الفلسفة الرواقية

ازدهرت الفلسفة الرواقية لمدة 400 عام في اليونان القديمة وروما حيث اكتسبت تأييدًا واسعًا من قِبل طبقات المجتمع كلها. وهدفت هذه الفلسفة بشكلٍ عمليٍّ وهائل إلى تعليم الأفرادِ كيفيةَ المحافظة على هدوئهم وشجاعتهم في ظل الألم العارم والقلق الهائل.

ولا تزال هذه المدرسة الفلسفية تحظى باحترامنا وتكريمنا وذلك من خلال مناداة شخصٍ ما بلقب “الرُّواقي” أو “الفيلسوف البسيط” عندما ينقلب القدر ضده؛ كعندما يضيع مفاتيحه، أو عندما يتعرض للذل والمهانة في مقر عمله، أو عندما يتعرض للرفض من قبل شخص يحبه، أو عندما يُهانُ في المجتمع. وتتربع الفلسفة الرواقية على عرش الفلسفات الأخرى؛ وذلك بكونها الأكثر ارتباطًا بالأوقات المُضطربة والتي تدعو للذعر، كما وتُعتَبَر أكثرها نفعًا للفرد.

مارس العديد من الفلاسفة مبادئ المدرسة الرواقية؛ إلا أنّ الفيلسوفين اللذين برزا كمُرشِدَينِ لهذه الفلسفة هما:

ولا تزال أعمالهما مقروءة ليومنا هذا وشديدة المواساة للفرد، كما وأنها مثالية لليالي التي يجافي فيها النومُ الفردَ؛ تلك الليالي التي تمثِّل أساسًا لانتشار الكوابيس والبارانويا في عقولنا.

يمكِن أن تساعدنا الفلسفة الرواقية في حل أربعٍ من المشاكل الشائعة:

1. اضطراب القلق

قد تحدث العديد من الأمور الفظيعة في أي وقت. ويُلمِّح المنهج المعتاد الذي يتبعه الناس عند تخبطِ الفرد في بحرٍ القلق والمتمثل في التخفيف عنه إلى أنه سيكون على ما يُرام في نهاية المطاف. فرسالة البريد الإلكتروني المُحرِجة قد لا يُعرَف مُصدرها، وقد تزداد نسبة المبيعات، وقد لا تحدث الفضيحة المُتوقَعة.

إعلان

إلا أنّ أتبَاع منهج الفلسفة الرواقية قد يعارضون اتباع استراتيجة التخفيف عمّن يعانون من القلق، وذلك لأنهم يؤمنون بأنّ القلق يزدهر في الفجوة القابعة بين ما نخشى حدوثه وما نأمل أن يحدث في المستقبل؛ وكلما ازداد حجم هذه الفجوة ازدادت تذبذبات المزاج واضطراباته. ولاكتساب الهدوء من جديد، يتوجب علينا أن نقوم بسحقِ بقايا الأمل الأخيرة -التي نؤويِها في أنفسنا- على نحوٍ مُنتظم. وبدلًا من نعمل على تهدئة أنفسنا بحكايا تشع أملًا وإيجابية، فإنه لمن الأفضل -من وجهة نظر الفلسفة الرُّواقية- أن نتقبل أسوء الاحتمالات بشجاعة مما يؤدي إلى شعورنا بالراحة التامّة في التفكير بها وعند حدوثها.

فعندما نواجه مخاوفنا بتحدٍ ونتخيل ماهية الحياة إن أصبحت هذه المخاوف واقعاً، فإننا سنتوصل إلى إدراكٍ جوهري: إن تحققت مخاوفنا فنحن سنتأَقلم مع العيش معها. فأنتَ ستتأقلم مع واقعك إن اضطررت الدخول إلى السجن أو إن خسرت أموالك كلها أو إن تمّ التشهير بك على الملأ أو إن هجرك أحبابك أو حتى إن اكتشفتَ أنّ تقدمك في الحياة يدفعك للهلاك (أي الانتحار) -حيث يؤمن أَتبَاع المنهج الرُّواقي إيمانًا راسخًا بالانتحار. فنحن عامَّةً ما نجرؤ فقط على إلقاء نظرةٍ خاطفةٍ على الاحتمالات المُروِّعة من خلال عينينِ شبه مُغلَقتين، وبالتالي نسمح لهذه الاحتمالات بأن تستحوذ علينا بقبضتها الساديّة.

