الغُرفة… قصة قصيرة

مرحبًا سيدي حامل الرسالة.

لا عِلم لدي إن كانت رسالتي ستقع في يدى رجل أم امرأة أم طفل أم عجوز انحنى ظهره فلاحظ سقوطها، ما يهم أنها وصلتك.لا يهم إن أعطيتها إهتمامًا زائدًا أو ألقيت بها فور قرائتها، فالهدف من كل هذ السطور الآتية أن أكسر حاجزًا علقت به في هذه الغُرفة، أن أُري أحدهم هذه الجدران التي عَلقت بها لسنين.

كُنت في العاشرة من عمري عندما بدأت أولى شكوكي حول كوني أعاني مشكلة ما، أن رؤيتي لا تصيب دومًا. في باديء الأمر لاحظ أهلي فزعي من رجلٍ ما يقبع أسفل سريري يداه تمتد لتخنقني كل ليلة. كطفل يقص تلك الأحداث كان يعامل معاملة من يهاب الظلام، وهنا علموني معنى كلمة “فوبيا” وأني أعاني من غياهبها.
لاحقًا، عندما حاولت جاهدًا مُحاربة خوفي المزعوم من الظلام، حيث واجهته بِحبس نفسي في الظلام وإتمامه بأن أغمض عيناي قدر المستطاع. أتذكر جيدًا كيف انتهى الأمر أني واجهت شللاً غريبًا في جميع أطرافي حينها، حتى شفتاي تجمدت، كان شيئا ساخراً بالنسبة لي أن لا شيء إلا عيناي يستطيع الحراك.

تملكني الخوف، الشعور بكل تلك الأشياء تجوب حولي وتهمس لي همسًا بدا لي كموجاتٍ تعتصر قلبي.

حينها تملكني الفضول بأن أفتح عيناي، فالبشر دومًا لا يستطيعون تمالك كبت قدراتهم، وقدرتي الوحيدة حينها كانت الرؤية. رأيت الكثير، كل ما قد يستطيع قتل طفلٍ مثلي حينها كان يجوب الغُرفة؛ عجوز سوداء البشرة ذات شعيراتٍ ذهبية تحمل سوطًا، ورجلٌ لا يملك وجهًا ولا وِجة في حراكه، وآخر أذاب الجحيم جسمه بالكامل، حتى صف جمجمته كان متآكلاً، والكثيرون ممن لم يفارقوني حتى هذا اليوم الذي أكتب فيه.

لا أتذكر كيف تخلصت من هذا الشلل، ولا أتذكر أني هبت الظلام مرةً أخرى.

إعلان

تحديدًا في تلك الأثناء تعلمت شيئان: الأول أن العيب لم يكن في الظلام يومًا، والثاني كان مفهومًا يدعى “الجِن والعفاريت”.

كنت أقرأ قصصًا حينها والكثير من الكتب، التي قد تتضمن اللفظ، ومع دعم مَن حولي، كانت حكاية الجن والعفاريت غير مبرر لما يرافق رؤيتي للعالم. كان هذا العالم ولازال أكثر الأماكن التي قد تقتلني رعبًا. بمرور الأيام وإختلاف ثقافتي في التعامل مع كل هؤلاء الزوار وثقافتي العلمية أيضًا، تيقنت أني مريضة بمرض ما، وأن ما كل هذا إلا هلاوس يختلقها عقلي.

كنت أقضي الساعات من يومي متأملاً هذا الرجل الذي يشبه الظل العالق على سقف غُرفتي، وأتسائل كيف أنتج عقلي كل هذا النتاج. أما ما تبقى من اليوم كان فزعًا دائمًا من حدوث كل ما أراه في منامي في اليوم التالي، تافهًا كان أم حدثًا مهمًا، كان يتكرر.

في مرحلة ما أصبحتُ أتقبل كل شيء، هؤلاء وليدي ظلام غُرفتي ما عادوا يؤذوني، أصبحت علاقتنا مبنية علي التفاهم، أنتم من باطن عقلي، فلا داعي لتعذيبي بما يكرهه عقلي بي، كما أصبحت أتلاشى أحلامي، حتى أني كرهت النوم لفترة ما وكان أكثر ما أهابه.

لن أطيل عليك بقصتي عن كيف دار أول حديث لي مع أحد هؤلاء وليدي عقلي، لأنه لن يكون شيئًا يتقبله عقل بشري آخر سواي. لكن دعني أطلعك أني توصلت لجمال ما في الأمر، فاختلاط الأمر عليّ لفترة ما لأحدد أي هذا حقيقي وأيه لا كان يعطيني شعورًا جيدًا بأن العالم قد يملك الكثير من الأوجه، وأني قد أكون رزقت بصرًا يتعدى أحد تلك الأبعاد الكامنة في عقلي. يومًا بعد يوم كان هذا الفكر يسودني فيريح خاطري ويهدئ من صخب العالم حولي، كما كان نقمي وكرهي لذاتي يزداد لما هي عليه لسبب أجهله!

في يومٍ ما تركت تلك الغُرفة، حظيت بغُرفة جديدة، تمنيت لها أن تكون بدايتي مع عالم واضح الرؤيا. لم تكن بداية موفقة كما ظننت، فالغُرفة الجديدة كانت تعج بهم في كل ليلة، ناقمين تركي موطنهم، فحتى هذا الرجل الذي لا يملك فمًا كان يصيح بي.

