البساطة هي السر

عن رواية العجوز والبحر لإرنست همنغواي

«إنني عجوز عجيب» يقولها سانتياجو ردًا على الصبي النابه العطوف، الذي يرى فيه أمهر صياد في الدنيا، رغم أنه صياد سيئ الحظ، لم يظفر بسمكة واحدة منذ أربعة وثمانين يومًا!

لذلك فقد أجبره والده على ترك العمل مع العجوز، والعمل مع مركب «جالب للحظ» إلا أن هذا لم يمنع الصبي من الاعتناء بالعجوز بعد عمله، لأنه هو من علمه الصيد، ولأنه يحب حديثه الشائق عن مباريات البيسبول، وخصوصًا عن اللاعب العجوز «ديماجيو».

ويشتري الصبي قطعتين من الطعم الطازج لسانتياجو فيقبلهما دون تمنع، «كان الرجل من البساطة والتواضع حتى لم يثر ذلك دهشته، ولم يكن الأمر مخزيًا بالنسبة له، ولم يجد فيه مساسًا بكبريائه».

ويقرر العجوز في اليوم الخامس والثمانين أن يظفر بصيد؛ فيعقد العزم على أن يتوغل بقاربه بعيدًا، مخاطرًا بالذهاب إلى «البئر العظيمة» حيث العمق الكبير وتجمع الأسماك بسبب الدوامة. وفي هذه الوحدة وسط البحر سيظل العجوز يتكلم مع نفسه بصوت مرتفع، رغم علمه أنه لو سمعه أحدهم لظن به الجنون، لكنه لا يهتم.

يقول متأملًا: «لماذا خلقت الطيور الصغيرة بهذه الرقة، والمحيط بهذه القسوة؟ إن المحيط رقيق ورائع، ولكنه يستطيع أن يكون قاسيًا ويتغير على هذا النحو فجأة…». إن الصيادين الشباب ينظرون للبحر على أنه مذكر، ويعتبرونه منافسًا أو عدوًا لدودًا، أما هو فيفكر فيه كأنثى و«كشيء يمنح هدايا عظيمة أو يحتبسها محتفظًا بها لنفسه، وإذا صدرت منها أمور وحشية أو خطرة مؤذية فإنما لأنها لا تتمالك نفسها».

إعلان

ولا يضيع العجوز وقته في التأمل، وإنما يركز في العمل فيضع قطع الطعم في الخطاطيف المثبتة في الحبال، ويربط الحبال في القارب، ويظل يراقب الأسماك الطائرة والطيور التي قد ترشده إلى صيد.

لا يترك سانتياجو سببًا دون الأخذ به أو فرصة تمر مرور الكرام، «من الأفضل أن يكون الإنسان محظوظًا، ولكنني أوثر إذا عملت عملًا أن أتقنه، حينئذ إذا جاء الحظ يكون المرء متأهبًا لاستقباله». ولا يترك همنغواي تفصيلة دون ذكر واضح موجز.

ثم يصف حالة الترقب التي يمر بها العجوز، حتى يرى أحد الحبال وهو يهتز، فيمسك به برفق، وبخبرته يتخيل السمكة وهي مترددة في أكل الطعم، ثم..
«تناوليها أيتها السمكة، تناوليها، أرجوك تناوليها، كم هي سمكة طازجة، وأنت على عمق ستمائة قدم في الماء البارد الحالك السواد، قومي بجولة أخرى في الظلام وتناوليها…أليست لذيذة؟ تشمميها فقط…لا تخجلي أيتها السمكة». ويستمر الترقب طويلًا فلا تملك إلا أن تبتسم من الإثارة وتتسع عيناك من فرط الإعجاب ببساطة وصبر العجوز!

وتبتعد السمكة لكنه لا ييأس، ويفكر بينه وبين نفسه بأنها ستستدير وتبتلع الطُعم، «لم يقل ذلك؛ لأنه كان يعتقد أن الإنسان إذا تحدث عن شيء من الخير مقبل عليه، فربما لا يقبل ذلك الخير أبدًا».
وتستدير السمكة وتتناول الطعم أخيرًا، لكنها كانت من القوة والضخامة بحيث لم يستطع العجوز سحبها من الماء، وإنما هي التي سحبته هو وقاربه في المحيط، فيلف الحبل على ظهره ويظل ممسكًا به!

ويتساءل ماذا لو قررت السمكة الهبوط إلى أسفل؟ «كم أتوق إلى رؤيتها! أود أن أشاهدها ولو مرة واحدة فقط حتى أعرف من يقف ضدي» ويحاول استنتاج نوعها وطريقة تفكيرها «أهي تسلك هذا وفقًا لخطة لديها أم أنها تناضل يائسة مثلي؟».

وتمنى كثيرًا أن يكون الصبي معه ليساعده، لكنه اعتاد على الوحدة وعلى الاعتماد على النفس «ليس هذا أوان التفكير فيما ليس معك، فكر فيما يمكنك أن تفعله بما هو موجود لديك».

