كيف يمكن أن يقودك الشغف بالخيال إلى جائزة نوبل؟ قصة سانتياغو رامون ي. كاخال
بالنسبة لـ"أبو علم الأعصاب الحديث"، كان التشريح الخلوي هو العالم الخيالي الأكثر إثارة.
الخيال بحكم تعريفه، عالم بعيد عن الحقيقة – لكن سانتياغو رامون ي. كاخال (SANTIAGO RAMÓN Y CAJAL (1852–1934، الذي غالبًا ما يُدعى “أبو علم الأعصاب الحديث”، استخدمه لإيجاد حقيقة موضوعية ليحصل على جائزة نوبل في الطب عام 1906 .
أمضى كاخال أيامه متأملًا المجهر، حيث كان ينظر إلى الألياف الضعيفة المتشابكة التي ظهرت لزملائه في علم التشريح كمتاهات غامضة. خلافًا للنظرية السائدة آنذاك، أدرك الإسباني أن الجهاز العصبي، بما في ذلك الدماغ، يتألف من خلايا فردية مميزة (عصبونات)، والتي تتواصل عبر الفضاءات المتناهية الصغر بينها (المشابك العصبية).
كان كاخال هو أول من استخدم مصطلح لدونة الدماغ. إلى حد أنه أوصى بـ “الجمباز الدماغي” من أجل تعزيز الوظائف العقلية، و مهّد للرؤى والاتجاهات القرن الحادي والعشرين حول تمارين الدماغ. قال كاخال:
“إذا عُقِدَ كل إنسان العزم، فإنه يمكن أن يكون نحاتًا لدماغه”.
إذا كان الأدب الروسي كله قد خرج من “معطف” غوغول كما قال ديستوفسكي، وكل الأدب الأمريكي الحديث ينبع من “هاكلبري فين” لمارك توين، فإن أبحاث الدماغ الدولية، بما في ذلك المشاريع الكبرى مثل مبادرة الدماغ ومشروع الدماغ البشري، تعتمد في أساساتها على أعمال سانتياغو رامون ي. كاخال.
ولد كاخال عام 1852، في جبال شمال إسبانيا. ودائمًا ما بدا محلقًا بخياله في سماء بعيدة عن الواقع. كانت طفولته مشهدًا ملحميًا. اجتاحت أشباح الفتوحات والملوك خياله، عبر الفولكلور الأراغوني الذي يتردد صداه عبر البيوت القديمة المُغبَرّة. مجّد كاخال الشاب هذه الشخصيات الأسطورية، ربما لأن حياة القرية كانت رتيبةً مملة.
كانت تلال شمال الأراجون منطقة غير مِضيافة، كما وصفها روبرت هيوز في (سيرة غويا) :”نبيذ حامض، فراش من القش ولحم عَسِر المضغ –حياة شبه بربرية”.
لم تكن التربة القاسية المشقوقة تُنبت شيئًا. كان منزل كاخال كومة متداعية من الحصى. “ولا حتى أصيص زهر في النوافذ،” ويذكر في سيرته الذاتية “ذكريات حياتي“: “لا توجد ولو زخرفة صغيرة على واجهات المنازل، لا شيء حقًا يشير إلى أدنى شعور بالجمال.”
كان والد كاخال رجلاً واقعيًا، قاسيًا وقويًا. كان ابن فلاحين فقراء، هجر منزله في سن الثانية عشرة، بحثًا عن حقول أقل إقفارًا. تدرب على يد حلاق صحة متواضع واستمر في المثابرة حتى حصل على شهادة طبية، انتصر بعد معركة مُنهِكة مع الحياة. لم يكن لديه وقت للترفيه أو لأي تسلية.
اعتقد والد كاخال أن العقل البشري، كان مُصممًا لاكتساب المعرفة. ويتذكر كاخال: “لقد احتقر ونفر من كل ثقافة أدبية أو طبيعة تزيينية بحتة”. الكتب الوحيدة المسموح بتواجدها في المنزل هي كتب الطب والعلم، لا كتب خيالية على الإطلاق. اعتقد والد كاخال أن الفن عرضٌ من أعراض مرض مدمر.
