العمارة الشجرية.. مبانٍ حية تستمرُّ في النمو

"بدل أن نبني مبانينا، فلنفسح المجال لها لتنمو". الشعار البسيط للعمارة الشجرية والذي يلخّص كامل فلسفتها.

تماشيًا مع عصر البيئة والاهتمام البيئي، وفي ظلّ هيمنة العمارة الخضراء (*1) على أبحاث العمارة والعمران والتنمية المستدامة، برزت العمارة الشجرية Arbortecture كأحد أكثر أشكال العمارة الخضراء تطرّفًا وجمالًا وإثارةً للخيال.

وفي هذا المقال سنأخذكم في رحلة للتعرّف على هذا اللون التصميمي المختلف والمثير للدهشة.

                  

العمارة الشجرية باختصار:

“بدل أن نبني مبانينا، فلنفسح المجال لها لتنمو”. الشعار البسيط للعمارة الشجرية والذي يلخّص كامل فلسفتها. إذ تقوم هذه الفلسفة على دمج العناصر المعمارية مع العناصر النباتية “الحية” ضمن التصاميم المعمارية بحيث يكون الاعتماد على العنصر الأخضر هو أساس الفكرة التصميمية، وذلك بتشكيل العنصر وتوظيفه بالشكل المناسب وضمن فترة زمنية طويلة نسبياً تضمن نموّه ليأخذ مكانه في التصميم.

حسب هذا التعريف، لا يمكن تصنيف الأكواخ المبنية على الأشجار كأمثلة عن العمارة الشجرية، فما نقصده بتعريفنا يشمل مبانيَ أكثر ابتكارًا وتعقيدًا، تعتمد على الأشجار الحية كهيكل أساسي ووحيد للمبنى أو العمل المعماري وليس كعنصر مساعد. ورغم أن هذه الفكرة تبدو حديثة للوهلة الأولى، إلا أنها في الحقيقة أقدم مما نتصور.

إعلان

جسور من الجذور:

يُقال أنّ الحاجة أمّ الاختراع، ويبدو أن سكان منطقة خاسي Khasi في الهند اضطروا ليعيشوا تطبيقًا عمليًا لهذا المثل، فبعد فشل محاولاتهم لبناء جسورٍ من نباتات البامبو قوية وثابتة وقادرة على مواجهة العواصف، اضطروا إلى التفكير بطرق أخرى أكثر ديمومةً ومتانة. وبملاحظتهم لمدى قوة جذور أشجار المطاط المحلية، والتي تبرز فوق التربة في منطقة تصنّف كأعلى مناطق العالم رطوبةً، عملوا على استغلال هذه الجذور وربطها مع بعضها في عملية تستغرق عشرات الأعوام لبناء جسور تعتبر اليوم علامة معمارية بارزة يؤمّها السياح من مختلف مناطق العالم. وبذلك تحتفظ هذه المنطقة بمجموعة من أقدم النماذج التي يمكن تصنيفها كعمارة شجرية حية، على شكل جسور مبنية من جذور بعض الأشجار المحلية والتي يعود تاريخ بعضها إلى أكثر من 600 عام.  بعض هذه الجسور أخذ شكلًا أكثر تعقيدًا كالجسر الأيقوني ذي الطابقين في منطقة أومشيانغ شمال الهند.

                  

نرشح لك: التركيب الضوئي الصناعي .. إنتاج المادة العضوية بعيدا عن عالم النباتات

الأشجار كمنحوتات فنية:

لم يكن استغلال النباتات الحية في أعمال معمارية كبيرة كالجسور متاحًا في الكثير من المناطق في العالم، وهو ما جعل العمارة الشجرية تتطور ببطء إلى حدٍّ ما. ولكن أشخاصًا يملؤهم الشغف استطاعوا بناء تحف مذهلة من إنماء الأشجار في أشكال وقوالب غير معتادة، واستغلالها في وظائف جمالية أو معمارية. ويُعدّ إكسل إرلاندسون أحد أبرز هؤلاء الأعلام، فمعرض أشجاره المكوّن من 70 شجرة مختلفة التكوين لا يزال مصدر إلهام لكثير من الفنانين منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. بينما يُعتبر كرسي “جون كروبزاك” 1914 مثالًا فريدًا لتوظيف النباتات كعناصر معمارية تشكّلُ جزءًا من الأثاث المعماري في الحدائق بل وربما في المنشآت العامة أو المنازل حتى. وقد تطوّرت فكرته وألهمت الكثيرَ من الفنانين، إلى أن استطاعتْ أن تحجز لنفسها حيزًا كبيرًا من الاهتمام في معرض إكسبو 2005 في اليابان.

