البشر ككَوْنٍ مُصغَّر: كيف يَصْمُد وعينا الوجوديّ أمام حتمية الموت؟
مهما اختلفنا على طريقة مجيء هذا الإنسان، سواء خرج من باطن الأرض، أو انشقت السَّماء ولفظته من جوفها عقابًا على قطفه تفاحة الخلود، أو جُمِعَت أسماك البحار والمحيطات ووحوش البرية وطيور السَّماء فتمازجت جميعها فيما بينها وأسْفَرت عن تلك الأعجوبة، فهذا لا ينفي كَوْنه من لحم. هذا الكَوْن المُمْتَد في شبه أبديَّةٍ منذ بداية وجوده على الأرض، وقبل أن يدري ماهيَّة هذا الكوكب أو التزامه نحوه، أو هدف هذا الكوكب وتحوُّلاته الفيزيائيَّة على أرضه، افتتح بداية تاريخه بأن صارع ليضمن استمراريَّته وسط هذا البناء الذريّ حتى لا يفقد شكله الفيزيائيّ الذي هو عليه، فيتحوَّل كيميائيًّا في خلَّاط الكَوْن لشرابٍ سيئ المذاق، فضرب في الأرض، وبحث، وبحث، وبحث، ثُمَّ تعلَّم أن يحفظ وجوده من خطر الاضطراب الإلكترونيّ لمستويات طاقة كوكب الأرض المُتمثِّلة في الديناصورات، والأعاصير، والبراكين، والزلازل، والفيضانات، والذئاب الجائعة، وجميع الكائنات الحيَّة التي ليست هو، سواء أكانت إنسانًا مثله أو أي شيءٍ آخر بمختلف أوزانه وأحجامه وأطواله.
ثُمَّ اكتشف قُدرته على التعبير عن الحياة برموز ٍمتباينة، فتفجَّر الإنسان من فِكْرٍ خالص ومنطقٍ محض يصف أشكال الحياة وتراكيبها إلى علوم تداوليَّة، تُعيد صياغة الحياة ودراسة تحوُّلاتها بما يتضمنه الفِكْر سلفًا إلى أشعارٍ تصف تلك الغنائيَّة التي تمتَّعت بها الحياة منذ أن صاحت بتاريخها الأوَّل.
ومنذ أن خَلَقَ الإنسان أنماط الحياة، وطوَّر صور مُحاكَاته للبيئة والطبيعة في صور مكنوناتٍ فِكْريَّة، عبَّر عنها برموزٍ عقليَّة ولُغَة تواصل إنسانيّ، وعَرَفَ أن هدف حياته ومعناها يَكْمُن في سعيه للتماهي مع الطبيعة من خلال صراعه مع مقاومتها له، فطوَّر الإنسان نُظُم حياته على أساسٍ فِكْريٍّ قائم على مبدأ “التغيير من أجل الاستقرار “، وبمعرفته أنه هو والبشر حوله ليسوا سوى مجرَّد صور غير مستقرةٍ من الطبيعة، فكان هَمُّه الأوحد أن يستطيع أن يخلق مع أقرانه أنماطًا مختلفة من الحياة مُستَقِرة مُطْمَئِنَّة مُنْسَجِمَة مع الحياة، لذا نجم عن تواصله مع غيره تحت راية مشتركة، هي “خوض الحياة” –بمفهومها الطبيعيّ الماديّ– أن أنشأ حياة مستقلة عن ماديَّة الطبيعة، تتمثَّل في تجسيد صراعه مع الطبيعة من خلال مفاهيم الفِكْر والتَّاريخ والعِلْم واللُّغة والحُبّ والموسيقى. وإذ باللُّعْبَة الإنسانيَّة تنتقل إلى ميدانٍ جديدٍ، صنعه الإنسان بنفسه، ونصَّبه الأرضيَّة التي يمكن أن يشعر فيها بذاته ويجد فيها معناه، إذ لم يعد الإنسان هو ذلك الكائن الرَّاغب في أن يستقر في مادة كَوْنه المصنوع منها، بل طوَّر منظومة حياتيَّة قائمة على وصف صراعه مع الطبيعة –التاريخ– وآليَّات ذلك الصِّرَاع والأخطاء الناجمة في صِرَاعه مع الطبيعة الناتجة عن جهله المعرفيّ بالكَوْن، أو مرتبته الأدنى فِكْريًّا من العنصر الطبيعيّ الذي يُصَارعه (العِلْم والفِكْر)، والتَّغنيّ بذلك الصِّرَاع الملحميّ المُتمثِّل في الأدب والحُبّ والموسيقى، وعاش في تلك المنظومة الحياتيَّة، يُنمِّي مفاهيمها، ويطوّرها، ويُعقِّدها، ويخلق منها أشكالًا جديدة من الصِّرَاع والتنافس والاكتشاف والمعرفة والسَّيْطَرة.
