الوصف هو البطل الحقيقي

قراءة في رواية مدام بوفاري

«إن منظر المرأة العارية يجعلني أتخيّل هيكلها العظميّ» هذا هو جوستاف فلوبير، غريب الأطوار وكتلة المتناقضات، الذي كتب الرائعة الخالدة: «مدام بوفاري» في خمسةٍ وخمسين شهرًا، وكاد أن يُسجن بسببها!

لم يحدث أن تعاطف فلوبير مع البشر، بل كان يراهم أغبياء تافهين:

«إن أول أبله أراه كلّ يومٍ هو شخصي، حين أقف أمام المرآة في الصباح كي أحلق لحيتي! وآخر أبله هو أيّ إنسانٍ يصادف أن أتحدّث إليه قبل أن آوي إلى فراشي!»

رغم ذلك لم يكن قاسي القلب بل كان رقيقًا جدًّا، إلا أنه كان أضعف من أن يُظهر هذه الرقّة؛ لذا فقد اعتمد على دقّته في الملاحظةِ والتشبيهِ والوصفِ الدقيقِ والفهمِ الصحيحِ لطبائع الأشياء، والحسّ الساخر العبقريّ، الذي لا يُفلت مفارقةً إلا وعرضها بطريقةٍ تُشعرك أنه لا يعبأ بشيءٍ في العالم، حتى الجدل الطويل الذي دار بين الصيدلي الملحد والقس تمرُّ عليه وتشعر أن الكاتب يسخر منهما معًا!

ويشترك معظم شخصيّات الرواية في الأنانية والخسّة والنذالة، ويستطيع الكاتب أن يبعث في نفسك الكثير من الأسى دون التعاطف! ولا تملك إلا أن تتوقّف كل حينٍ عند بعض العبارات التي تفيض حكمةً، أو تُعرب عن فهمٍ عميقٍ للبشر.

قصّة رواية مدام بوفاري

تحكي الرواية قصّة ذلك الطبيب الريفيّ الطيِّب الذي كان في صباه بليدًا خجولًا، وأصبح فيما بعدُ شابًّا ضعيف الشخصيّة قليل الثقافة، ذا طريقةٍ جافّةٍ في التفكير إلى درجة الجهل بالكثير مما يتعلّق بالشعور. زوّجته أمه من أرملةٍ عجوزٍ غنيّةٍ لكنها سرعان ما أفلست وماتت فتزوّج من فتاةٍ ريفيّة حالمةٍ متعددة المواهب، هي بطلة الرواية «مدام بوفاري».

إعلان

وكانت قد أخذت أفكارها وبنت معتقداتها عن الحياة من الروايات الرديئة التي تُركِّز على العواطف الحسِّيّة، والأشعار الضعيفة فنيًّا. واتّجهت للأدب الرومانتيكي بوجهٍ خاص، فانفصلت عن الواقع وراحت تُشيِّد الأوهام. وحتى عندما قرّرت القراءة في الفلسفة والتاريخ بفعل السأم بعد زواجها لم تستطع أن تكمل كتابًا!

كانت تبحث عن الإثارة لا عن الهدوء، لم يستطع زوجها مجاراتها في قوّة عواطفها فندمت على الزواج وسيطر عليها الملل «ذلك العنكبوت الصامت الذي يغزل نسيجه في أركان قلبها».

وحدث أن عالج زوجها أحد الأغنياء فدعاه إلى حفلةٍ بعدما رأى أناقة «مدام بوفاري» فرأت كلّ ما كانت تقرأ عنه في الروايات من مظاهر الترف وأناقة الرجال حتى إنها ودّت لو لم تخرج من هذا القصر مطلقًا.

وعندما بلغ الملل أشدّه وقرّر زوجها أن ينتقلا إلى قريةٍ أخرى حتى تتحسّن حالتها، ثم وهي تستعد للسفر «أصيب أحد أصابعها بوخزةٍ من سلك باقة زواجها (…) ولم تحجم عن إلقاء الباقة في نار المدفأة، فإذا بها تشتعل بأسرع ممّا يشتعل القشّ الجاف».

وأخيرًا تجد شابًّا يشبهها في الميول ويتحدّثان معًا عن الرحلات والكتب، ويشتركان في الشعور بالملل والسأم من الريف وتجمعهما الرغبة والأحلام.

