتتلمذ على يد عبدالله بن مسعود، ثم ارتحاله إلى مِصر مُلتحقًا بجيش عمرو بن العاص، وصولًا لمشاركته في تكفير وقتل الخليفة الثالث، عثمان بن عفّان، ومُبايعته الإمام علي ووقوفه معه في حربه ضد من رفضوا مبايعته، وفي النهاية كان هو من قتله! وهي رحلة تكشف جانبًا كبيرًا من “حيرة” بعض الناس، واختلاط الأمور عليهم، فلم يجدوا حلًا سوى الخلاص من رموز الفتنة، وحتى يبدأوا في بناء “المجتمع الإسلامي الحق”، على نمط المجتمع الذي عرفوه وعاشوه في حياة النبي (ص)، أو كما تقول النصوص المقدسة، بغض النظر عن الظروف الاجتماعية والإقتصادية والسياسية اللاحقة.

جانب مهم ثالث تشير له الرواية ولكن لا تؤكده، وهو أن صراعات هؤلاء الرجال والنساء لها بُعد شخصي بحت، يتمثّل في رؤيتهم لذواتهم، وأحقيتهم في منصبٍ أو مكانةٍ ما، ومحاولتهم الحصول على ذلك المنصب وتلك المكانة بكل الوسائل، سواء أكانت مشروعة أو غير مشروعة؛ وأن حروبهم كانت، في جزءٍ منها، امتدادًا أو تواصلًا بعد انقطاع لحروبهم السابقة، وتجدُّداً لثاراتهم القديمة؛ ومن هنا يمكن اعتبار معركة ” صفين” -مثلًا- رد قريش على هزيمتها في غزوة “بدر”(!) أو استعادة، بشكل أو بآخر، لسيادتها التي فقدتها بعد فتح مكة. وهو ما يكشف -أيضًا- عن “إنسانية” الصراع، مهما كانت، كما سبق القول، مكانة وقدسية هؤلاء الرجال (والنساء) في تاريخ الإسلام، فالبشر في النهاية يظلون بشرًا، بما ارتقت إليه هممهم وما هوت إليه نفوسهم، سواء بسواء.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: طاهر عبدالرحمن

تدقيق لغوي: محمد ثروت

اترك تعليقا