وإذا كان البشر مادة كَوْنيَّة بدائيَّة استخلصت من بدائيَّتها نظامًا معيشيًّا إنسانيًّا، جعلته هو هدف وجودها، واستمراريَّتها من خلال تبادلات أنظمة الفِكْر والتطبيق الحياتيّ داخله، بل وأخذت في بناء قوانين فِكْريَّة وأخلاقيَّة عالميَّة، واهتمت بتطبيقها والجِدَال حولها، حتى في عدم منطقيَّة تلك الأنظمة مع ما يُفْتَرَض منهم أن يسلكوه كمادةٍ كَوْنيَّة تُصَارِع من أجل البقاء والقوَّة والانسجام مع النماذج الأعلى في الكَوْن.
فكيف تعاملت الطبيعة البشريَّة بعلومها وأفْكَارها مع حقيقة الموت وفِكْرة فناء الإنسان كعنصرٍ طبيعيٍّ مثل باقي عناصر الكَوْن؟
ثَوْرة الفِكْر: أمل الإنسان في حياةٍ فانية ووَقُود إرادة الفِعْل
لقد استطاع الإنسان أن يُطوِّر من خلال احتكاكه البدائيّ مع الطبيعة نُظُمًا معلوماتيَّة وأفْكَارًا معرفيَّة تتيح له التفاعل مع الطبيعة بداية، ثُمَّ التواصُل معها، ثُمَّ السَّيطرة عليها، والتحكُّم في مساراتها.
بإمكاننا النظر في تاريخ العلوم الإنسانية لنرى كيفيَّة تطوُّر الأدوات التي استطاع أن يُضيفها الإنسان لمركز قوَّته بوصفه حيوانًا بيولوجيًّا، ولكنه الأكثر مهارة في تفهُّم المُحَاكَاة وأنماط التعلُّم والسلوك، بداية من أدوات الزراعة البدائيَّة، وصولًا إلى أحدث وسائل الاتصال الحديثة والأقمار الصناعيَّة والأسلحة المُدمِّرة والعلوم الطبيَّة الفائقة.
إن نظرتنا للعُلُوم الاستقرائيَّة والتجريبيَّة تتيح لنا أن نفهم كيف ساعد العِلْم الإنسان على تخطي حقيقة ضعفه الحيويّ على مواجهة الحياة وعدم خلوده بها؟ لقد تعاملت العُلُوم الطبيعيَّة مع الإنسان على أنه آلةٌ بدائيَّة في حاجةٍ دائمة إلى التطوير، وفي حاجةٍ إلى التزويد المستمر بالآليَّات التي تتيح للإنسان أن يُحَافِظ على جنسه أولًا، أي إبقاء المكينة البشريَّة في وضع التشغيل الدائم، وأن يُطوِّر نسخته البشريَّة باستمرارٍ، ثانيًا بما يتلاءم مع تحدِّيات الطبيعة الجديدة.
لذا استطاع العِلْم التجريبيّ والطبيعيّ أن يتعامل مع البَشَر بأجمعهم ككُتلةٍ واحدةٍ قابلة للتغيير والتحديث، ولم ينظر العلماء للبَشَر على مستوى الأفراد أو الجماعات على أنهم كائنات تحتفظ بذاتيَّة وفرديَّة مختلفة من شخصٍ لآخر، أو أنهم أنماط من المُؤسِف أن تفقد هيئتها الفيزيائيَّة في عملية فنائها الحيويّ، طالما كان هناك من سيأتي بعدهم بنفس الخصائص الفيزيائيَّة ونفس الموروث الإنسانيّ العالميّ بجميع أنماط فِكْره التي اخترعها منذ بدايته. فعمليَّات التحديث والتطوّير ستظل قائمة كما هي. ولا توجد قيمة فرديَّة حقيقيَّة للإنسان، طالما هناك ملايين النسخ التي ستأتي بعده، وملايين النسخ التي ستأتي بعد سابقتها، وهكذا دواليك.
لذا استطاع العِلْم التجريبيّ والطبيعيّ أن يستحدث لنفسه مسارًا يتعامل فيه مع الإنسان بوصفه ظاهرة فيزيائيَّة تحاول التماهي مع باقي ظواهر الطبيعة. فكانت الأفراد البَشَريَّة منذ أوَّل بشريٍّ، وجد عبارة عن وعاءٍ كبيرٍ تَمُرُّ فيه مراحل التجربة والتطوُّر والتبادُلات الظاهريَّة لوجود الإنسان في الطبيعة، وطريقة احتكاكه بها. ولم يحتفظ الأفراد بخصيصةٍ ما أو فرديَّة لا يمكن تعويضها بعد ذلك، مما يجعلنا نحزن من أجل فناء العنصر البشريّ، بل كانت رحلة البَشَر عبارة عن تحديثات مستمرة من أشكال الوجود البشريّ.
إن مع أكاديميَّة العِلْم تلك في نظرته للإنسان، سنرى أن روح الإنسان ذاتها تُشبه تلك الأكاديميَّة في تعاملها مع حقيقة موتها، حتى مع وجود المشاعر البشريَّة، كالألم والحَسْرة والخوف من المَوْت. إن أمل وإيمان الفرد البشريّ بمشاعره المختلفة في الخلاص والنجاة، يساعده على اكتساب القوَّة في السَّعي نحو مُقَاوَمة الحياة.