فيدعونا الفيلسوف سينيكا بدلًا من ذلك إلى:

“أن نفترض حتمية وقوع ما نخشى وقوعه بهدف التخفيف من القلق الذي يسيطر علينا والتوتر الذي يعترينا”. 

فبالنسبةِ لصديق يعصف به خوف بقائه خلف قضبان السجن الباردة، يرد الفيلسوف سينيكا قائلًا: “يمكن تحمّل حياة السجن إن كان قاطنه يفهم على نحو دقيق ماهية الوجود”.  

ويقترح أتباع منهج الفلسفة الرُّواقية أن نفسح لأنفسنا المجال لممارسة أسوأ الاحتمالات التي قد تحدث مستقبلًا. فعلى سبيل المثال: يتوجب علينا أن نحدد أسبوعًا أو عامًا يقتصر فيه طعامنا على الخبز فقط وننام فيه على أرضية المطبخ متلحفين ببطانيةٍ واحدة فحسب؛ وذلك بهدف التوقف عن كوننا شديدي الحساسية حول التعرض للطرد من المنزل أو حول المكوث في السجن.

فنحن بذلك سوف ندرك -كما يشير الفيلسوف ماركوس أوريليوس:

“أنّنا نحتاج لقليلٍ من الأمور لنعيش حياةً سعيدة”.

فسيقوم شخص يتبع المنهج الرُّواقي بحذافيره بالإقبال -مع سبق الإصرار والترصد- على كل الأمور المُروِّعة التي قد تحدث في الساعات المُقبِلة.

وبِكلماته التي تزيد من بأس الفرد، يُشير الفيلسوف ماركوس قائلًا:

 لقد وُلِدتَ من جسدٍ فانٍ، ووَهَبْتَ الحياة لأجساد فانيةٍ بدورها؛ لذلك يتوجب عليك أن تتوقع كل شيء وأن تتجهز لِحدوثه.

إن الفلسفة الرواقية ما هي إلا لباسٌ أنيقٌ مصمَّمٌ بعبقرية يُرتَدى تجهزًا لوقوع الكارثة الحتمية.

2. شدة الغضب

نحن بطبيعتنا البشرية نشعر بالغضب من شركاء حياتنا أو من أطفالنا أو من سياسييّ بلادنا؛ ولذلك فنحن نقوم بإيذاء الآخرين وتحطيم الأشياء من حولنا. إلا أنّ أتباع المنهج الرُّواقي يؤمنون بأن الغضب ما هو إلا شكل خطير من أشكال انغماس الفرد بذاته وبأنه جزء لا يتجزء من غباء الفرد وحماقته. حيث تبدو نوبات الغضب -عبر تحليلِهم الفلسفي- نتاجًا عن أمر واحد؛ ألا وهو وجهة نظرٍ خاطئة عن الوجود. فنوبات الغضب ما هي إلا ثمارٌ مُرَّةُ المذاق تنمو نتيجة سذاجة الفرد.

فمن وجهة نظرٍ رُّواقية، ينتج الغضب عن اصطدام الأمل مع الواقع بشكلٍ مأساوي. ونظرًا لأننا لا نصرخ غضبًا في كل مرة يحدث فيها ما هو مؤسف بل عندما يحدث ما هو مؤسف وغير مُتَوَقع، فيتوجب علينا -سعيًا لنصبح أكثر هدوءًا- أن نتوقُعٍ أن تقدم لنا الحياة ما هو أقل مما نستحق. فمن المؤكد أن أحباءك سيخذلونك، ومن الطبيعي أن يخيب زملاؤك من آمالِك، ومن الحتمي أنّ أصدقائك سيَكذبون عليك؛ ويجب ألا تتفاجأ بحدوث أيٍّ من السيناريوهات هذه. فإن كنتَ من أتباع المنهج الرُّواقي، يحق لك أن تشعر بالحزن إثر حدوث هذه السيناريوهات؛ إلا أنه لا يجب أن تشعر بالغضب إزاءها.