كنت ثائرًا دومًا عليهم، كنت ألعن تلك الغُرفة التي أنجبتهم، وفي أحد الأيام اقترب أحدهم لينال حديثًا قصيرًا معي دون ضجيج، أخبرته في لحظة غضب أني أكره وجودهم وأكره كل ما يتعلق بهذه الغُرفة، أخبرته أن عالمي كان ليصبح أقل ضجيجًا وأني كنت لأنال المزيد من الفرص، كانت وظيفة هذا الشيء في هلاوسي أنه مبتسم، دائم الإبتسام، كان أكثرهم رعبًا بالنسبة لي لكونه بهذه الطبيعية.

لم يبادلني الرد بل الإبتسام، ثم رحل، ورحلوا جميعًا معه، لأكون لأول مرة في حياتي وحيدًا في تلك الساعات من الليل.

لم أنم، وفي اليوم التالي قصدت طبيبًا للأمراض النفسية، كانوا يتقاتلون في طريقي إليه، دلني علي العلاج، ودعم موقفي بطردي لهم. كان العلاج فعالاً لكن مشتتًا بالقدر ذاته، لم أعتد الحياة دون أن يمر أحدهم بجانبي، دون أن يختلس أحدهم السمع في نقاش أخوضه، أو حتى دون تدخلهم في قراراتي.

إزدت كراهيةً لنفسي لما فعلت، شعرت كمن قتل حياةً كاملة بحبة دواء. وبكل صدق، إشتقت لكل ما أنتبه عقلي، فهم ذكراي الأقوى عن هذا العالم.
أقلعت عن الدواء بالطبع، وظللت أنتظرهم في كل ليلة، أبحث عنهم في كل الشوارع، حتى أني ضيعت ساعات أخرى أبحث عنهم داخل جدران عقلي. لكن لا شيء كان تبقى منهم.

كنت أحيانًا أصادف أن أرى عين الرجل الذي أذابه الجحيم ملقاة بجانب ساعتي، أو خصيلات شعر تلك السيدة الشقراء بجانب وسادتي، كما كنت أرى الكثير من الناس مرتدين بذة الرجل بدون الوجه، والكثير من المبتسمين.

انتظرت كثيرًا، حتى أني إشتقت لتلك الغُرفة التي بدأ معها كل هذا الأمر.

لم يتناسب الأمر قط مع حياتي كشخص -يبدو- طبيعيًا، لم يكن كل هذا القدر من الزخم متناسبًا مع زحام حياتي الشخصية وأولوياتي كطالب جامعي أو حتى كصديق يحاول أن يكون وفيًا بقدر الإمكان.
اعتدت تجاهل وجود شيء، لأتخطى ضغوطات الحياة، لكن الآن أصبح عدم الوجود ضغطاً زائدًا في حد ذاته.

في يومٍ ما وبدون أدنى علم لي كيف حدث هذا، استيقظت في تلك الغُرفة التي بدأ فيها كل هذا الأمر.

كانت كما عهدتها في طفولتي تمامًا لكن المختلف حتمًا أنها كانت ترافقني حيثما ذهبت. يصعب تخيل الأمر أو وصفه في رسالة لمجهول، لكن حتمًا لو كنت قد صادفتك في أحد الشوارع فسوف أراك عبر نافذتها أو بابها إن كان مفتوحًا.

كانت تضيق كلما ضاق صدري، كانت تغلق الباب كلما اقترب أحدهم، كانت تعزل عني الصوت إن حاول أحدهم أن يطيل الحديث بغلقها النافذة، وعندما كنت أُعاني نوبات فزعي كانت تنكمش عليّ، كان السقف والأرض والجدران يتحركون نحوي حتى أصل لأقصى درجة يمكن للجسم البشري أن ينكمش وينضغط عندها، فتتسع ثانيةً بهدوء وتصلح أثاثها ذاتيًا، كذلك حتى حين أصيب بالغثيان، تبادر بالدوران رأسًا على عقب.
عاودت أخذ علاجي للتخلص من الغُرفة، لكن بلا جدوى. أصبح الأمر يثير ارتياب الجميع، كوني أري جدارًا لا يراه أحد يختلف تمامًا عن رؤيتي شيء ما. لم يعبر أحدهم تلك الجدران أبدًا، حتى عانيت من الوحدة لأقصى حد.
لم يعد لي شيء في هذا العالم، نفسي خسرتها منذ أن شرُعت في تعذيبي، والناس بُنيَّ بيني وبينهم جدار، وكل ما قد يكون ذكرى لطيفة في خيالي استهل بها خطاب ما قتلته بيدي.

فماذا تبقى يا صاحبي المجهول؟

أكتب لإيماني أن الكتابة دائمًا ما كانت الوسيلة الأمثل لملء العالم بالموجودات، فقد حان الأوان لموجوداتي أن تملأ أحد تلك الكتابات.

أو لعله هروبًا من تقلص الغُرفة عليّ الآن، لكني سأصمد كالمعتاد حتى تتمدد مرة أخرى، لا أعرف بأي شارع أنا أو إن كنت حبيس هذا المكعب حقًا، حتى أني علي شكٍ وريبة من وجودي.

لكني سأمرر هذه الرسالة من أسفل بابي المغلق الذي يكاد يحطم ظهري الآن حيث تلامس أنامل أصابع قدمي الجدار المقابل له، تمنى لي رحلة انكماش لطيفة، وإن صادفت أحد هلاوسي التائهة في منامك، رجاءً، رده عن وجهته التائهة، وبلغه اعتذاري، فأنا أؤمن أنهم موجودات في مكان ما تبحث عن صاحب لها، فإن تركوا عالمي سيجدون عالماً آخر.

تحياتي.

شخص أجهله كجهلي بك وجهلك بي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: آمال رشاد

تدقيق لغوي: رنين السعدي.

تدقيق علمي: نهال أسامة

اترك تعليقا