التجارة الدولية وتجربة زراعة القمح في السعودية
عن التجارة الدولية، حدثنا مولانا آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم“، وقال: “إن مبدأ تقسيم العمل يجب أن ينطبق أيضًا على مستوى الدول، إذ على الدولة أن تتخصص في إنتاج السلع التي تتفوق فيها على غيرها من الدول: تكلفة وجودة”. وبهذا يوجب آدم سميث على الدولة أن تتخصص في إنتاج السلع التي تكون لديها ميزة مطلقة Absolute Advantage في إنتاجها.
لكن ديفيد ريكاردو عالم الاقتصاد الإنجليزي (1772- 1823) خالف شيخه سميث الذي حببه في دراسة الاقتصاد في هذا الأمر، فقال إنه من غير الضروري أن يكون التخصص وتقسيم العمل الدولي على أساس الميزة المطلقة للدول وإنما على أساس مقارنة الميزة النسبية لمختلف الدول في إنتاج السلعتين معًا، إحداهما بالنسبة للأخرى. وبناءً على هذه الميزة النسبية، تركز كل دولة على السلع التي تستطيع إنتاجها بكفاءة عالية وتشتري من الدول الأخرى السلع التي لا تستطيع إنتاجها بكفاءة مماثلة.
وأضاف الاقتصاديان السويديان إيلي هيكشر وبيرتيل أوهلين ،فكرة جديدة لدوافع قيام التجارة الدولية بين الدول تنصّ على أن كل بلد سيكون أكثر كفاءة في إنتاج تلك المنتجات التي تتوفر موادها الخام لديه. وتنص نظرية توفر العوامل على أنه يجب على الدولة تصدير تلك المنتجات التي تكون عوامل الإنتاج فيها وفيرة، واستيراد العوامل التي تفتقرها من البلاد الأخرى.
وفي الواقع هناك نظريات كثيرة تفسر مبررات قيام التجارة الخارجية لكنني سأكتفي بما ذكرته لنشير في عجالة إلى أهمية التجارة الدولية.
منافع التجارة الدولية
تحقق التجارة الدولية للشعوب فوائد عظيمة، ربما أهمها أنها تتيح للمستهلكين الحصول على سلع أكثر وبتكلفة أقل من خلال التخصص والتبادل التجاري، بدلاً من محاولة كل دولة الاكتفاء الذاتي وإنتاج كل شيء تحتاجه بنفسها. هذا بالإضافة إلى إتاحة توظيف الموارد النادرة بكفاءة أعلى، عندما يركز كل بلد على السلع التي يستطيع إنتاجها بكفاءة أكبر من الدول الأخرى.
وعلى الرغم من الإجماع على مدى اهمية التجارة الدولية ومبرارتها العلمية والمنطقية، تجد الكثير من الحكومات تنتهج سياسات اقتصادية تخالف هذه المبادئ الأولية، وتحضرني حكاية متميزة أود أن أشارك القارئ فيها:
تجربة زراعة القمح في السعودية
في سبعينيات القرن العشرين، أصبحت المملكة العربية السعودية دولة شديدة الثراء بسبب ارتفاع سعر النفط بعد حرب 1973. واتخذت حكومة المملكة قرارات بتحويل المملكة إلى دولة زراعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إنتاج المواد الغذائية خاصة في القمح. هذا على الرغم من أن قدرًا من التفكير البسيط يشير إلى أن الزراعة في المملكة العربية السعودية لن تكون بطبيعة الحال منخفضة التكاليف بالنسبة إلى معظم المواد الغذائية، فلا يوجد في المملكة العربية السعودية بحيرات أو أنهار، وهناك جزء صغير من البلاد الذي حباه الله بما يكفي من الأمطار التي تلبي قدرًا من احتياجاته الزراعية.
وعلى ذلك كان قرار زراعة القمح في المملكة السعودية يقتضي بالضرورة تحمل تكلفة مياه الري، وهي تكلفة باهظة للغاية ومن ثم عدم تحميلها للمستهلك والمزارع، وإلا ارتفعت أسعار القمح في السعودية كثيرًا مقارنة بأسعاره في أي دولة أخرى.
و على مدار الأعوام 1980 إلى 1992 ضاعف السعوديون إنتاجهم من القمح 29 ضعفًا وأصبحت المملكة العربية السعودية سادس أكبر مصدر للقمح في العالم لدرجة أنهم كانوا يصدرون القمح إلى الاتحاد السوفيتي بأسعاره العالمية التي تقل بكثير عن مستوى التكلفة الباهظ لإنتاجه في السعودية. وبينما كان إنتاج طن القمح آنذاك في المملكة العربية السعودية يكلف حوالي 500 دولار للطن عندما كان سعر السوق في الوقت نفسه حوالي مئة وعشرين دولارًا للطن.
ولقد أهدر السعوديون أيضًا الكثير من الماء لزراعة كل هذا القمح، إذ احتاجت زراعته إلى ثلاثمئة مليار متر مكعب من المياه وهو حجم يساوي ما يتدفق لمصر من نهر النيل على مدار 6 سنوات. وبعد فترة أدرك السعوديون أنهم لا يستطيعون تحمل كل هذه النفقات، وفي عام 2008 قرروا التخلي عن برنامج زراعة القمح الخاص بهم.
وعندما كنت في المملكة في عام 2016 لاحظت أن هناك بالفعل الكثير من مزارع القمح الخاوية على عروشها ترقد فيها المعدات دون استخدام وتشير ببساطة إلى الخطأ الفادح الذي يمكن أن ترتكبه السياسات الاقتصادية عندما تقع تحت تأثير الشعارات القومية والنعرات الوطنية.
فيديو عن تجربة السعودية
الثورة الخضراء: تعليق ختامي
إن السير نحو تحقيق ميزة نسبية في الزراعة والصناعة يوفر للدولة منتجًا محليًا رخيص التكاليف ويتيح لها التصدير، يحتاج إلى تنمية المقومات الرئيسية لقيام هذا المنتج داخل البلد مثل رفع كفاءة توظيف عوامل الإنتاج واستخدام التكنولوجيا الحديثة وتنمية رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب إلى أن يتمكن منتج الدولة فعلًا من المنافسة في التجارة الدولية. ولعل أكبر مثال على نجاح هذا الأسلوب خاصة اعتمادًا على التكنولوجيا والبحث العلمي تجارب الثورة الخضراء التي حدثت في العديد من دول العالم ابتداءً من ستينات القرن العشرين.
وفي المكسيك، على سبيل المثال، طور نورمان بورلاوج (Norman Borlaug) –وهو عالم أمريكي حاصل على جائزة نوبل ومختص في الزراعة– أنواعًا جديدةً من القمح مقاومة للأمراض وعالية الإنتاج. وبدمج أنواع قمح (بورلاوغ) بتقنيات زراعية ميكانيكية جديدة، أضحت المكسيك قادرةً على استيفاء احتياجات سكانها، وأحد مصّدري القمح في الستينيات. ويذكر أنه قبل استخدامها لتلك الأنواع، كانت تستورد نصف حاجتها من القمح.
لكن إجراء تجربة زراعية دون أن تتمتع بأي ميزة تنافسية في أي مجال وليس لديك العمالة الكافية، ولا المياه الرخيصة اللازمة، ولا الأرض الزراعية المناسبة، فهي مغامرة محكوم عليها بالفشل في ظل مميزات التجارة الدولية.
نرشح لك: التغيرات المناخية كارثة بيئية تهدد حياة البشرية