«أيتها السمكة، إني أحبك، وأكن لك كثيرًا من الاحترام، ولكنني سأصارعك حتى الموت». وتجذب السمكة الحبل فتجرح يده وتتقلص «من أي صنف أنت أيتها اليد، تقلصي إذا شئت، ولتتحولي إلى مخلب، فلن يفيدك هذا بشيء، ولن تفلتي من العمل» ثم يأكل قطعة من التونة عسى أن يكون هذا علاجًا ليده «بم تشعرين الآن أيتها اليد؟ سآكل مزيدًا من الطعام من أجلك».
إنه رجل لا يعرف اليأس قلبه، اليأس ذاته يئس منه والأمل وقع في حبه!

«أود أن أكون متعاطفًا مع السمكة، فهي أخت لي، ولكن لا بد من قتلها» وظل على هذه الحال ثلاثة أيام! كانت السمكة تسحبه ضد التيار، لكنها الآن قد أدركها التعب فأخذت تسبح مع التيار، وهو الآن ينتظر أن تموت أو تقفز خارج الماء فيصرعها برمحه، وعندما تقفز السمكة أخيرًا يقدر أنها أطول من مركبه بقدمين «كانت تلك السمكة أسرع من أي سمكة رآها، وأضخم من أي سمكة سمع عنها».

«يبدو أنها قفزت كما لو كانت تريني مدى ضخامة حجمها. وإنني أعرف الآن الطريقة التي تفكر بها، وأنا بدوري أريد أن أريها أي نوع من الرجال أنا».

وعند قدوم الظهر انفرجت يد العجوز فقال: «أنباء سيئة لك أيتها السمكة» «وشرع يردد صلواته بطريقة آلية، من أجل موت هذه السمكة» ثم شعر بالإغماء وأصيب بالدوار «محال أن أضعف أمام سمكة كهذه».

«اجذبا يا يديَّ، واشتدا يا ساقيَّ. واثبت يا رأسي من أجلي.. اثبت من أجلي ولا تنهر أبدًا».
كيف دبر طعامه ونومه وكيف قضى وقته وهو لا يزال ممسكًا بالحبل؟ ما هي الأفكار التي دارت بعقله والحيل التي اصطنعها والصعوبات التي واجهها؟ هل سينتصر على تلك السمكة الضخمة؟ كيف ستنتهي رواية العجوز والبحر التي قرأها الملايين وحصلت على جائزة نوبل؟ كنت أود اختصار القصة لولا حرصي على عدم حرمانك أيها القارئ من متعة قراءة هذه الرائعة.

البساطة هي السمة الغالبة على هذا العمل، أسلوب سهل في فهمه ممتنع عن الإتيان بمثله، ذلك أنه انعكاس لروح بسيطة، والجمال في البساطة.
استخدم همنغواي تكنيك staccato-style ويتميز بالجمل الصغيرة المتقطعة؛ فيحرك الأحداث، ويسرع الإيقاع، ويساعد في نقل المشاعر الحادة، والتغيير المفاجئ لمزاج المتلقي.

كما أن سلاسة السرد وقصر الجمل المستخدمة في الحوار وعدم تعقيدها تناسب بساطة العجوز، وتناسب وظيفته كصياد، فهو لم يعتد أن يتحدث طويلًا أمام عدد من الناس، لأنه يقضي جل وقته في المحيط وحيدًا، واللغة هنا هي إشارة واضحة للطبقة التي ينتمي إليها سانتياجو. هذا غير سنه والإنهاك الذي يصيبه في البحر فيجعله يلهث ويتكلم بتقطع.

ورغم اتساع النص للعديد من التأويلات وإغرائه لهواة فك الرموز والشفرات الذين وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار بطل الرواية رمزًا للمسيح، ورغم التوازي بين العجوز والسمكة، والتناقض بينهما والقروش، وافتراض التناقض بين العجوز والبحر. والتكامل بينه والصبي، ووجود بعض الـ«موتيفز» كتشابه جرح اليد مع جرح يد المسيح؛ فإن الكاتب نفسه نفى ذلك نهائيًا. لأنه رأى أن أي تأويل سينفي وجود أعجوبته الخالدة، وهي شخصية العجوز.

يقول همنغواي:

«ليست هناك أية رمزية، البحر هو البحر، العجوز هو العجوز، الصبي هو الصبي، السمكة سمكة. القرش ككل القروش، ليس أحسن ولا أسوأ. كل الرموز التي يقولها الناس هراء…»

الأمر أبسط من هذا، وبالنسبة لهمنغواي الحائز على وسام الشجاعة في الحرب العالمية الأولى فإن ما جابهه العجوز هو أمر اعتيادي للغاية، البطولة والعزيمة والشجاعة وقوة التحمل كلها أمور اعتيادية للغاية. ليس هاهنا عظمة ولا إعجاز، الإعجاز الحقيقي هو أن تصدر كل هذه الأمور من عجوز بسيط جدًا، وأن يتم التعبير عنها بأسلوب بسيط جدًا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله أسامة

اترك تعليقا