                       

 

العمارة الشجرية في المشاريع المعاصرة:

يعمل بعض المعماريين الطموحين على تحدّي سقف الإمكانيات التي توفرها العمارة الشجرية، محاولين بذلك خلق هياكل معمارية حية ومستدامة يمكن إنماؤها وتطويرها في مناطق مختلفة من العالم، كأحد الأفكار الخضراء الضرورية في مدن المستقبل الرّازحة تحت كمٍّ مهولٍ من التهديدات البيئية والمناخية.

يُعتبر “منزل الطبيعة” أحد الأمثلة المبتكرة ضمن مشروع طموح لبناء قرية خضراء باسم “Fab Tree Hab” توفر السكن والطعام والهواء النظيف لأفرادها من منازلها. تخيل منزلًا يعتمد على الأشجار الحية في هيكله بدل الأخشاب المقطوعة! هذه هي الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها المشروع. ولأجل ذلك يتم تشكيل الأشجار الحية ضمن قوالب وسقالات تضمن نموّها بالشكل المطلوب خلال 5 سنوات لتكوين الهيكل الأساسي للمنازل والذي سيتم تغطيته بالطين، ومن ثم يصبح جاهزًا للاستخدام.

                  

وفي مشروعٍ طموح آخر، قام مجموعة من الطلاب بتصميم حديقة شجرية على شكل قبة تحتاج من 60 إلى 80 عامًا لإنمائها، بحيث يتم توظيفها كمتنزه خيالي بين جذوع الأشجار من الأسفل، مع سلم طبيعي من فروع الأشجار يحملك إلى ظهر القبة حيث تنمو غابة من الأغصان والأوراق والثمار.

                             

أما الدكتور فرديناند لودفيغ، فقد أخذه خياله إلى فكرة أكثر جرأة وتحديًا، وذلك بإنشاء مبنى حيٍّ مكوّنٍ من ثلاثة طوابق بالاعتماد على 100 نبتة صفصاف صغيرة يتم إنماؤها ضمن أحواض محمولة على سقالات مؤقتة. ستتم إزالة السقالات بعد 5 إلى 10 سنوات، بعد أن تصبح النباتات قادرة على تحمّل أوزان الأفراد فوقها.

                

مستقبل العمارة الشجرية:

ليس من الواضح بعد إذا كان هذا النمط من العمارة سيستطيع الصمود والتطوّر ليصبح نمطًا سائدًا في عمارة المستقبل أم لا، لكن وبلا أدنى شك فهو يقدّم نماذج معمارية مذهلة وملهمة، ومعالم هندسية أٌقرب للخيال تضمن استمرار البيئة الطبيعية وتوجيهها لخدمة المصلحة المشتركة للإنسان والكوكب. وربّما مع استمرار البحث العلمي والتطوير، سنستطيع في المستقبل إيجاد الآليات التي تسهّل وتسرّع عملية الإنماء والتشكيل بما يضع العمارة الشجرية ضمن الإطار العام الذي يشكّل الرؤية العمرانية العالمية لمدن المستقبل.

          

اقرأ أيضًا: تشيرنوبل: تأثير ما بعد التجسيد الدرامي للكارثة النووية الأعظم

الهوامش:
*1 العمارة الخضراء "أو العمارة المستدامة": توجّه معماري يضع البيئة كاعتبار أساسي في عملية التصميم، وذلك
بدراسة مواد البناء المستخدمة في التصميم، والطاقة التي يستهلكها المبنى، ومدى اندماج المبنى ضمن وسطه 
الطبيعي، في إطار الحدّ من انبعاثات الكربون، وتشجيع الانفتاح والاندماج مع الطبيعة المحيطة.
المصادر:

1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: معاذ رجب

تدقيق لغوي: معاذ رجب

الصورة: مريم

اترك تعليقا