فيتوجب على الإنسان الحكيم أن يسعى إلى الوصولِ إلى حالة نفسية لا يسمح فيها لأي شيءٍ بأن يؤثر -فجأةً- على راحة باله؛ فيجب توقع حدوث كل موقف تراجيديّ قبل وقوعه. فيتساءَل الفيلسوف سينيكا: “ما الفائدة من البكاء على أجزاءٍ صغيرةٍ من الحياة في حين أنّ الحياةَ ككل تدعونا لذرف الدموع على عيشنا إياها؟”.

3. الارتياب

من السهل بالنسبة لك أن تعتقد أنّه تمَّ انتقائك من بين جميع من حولك لِتمُرَّ بالمواقف السيئة، فتتساءل عن سبب حدوث ذلك لك أنتَ بالتحديد. وينتهي بِكَ المطاف مُلقيًا اللومَ على نفسك أو مُوجِّهًا حقدك المدفون نحو العالم الذي أدى بك للمرور بتلك المواقف السيئة.

ويدعونا المنهج الرُّواقي إلى التخلي عن ردي الفعل هاذين؛ فالأمر قد لا يكون ناتجًا عن خطئنا ولا عن خطأ غيرنا. فأتباع المنهج الرُّواقي -رغمَ أنهم ليسوا متدينين- كانوا مفتونينَ بآلهة الحظ الرومانية “فورتونا” التي اعتبروها التشبيهَ المثاليَّ للقدر. حيث اعتُقِد أن “فورتونا” -التي قام الرومانيون ببناء العديد من المعابد باسمها في أنحاء الإمبراطورية الرومانية- تتحكم بحظ الإنسان وأنها كانت تشكِّل خليطًا مُرعِبًا من السخاء والعناد والحِقد. لم تكن هذه الآلهة من مناصري الميريتوقراطية -نظام حكم مبني على أساس استحقاق الفرد للمسؤوليات والتكليفات بناءً على عوامل عدة-

قد كان تمثالها تمثالَ امرأةٍ تحمل:

  1. قرن الوفرة المليء بالأشياء الجيدة (كالمال والشعور بالحب وما شاكل ذلك) في إحدى يديها.
  2. ما يشبه ذراع طويلة للتحكم برافعة (tiller) تستخدمها لتغيير مسار حياة الإنسان.

واعتمادًا على حالتها المزاجية، قد تقوم “فورتونا” في دقيقة ما بإعطائك عملًا مثاليًا أو علاقة عاطفيةً رائعة وفي الدقيقة التالية ستقوم بمشاهدتك وأنتَ تختنق بحسكة سمكةٍ حتى الموت وذلك لأنها ترغب بذلك بكل بساطة. وبناءً على ذلك، فإنه من المهم بالنسبة لمن يتَّبع المنهج الرُّواقي أن يتقبل حقيقة أنّ ما تقدمه لنا الحياة يقبع بين يدي هذه الشخصية المجنونة. فيحذِّر الفيلسوف سينيكا قائلًا:

“تجرؤ “فورتونا” على القيام بأي شيء تريده”.

إن فهم هذه المعلومة مسبقًا وتقَبُّلِها يجعلنا نرتاب من النجاح الذي نحققه ونرفق بأنفسنا عند الفشل؛ فنحن -بكل ما تحمله الجملة من معنى- لا نستحق معظم ما نحصل عليه. وبِذلك فإن مهمة من هو حكيم تتمثل بعدم التصديق بهدايا الحظ التي تقدمها لنا “فورتونا” -من شهرةٍ وأموالٍ وسُلطَةٍ وصحةٍ وعشقِ- نظرًا لأنها ليست ملكنا في المقام الأول؛ وبناءً على سبق يجب أن نرخي قبضتنا حول هذه الهدايا لنُمسِكها بِِخفَّةٍ وحذرٍ شديد.