ويبدأ اشمئزازها من غباء زوجها يتزايد، ثم يتطوّر شعور الاشمئزاز إلى نقمةٍ على الزوج الذي لا يشعر بعذابها. وتلجأ للدين لكن القسّ لا يفهم علّتها ولا يستطيع مساعدتها، بل ينصحها أن تشرب قليلًا من الشاي أو الماء الممزوج بالسكر المعقود!

حتى الأمومة لم تعالج سأمها فقد كانت ساخطةً لم تحب طفلتها وتمنّت أن تكون ذكرًا؛ «فالرجل حر».

وعندما اتّخذت عشيقًا راحت تُردِّد لنفسها «أصبح لي عشيق!» و«ندمت على عفّتها في الماضي كما تندم على جريمة» و«كان الكذب ضرورة، بل هواية، بل لذّة يحلو المضي فيها».. وبسبب إسرافها بدّدت مال زوجها في مغامراتها. حتى هدية أبيها لها بمناسبة زفافها رهنتها كي تُنفق على مغامراتها.. بعد أن أغرقتها الديون.

ثم أدركت «مدام بوفاري» بعد ذلك «مدى ضآلة العواطف التي يبالغ الفن في تصويرها» وأن «كل شيء ليس سوى زيفٍ كاذب» وأبدع الكاتب في تصوير الشقاء الذي مرّت به والهاوية التي سقطت فيها بما اقترفته من مصائب.. أما زوجها المسكين فقد «كانت تقوده إلى الخراب من أعماق قبرها!»

الوصف كوسيلة لغوية

كان فلوبير يرى أن اللفظ ينبغي أن يطابق المعنى كما يطابق القفاز اليد، لا توجد طريقتان للتعبير عن المعنى الواحد وإنما طريقة واحدة؛ لذا فقد اهتم بلغته إلى حدٍّ كبير، وبذل الكثير من الوقت في التجويد وإعادة الصقل، وبالتالي فإن قراءتها بغير الفرنسية تفقدها الكثير من روعتها، وأي ترجمة مهما كانت رائعة تظلمها.

ولأن «مدام بوفاري» روايةٌ ريفيّةٌ لكاتبٍ ريفيّ، تأثّر بنمط حياته قليل الأحداث الهادئ الباعث على التأمُّل؛ كان الوصف هو البطل الحقيقي لهذه الرواية، استعان به الكاتب لرسم العديد من اللوحات كأداةٍ فنيّةٍ توسّل بها إلى غايته.

وفي أوّل ظهور للبطلة (مدام بوفاري) يُركِّز فلوبير وصفه على تفصيلةٍ منها، قبل أن نراها بشكلٍ كامل، أظافرها! تخيّل هذا المشهد، أوّل ما يقع بصر «شارل بوفاري» يقع على أظافرها اللامعة الدقيقة الأطراف، الأكثر نصوعًا من العاج والتي قُصّت على شكل اللوز.. ثم يقول فلوبير (إمعانًا في الواقعيّة) أنّ يديها ليستا جميلتين، وبشرتها أقلّ صفاءً ممّا ينبغي، وبادية الجفاف عند مفاصل الأصابع «كانت يدًا مسرفةً في الطول يعوزها شيءٌ من ليونة التثني!» لكنه أخيرًا يدلنا على موضع جمالها الذي يتركّز في عينيها العسليتين اللتين كانت أهدابهما تضفي عليهما صبغة السواد، وتنبعث منهما نظراتٌ توحي للمرء بالصراحة المشوبة بالسذاجة الجريئة! وهكذا استطاع طبع صورتها في أذهاننا.

لكن مهلًا.. هل ينتهي وصف البطلة عند هذه النقطة؟ بالطبع لا.. فهي صورة مبدئيّة، ولن يلبث إلا قليلًا قبل أن يعود إليها كاتبنا ليصف أدق تفاصيلها. جمال شعرها وتنسيقه، وتورُّد وجنتيها إلخ

وهو لا يترك مناسبةً لوصف صورةٍ من صور البطلة التي أوقعت شارل في حبها:

«وإذ كانت الكأس شبه فارغة، فقد اضطُرّت إلى أن تُطوِّح رأسها إلى الوراء، لترشف ما بها من قطرات.. وأخذت تضحك وهي على هذا الوضع، وشفتاها ممدوتان إلى الأمام، ورقبتها مشدودة..»

يُورد فلوبير هذه الصور دون أيّ تعليقٍ من جانبه ودون حتى وصف أثر هذا في نفس شارل (الذي يقابل هذا كله بالصمت، وكأنه مأخوذٌ بأنوثة وشباب تلك الفتاة، وهو الشاب الأرمل الذي توفت عنه زوجته العجوز).. بل هو معتمدٌ على الأثر الذي ستتركه هذه الأوصاف في نفس القارئ!

وما أروع وصف العرس والمائدة والمعازيم!

«وكانت القشدة الصفراء تترجرج في أطباقها الكبيرة لأقلّ حركةٍ تصيب المائدة، وقد نُقشت عليها الحروف الأولى من اسمي العروسين في زخرفةٍ عربيّةٍ جميلة» نعم.. حروف العروسين بالعربيّة ولا تعليق على هذه النقطة!

ولا يفوت فلوبير الثائر على «غباء بني البشر» أن يسخر من سلوكيات بعض المعازيم ومن أقارب العروسين بل ومن العروسين ذاتهما بطريقةٍ مضحكة. وهو نفس ما سيفعله بعد ذلك عند وصف المعرض الزراعيّ.

توظيف التشبيه

ويُوظِّف «فلوبير» التشبيه أيضًا في مواضع يصعب حصرها، فتارةً يستخدمه لتصوير حال الشخصية: «كما كان يؤدي واجباته اليومية على نحو ما يفعل حصان الطاحونة، إذ يدور في مكانه وهو معصوب العينين، لا يعرف عن نوع الحبوب التي يُسخّر لطحنها شيئًا».

«وهي تدفعه في مزيجٍ من الضيق والابتسام، كما نفعل بالطفل إذ يتشبّث بنا».

أو للمفارقة: «تملأ البثور وجهها كما تنتشر البراعم في الأشجار في فصل الربيع» تلك الأرملة العجوز الغنية التي يتسابق الخطاب الشباب عليها!

أو حتى لمجرد رسم لوحةٍ رائعة: «خيوط الشمس الطويلة كأنها سهامٌ من ذهبٍ في درعٍ مُعلّقة»..

أو بشعة: «إذ أصبحت المرأتان كسكينتين تنحرانه بملاحظاتهما وتأنيباتهما!»

كما عبّر عن وقوعها في عشق «بولانجيه» بهذا التشبيه: «وهبّت من النافذة ريحٌ ثنت أطراف غطاء المائدة، وأطاحت بقبّعات الفلاحات الكبيرة في الميدان فطارت كأجنحة فراشات بيضاء ترفرف».

وعن الوقوع في عشق «ليون» بنفس المشبّه به تقريبًا: «وألقت بقصاصاتٍ من الورق تناثرت في الهواء، ثم تهاوت بعيدًا كالفراشات البيضاء على حقل البرسيم الذي تفتّحت زهوره الحمراء».

قد يعجبك أيضًا

لكنّ عشيقها الخبير قد فطن لحقيقة أنّ حبها المجنون ما هو إلا «غلالة تحيط بالشهوة» فكان أن تخلّى عنها عندما حلّت بها الكوارث.

موسوعة فرنسية

شعرت لوهلةٍ بأني أحسد فرنسا على هذه الرواية، وعلى هذا الأديب!

فهذه الرواية موسوعةٌ تتحدّث عن كلّ ما يخصّ الريف الفرنسيّ في هذا العصر (منتصف القرن التاسع عشر) من قريبٍ أو بعيد، وتنقله بحذافيره: الأمراض والطب، الدين، العادات، الأزياء، المناخ والجغرافيا، الزراعة والأطعمة والكيمياء، الطرق والكنائس والبيوت إلخ

وفي الجزء الذي كانت تعاني فيه البطلة من السأم بلغت دقّة الوصف حدّ الملل!

كما وضع الكاتب على لسان الصيدلي الثرثار المتفلسف الذي لا يحتمل الصمت، كل المعلومات عن كل شيءٍ تقريبًا في تلك الفترة! وقدّم أيضًا صورةً عن المجتمع الباريسيّ، ووصف المسرح وتفاصيل أجوائه.

وقد اتّهم بـخدش الآداب العامة، رغم أنّ الرواية تخلو من المشاهد الجنسية تمامًا.. لكنّ النيابة رأت أنه صوّر «شاعريّة الخيانة الزوجيّة» بينما رد الدفاع قائلًا إنه قصد «تقديس الفضيلة عن طريق كشف سوء الرذيلة». وحُكم ببراءته في النهاية.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله أسامة

اترك تعليقا