على طرف النقيض كانت والدة كاخال، تكمن في قلبها رومانسية شاعرية، احتفظت بروايات خيالية ذات ثمن بخس مخبأة تحت جذع شجرة وهرّبتها إلى أيدي أطفالها لكي تبهجهم. بصفته جراحًا، كان والد كاخال في الغالب بعيدًا عن المنزل، وعندما يعود يغضب بسبب اللطف الزائد الذي تغمر زوجته به أبنائها. كان يغتَمّ عندما يلاحظ آثار الرقة في ابنه أيضًا. حاول القضاء على نزعة الصبي الأدبية والفنية، ومعاقبته بالسياط، والهراوات، وأدوات التعذيب الأخرى التي كثيرًا ما تُشاهد في حكايات الرعب “المخيفة” الرخيصة، وكوابيس الأطفال التي تطاردهم.
ولكن بدا أن سوء المعاملة أدى فقط إلى تشجيع مواهب كاخال الإبداعية. يتذكر قائلًا: “كلما انتهيت من تناول العشاء، سارعت إلى حُجرتي الصغيرة، وحتى يغلبني النعاس، أمضي وقتي في إعطاء شكل وحياة إلى البقع التي تلطخ الحائط وأنسجة العنكبوت في السقف، أحوّلها بقوة الفكر إلى أجنحة مسرح سحري، أعبر منها إلى موكبٍ خيالي.” عقله يحول الظلال إلى قصة: حيلة إدراكية من شأنها أن تساعده في وقت لاحق على توضيح رؤيته حول أشياء أكثر غموضًا وعمقًا.
أقنع كاخال والده بأنه بحاجة إلى غرفة هادئة خاصة به للدراسة. أصبح بيت الحَمَام بالقرب من الحظيرة العائلية موقع تجاربه الأولى، حيث كان حرًا في تخيله واستكشافه. إحدى النوافذ كانت تفتح على سطح أحد الجيران، وهو طاهي معجنات ذو ذوق عال. في العلية، بين الحلويات والفاكهة المجففة، بُسطت أمام كاخال مائدة من الطعوم الأدبية. حلق بخياله مع دوماس، هوغو، سيرفانتس، وغيرهم. قبل زمن طويل من تمقيق عيونه في المجهر، أطلق كاخال عينيه في صفحات الكتب. قراءة الروايات شحذت عقله لاستكشاف المزيد من العوالم الخفية.
بعد المدرسة الثانوية، ألحقه والده بكلية الطب، الموضوع الوحيد الذي استحوذ على اهتمامه كان علم التشريح. كانت نظرية الخلايا –التي ظهرت قبل بضعة عقود من دخول كاخال كلية الطب- قد أحدثت تُغييرًا جذريًا في هذا المجال. وأثناء قراءته عن ذلك، لاقى كاخال الاستعارات الأدبية التي استهوته، مثل التشبيه الشهير من عالم الأمراض الألماني رودولف فيرشو:… “إن الجسد دولة تكون فيها كل خلية مواطنًا”.
أكدت نظرة كاخال الأولى من خلال المجهر على هذه الفكرة، حيث أظهر له “مشاهد جذابة من حياة صغيرة لا متناهية”. لمدة عشرين ساعة متواصلة -أو هكذا ادعى- راقب حركة كريات الدم البيضاء وهي تفر خارج شُعيرة دموية، شبهها خياله المذهل، بعملية هروب عالية المخاطر. حتى أنه كتب ورسم رواية عن رجل مصغر – بحجم خلية تقريبًا – يسافر عبر أجسام كائنات ضخمة على كوكب المشتري.
بالنسبة لكاخال، كان التشريح الخلوي هو أكثر عالم خيالي مذهل. أصبح باحثًا، حيث أقام مختبرًا مؤقتًا في عِلّية منزل والديه. وفي وقت لاحق، شهد ظاهرةً تسمى رد الفعل الأسود، وهو تصبغ كيميائي غير منتظم، تخلى عن استخدامه علماء الأحياء الآخرون، كان لديها القدرة على الكشف عن عناصر مخفية كاملة تحت الضوء المجرد للمجهر. لقد صدم كاخال من وضوح النتائج. ورسم الأشكال الغامضة بالحبر على الورق. قام على الفور بتطبيق هذه التقنية على الجهاز العصبي -الكأس المقدسة للتشريح البشري- على أمل كشف “المسار المادي للفكر والإرادة”.
طور كاخال مساعيه العلمية على خطى أبطال طفولته الأدبيين. لقد وضع نفسه في مكان كروزو، متخيلًا الدماغ بأنه “عالم يتكون من عدد من القارات غير المستكشفة ومساحات شاسعة من الأرض المجهولة”، ويكرس عمله إلى “جزر الاستكشاف”.
في عام 1888، متأملًا وحده في المجهر في مختبره المنزلي، لاحظ كاخال نقطة نهاية لألياف عصبية، وهي ظاهرة غير محسوسة تقريبًا دفعته إلى إعلان أن الخلايا العصبية مستقلة عن بعضها – وبالتالي بدأت في قصة علم الأعصاب الحديث. “وظيفة التشريح هو فصل (الظاهر) عن (الحقيقة)”. مثل محبوبه دون كيشوت، كان يؤمن بمنظور بديل للعالم. ولكن على عكس كيشوت، نجح في حشد الناس من حوله، الذين مجّدوا بصيرته في نهاية المطاف.
كيف رأى كاخال ما لم يستطع الآخرون رؤيته؟
كان التجسيد البشري هو عبقريته – ومع ذلك بدا هذا النهج غير علمي، على أقل تقدير. يتذكر تشارلز شيرينجتون، صديقه وزميله الحائز على جائزة نوبل، قائلًا: “كان كاخال يعامل المشهد المجهري كما لو كان على قيد الحياة، تسكنه كائنات تشعر وتعمل وتأمل وتحاول كما نفعل”. رأى شيرنجتون أن الخيال ساعد في قدرة الإسباني غير التقليدي على تصور الدماغ.
يواصل شيرينجتون قائلًا: “إذا دخلنا بشكل كافٍ إلى فكر “كاخال” في هذا المجال، يجب علينا أن نفترض دخوله، من خلال المجهر إلى عالم تسكنه كائنات صغيرة مدفوعة بالدوافع والسعي نحو الرضا،كائنات لا تختلف كثيرًا عن أعماقنا. ”
بدا عالم الكائنات الصغيرة اللامحدودة، مثل روايات شبابه، أكثر جاذبية لكاخال من الحياة اليومية. كيف يمكنه أن يقضي ما لا يقل عن خمسة عشر ساعة في اليوم، لما يقرب من خمسين عامًا، بمفرده في المختبر؟ ادعى أنه راقب مليون خلية عصبية، يشاهدها في كل مرحلة من مراحل حياتها: الولادة، والنمو، والحركة، والعلاقات، والشدائد، والصدمات النفسية، والانحدار، والموت.
على صفائح مصغرة من نسيج الدماغ الميت، دبّت الحياة في قصص الإسباني العزيزة. تخيل الخلايا العصبية كما لو أنها أبطال دراما دماغية شديدة التعقيد. أليافهم “تتلمس طريقها للعثورعلى الآخرين.” وأضحت اتصالاتهم الموجِعة “قبلة بروتوبلازمية” – “النشوة النهائية لقصة حب ملحمية.”
وحتى بعد مرور أكثر من قرن من حصوله على جائزة نوبل عام 1906، لا تزال لوحات كاخال أيقونات في علم الأنسجة. قد يكون من الطبيعي أن نفترض أن هذه الرسومات هي نسخ لما شاهده من خلال العدسة، تصوير لطبيعة ساكنة. ومع ذلك، فإن رسوماته التوضيحية كانت تفسيرية لافتة للنظر وشخصية للغاية، تطمس الخط الفاصل بين التجريد والتمثيل. بعد عرض العديد من الخلايا، يقوم كاخال باستخلاص ميزاتهم وتصنيفهم. رسومه هي مُركبات معقدة، يسلط الضوء على الخلايا العصبية الفعلية ويكبّرها.
سمعت أنه قال أنه غالبًا ما كان يستمد رسومه من الذاكرة بعد السير لمسافات طويلة عبر الحديقة. وصفها كاخال بـ”قِطَع من الواقع”، هذه التصورات الخيالية عالية الذوق.
لو كان استمع لوالده، وتخلى عن شغفه للأدب والخيال، لربما لم يدرك الحقيقة أبدًا. يحتوي الدماغ البشري على حوالي ثمانين مليار خلية عصبية كما نعرف الآن، وقد يتفاعل كل منها مع ما يصل إلى عشرة آلاف خلية أخرى. قد يتساءل المرء: ما القصة التي تحملها كل خلية منهن؟
مقال بنيامين إيرليش