سينيكا
فورتونا آلهة الحظ الرومانية

4. فقدان الفرد لِلنظرة الصحيحة للعالم

نظرًا لأنك محكومٌ بطبيعتك البشرية، فأنتَ تهوِّل من أهمية وجودك في هذا العالم؛ فالأحداث التي تطرأ في حياتك تشغل حيزًا ضخمًا في العالم -من وجهة نظرك بالطبع. ولذلك تتوتر وتصاب بالذعر وتشتم وترمي ما يقع عليه نظرك في الغرفة. ولاستعادة رباطة جأشك، يتوجب عليك أن تستعرض نفسك من زاويةٍ تراها فيها على أنها تشغل حيزًا أقل أهمية في العالم؛ أي عليك أن تتخلى عن الوهم الاعتيادي والمُزعج بأن تصرفاتك وكينونتكَ لهما أهمية في الوجود.

  • لقد كان أتباع منهج الفلسفة الرواقية فلكيّين بجدارة؛ حيث أوصوا طلاب الفلسفة أجمعين بتأمل السماء. ففي المرة القادمة التي تتمشى فيها مساءًا، انظر للسماء ولاحظ الكواكب القابعة فيها لترى كوكبي الزُهرة والمشتري يلتحفان بعتمة ليلها. وإن كان وقت غروب الشمس قد حلَّ فمن الممكن أن ترى أجرامًا سماويّة أخرى: كالنجم العملاق الأحمر الدَّبَران أو مجرة المرأة المسلسلة أو كوكبة الحمل وغيرهم الكثير. فوجود هذه النجوم والكواكب يلمِّح نحو الامتداد الذي يفوق الخيال للنظام الشمسي والمجرَّة والكون. فمنظر السماء يمدُّ الفرد بالأثرٍ المهدئ الذي يُقدِّسه أَتبَاع المنهج الرُّواقي. ففي ضوء هذا المنظر البديع ندرِكُ أن أيًّا من مشاكلنا وخيبات آمالنا أو حتى آمالنا ليس لها أهمية في الوجود. فلا يمكن لأي شيء سبق أن حدث لنا أو لأي شيء نقوم به في هذه الحياة أن يكون ذا أهمية من منظورٍ كونيّ.

خُلاصةُ الأمر

نحن في حاجة ماسةِّ لأن نتبِع منهج الفلسفة الرواقية أكثر من أي وقتٍ مضى؛ فنحن نواجه يوميًا مواقِف فَهِمَها أتباعه وأرادوا أن يجهِّزونا لمجابهتها. وعلى الرغم من أنّ تعاليمهم سوداوية وتدعونا للإفاقة من أوهامنا، إلا أنها في ذاتِ الوقت شديدةُ الدقة لدرجةٍ خيالية وذاتُ طبيعة تواسي الفرد. كما وأنهم يدعوننا إلى الشعور بالبطولة والتحدي في مواجهتنا لاضطرابات حياتنا الجمَّة. فخذ على سبيل المثال قول الفيلسوف سينيكا التالي:

“انظر إلى مِعصمَيك؛ هنا تكمُنُ حريتك التي يمكنك الظفر بها في أيّ لحظة”.

فالحلُّ الوحيد للموازنة ما بين البهجة المبالغ فيها والدعوة البلهاء إلى الإيجابية المُطلَقة في عصرنا هذا يتمثل باللجوء إلى الحكمة المُمتِعة والمشوبة في ذات الوقت بشيء من الألم التي تمتع بها هؤلاء الحكمَاءُ القُدامى؛ نظرًا لتأثيرها الذي يُدخِل النفس في حالةٍ من الهدوء.

إعلان

مصدر المصدر
فريق الإعداد

إعداد: راما ياسين المقوسي

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا