إقامة الصِلات بين الفلسفة والواقع الاجتماعي

دائماً ما يُنظر إلى الفلسفة على أنّها ذلك النشاط المقصورة ممارسته على مجموعة من المخابيل، أو في أفضل الأحوال على غريبي الأطوار المُغتربين عن واقعهم الاجتماعيّ، الذين ينخرطون في تداول وإنتاج مجموعة من الأفكار العبثيّة مُشيدين بها برجًا عاجيًا يقبعون في أعلاه منفصلين تمام الانفصال عن جميع جوانب الحياة فى العالم الواقعي.

ولسنا ننكر بأيِّ حال أنّ تاريخ الفلسفةِ يحفل بأمثلة ليست بالقليلة من الأفكار صعبة المراس والتراكيب اللغويّة المعقدة. غيرَ أن هذه الصعوبة -أو التعقيد إن شئت- إنَّما هي ناشئة من شدة التمعُّن في استقصاء الأفكار وسبر أغوارها. فالفيلسوف مثل الغوَّاص، بإمكانه الغوص في الأعماقِ السحيقة، والابتعاد عن سطح الماء، لكنّه دائمًا ما يبدأ منه. والجميع عادةً لا يرون الفيلسوف سوى وهو في الأعماق، غافلين عن كونه قد بدأ رحلته هذه من السطح، من نقطة تلاقيه معهم، أو لنقل بتعبيرٍ آخر، من واقعه الاجتماعيّ. ودعونا نوضح ذلك.

لا يخفى على أحدٍ أن معنى كلمة “فلسفة” في أصلها اليونانيّ هو حُب الحِكمة. ورغم ما اكتسبه المصطلح من معانٍ ودلالات متعددة عبر الزمن وفقًا للمدارس الفلسفيَّة المُختلِفة، إلا أنَّنا آثرنا البدء من هذا المعنى، الذي نحسبه لازمًا عن كل المذاهب والمدارس الفلسفيَّة مهما تباينت آراؤها وتعددت. ولا شك أن الإنسان، باعتباره حيوان ناطق (عاقل)، لطالما كان يسعى على مر العصور إلى تمام الفهم، والتبصُّر بحقائق الأمور، أي إلى الحكمة. ومن ثم كان التَّفلسف ملازمًا له منذ أن وجِد.

 

إنَّ التَّفلسُف ليس مجرد نشاطًا عقليًا مُفرغًا من أيّة مضامين واقعيّة واجتماعيّة، بل إن الواقع كان دائمًا هو نقطة انطلاق التَّفلسُف، فالأسئلة الكُبرى في حياة المرء، والتي نُسمِّيها وجوديّة، المتبلورة في معرفة مبدأ وجودنا ومنتهاه ومبتغاه، كلها تقع في لُبّ الفلسفة وتشكل جوهرها. ولا تتعلق الفلسفة بالجانب النظريّ وحده، أي بمجرد الأفكار دون ما تقتضيه. فـ”الحكمة”، كما يقول ابن عربي، “إذا لم تَكُن حاكمةً لا يُعول عليها.” لذا، فلم تقتصر أسئلة الإنسان على الجانب النظريّ من الوجود، وإنَّما شملت الجانب العمليَ أيضًا متمثلًا فيما يجب عليه فعله، وسُبل تنظيم حياته وعلاقاته، ليس مع أقرانه فحسب، بل مع الوجود من حوله بأكملِه.

 

فبدءً من أفلاطون وجمهوريته، مرورًا بروسو، وبنثام، ومونتيسكو، ولوك، ووصولًا لماركس، وتشومسكي، ورولز، ما فتىء الفلاسفة يبحثون عن ما هو ممكن من خلال ما هو موجود؛ سعيًا نحو عالمٍ أفضل، لتتجاوز بذلك الفلسفة مهمتها التي لطالما أشار إليها الفلاسفة سابقًا وهي فهم الواقع كما هو عليه إلى، كما يقول ماركس، السعي إلى تغييره. فكل مظاهر الاجتماع البشريّ من سياسة، واقتصاد، وتشريع، ومعاملات انبثقت أساسًا من التَّفلسُف والسجالات الفلسفيَّة عبر التاريخ؛ بل ويمكنُّنا القول أنّ كل ممارسة عمليّة يقبع وراءها أساسًا نظريًا تُشكِل فلسفة ما. ولا يُستثنى الدين من ذلك باعتباره، وفقًا لما طرحناه، ليس متمايزًا عن الفلسفة وإنَّما جزء منها بما يحتويه من معتقدات تمثل رؤية كونيّة وإطارًا مفاهيميًا وتصوريًا حول القضايا الوجوديّة الكُبرى، وكذلك ما يحتويه من أحكامٍ تشريعيّة تؤسس لسبل تنظيم علاقة الإنسان بكل ما يحيطه.

 

إعلان

وربما يجهل البعض أنّ أحد أنفَس منجزات الحضارة الإنسانيّة، إن لم يكن أنفَسَها على الإطلاق، أي العلم، ليس نتاجًا للفلسفة فحسب، وإنَّما، وأرجو ألا أثير حَنق البعض بهذا، هو بذاته فلسفة. فما يُميّز العلم ليس سوى منهجه، بل إنّ البعض يماهي بينهم قائلين أن العلم هو المنهج. والثورة العلميَّة الحديثة في جوهرها ما هي إلا ثورة منهجيَّة، فكوبرنيكوس، وجاليليو، ونيوتن، وبيكون، لم تخلد أسمائهم لشيءٍ سوى لترسيخهم مبادىء المنهج العلميّ الحديث وإرساء دعائِمه، بل إنّ هذا الأخير، بيكون، يُعزى إليه الفضل في تدشِينِ الثورة العلميَّة الحديثة فقط عبر استحداث منهجه الاستقرائيّ. بل وأكثر من ذلك، أنَّ نيوتن، أحد أقطاب العلم الحديث، وضع مبادئه الأساسيَّة الميكانيكيَّة والفيزيائيَّة في كتابٍ أسماه “المبادىء الرياضيَّة للفلسفة الطبيعيَّة”؛ حيث لم يكن قد تم الفصل بين الفلسفة والعلم بمعناه الحديث آنذاك، بل كان يتم دراسة الطبيعة كأحد مباحث الفلسفة (الفلسفة الطبيعيَّة).

 

وما أحْوَج الإنسان في عصرنا الحالي، الذي تشعبت مذاهبه وتناثرت أيديولوجياته هنا وهناك، إلى ما يُقَوِّم به مواقِفه، ويشحذ به عقلَه، ويصقُل فِكرَه، ويسوِّغ له أفعاله واختياراته من متعددات. ويزن له الأفكار، مميزًا الغَثِّ من السَّمين. إن كل إنسانٍ لهو فيلسوف بقدرٍ ما، حتى وإن لم يدري. فكل إنسانٍ له رؤية ما وتَصَوُّر ما يؤطِّر سُّلوكياته ونظرته للواقع، وكل إنسان يرغب في الفهم ونيل الحكمة. بيد أنَّ الفرق بين المُنشغل بالفلسفة ومن لا يعبأ بها -رغم كونه متفلسفًا بقدرٍ ما- هو معرفة الفيلسوف بقيمة الفلسفة باعتبارها نقطة البدء لكل فهم وإدراك، وبوابة العبور إلى آفاق كل ما هو ممكن من أجل تحسين التجربة الإنسانية ككل.

وفي الأخير، فمن يجد ذاته مُعرضًا عن كل ما سبق، منصرفًا عن الفلسفة باعتبارها ترهات لا معنىً حقيقيّ لها فضلًا عن أيّ قيمة فعليَّة، فما عسانا سوى أن نقول له ما قاله أرسطو، بأنَّه من يريد أن ينبذ الفلسفة، يتعيَّن عليه أولًا أن يتفلسف ليقنعنا بذلك!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عمر فتحي

تدقيق لغوي: بتول سعادة

اترك تعليقا