إن وجود نُسَخ هزيلة من البَشَر غير قادرةٍ حتى على المُقَاوَمَة، لا يعيب الصورة المثاليَّة الأكبر للكائن البشريّ، كونه عنصرًا كونيًّا يرغب في الوجود ويُكَافِح من أجله، حتى وهو يعرف أن تحدِّيات الطبيعة الراهنة لن يتغلَّب عليها سوى الأجيال القادمة بعده.
إن في رمز المُقَاوَمَة الإنسانيَّة ذاك يتجلَّى مبدأ “الإنسان الآلة”. إن مُقَاوَمَة الإنسان للأمراض باستخدام معرفة بدائيَّة عن مستوى تلك الأمراض، يُعَد تمثيلًا للخَلل المعرفيّ لدى الإنسان في إحاطة جوانب المشكلة والتعامل معها. لذا فحالة اليأس التي تتمثَّل الإنسان بعد معرفته بإصابته بمرضٍ قاتل، لا تُمثِّل سوى عملية إيقافٍ ذاتيٍّ للإنسان (الآلة).
لقد كان الأمر، ببساطةٍ، أن تواجد معطى جديد يُسمَّي بمرض “س” وتبين أن مدخلات الإنسان المعرفيَّة لا تستطيع أن تتعرَّف أو تتعامل مع المعطى س “غير معرف”. لذا بدأت الآلة البشريَّة في إيقاف تشغيل عملها، لعجزها عن حَلّ إشكاليَّة المرض س (الموت).
بتلك الطريقة لا يوجد قيمة للموت، لأنه لا يوجد قيمة فريدة للحياة. إذا كانت الحياة مجرَّد أسباب ومعطيات ونتائج منطقيَّة، فالمَوْت هو حالة منطقيَّة أيضاً، والمشاعر الإنسانيَّة ليست رفضًا لمعطيات الحياة والموت، ولكنها تعبيرًا عن تفاعلها واستلامها لتلك المعطيات، وإنما في ذلك نرى حياديَّة الإنسان الآلة كونه مُسْتَقبِلًا للبيانات ومُتفَاعِلًا معها، حتى في وجود مشاعره التي فسرناها بصورةٍ ماديَّة.
ثُمَّ كانت العُلُوم الاجتماعيَّة والأفْكَار الإنسانيَّة الفَلْسَفيَّة مسارًا آخر يُنَظِّم طبيعة الحياة الإنسانيَّة بين أفرادها أنفسهم. إن التحديث المستمر للبيئة والإنسان من خلال العِلْم الطبيعيّ أَحْدَثَ صورًا مختلفة وأنماطًا متباينة من البيئات التي يستوطنها الإنسان المُحَدَّث المُلائِم للبيئة التي يسكنها. إذ كلَّما تغيَّر نمط البيئة التي يسكنها الإنسان وتغيَّرت الأدوات المُتَاحة للإنسان، وتغيرَّت الاكتشافات والاختراعات المتاحة له، تغيَّرت أفْكَاره العالميَّة التي يستحدثها من أجل تنظيم استخدامه للبيئة وتفاعله مع العنصر البشريّ المُشَارك له.
لقد كانت أنْمَاط الفِكْر والحُب والموسيقى والفَنّ والأدب، قوالب ثابتة مضمونًا متغيِّرة شكلًا بتغيُّر العُصُور والعُلُوم والإمبراطوريَّات والاكتشافات ووسائل سَيْطَرة الإنسان على بيئته. وبقيت العُلُوم الاجتماعيَّة والنَّفسيَّة والأفْكَار الفَلْسَفيَّة الكُبرى واصفة لتغيُّر الإنسان وبيئته واحتياجاته الحيويَّة البيولوجيَّة التي أنشأتها البيئة الجديدة، والتي يُعبِّر عنها بصُوُرٍ معقَّدة وأفْكَار أرقى في رمزيَّتها وتشابكها. إن بإمكاننا أن نُرجِع أصل مباحث الفِكْر الإنسانيّ كلها بجميع اختلافاتها وأنظمتها المُعقَّدة إلى ثلاثة أصولٍ ماديَّة حياتيَّة تُمثِّل العنوان الرئيسيّ للكائن البشريّ، ألا وهي شهوة الطعام وشهوة الجسد وشهوة السَّيطرة. فجميع القِيَم الإنسانيَّة التي يبحث في تطوُّرها الإنسان تُجسِّد حُبّ السَّيطرة –من خلال المعرفة– لديه وحتى وإن تباينت زوايا تحليلاتها للنَّفس البشريَّة، فالمُثُل الأخلاقيَّة، والوعي، والفرديَّة، والحرية، والعالميَّة، وجَدَل الفِكْر، وإرادة القوَّة، والوجودية، والماديَّة، والعبثيَّة، كلها أفْكَار تخصَّصت في تناول الإنسان وسلوكه من منظورٍ متباين كل حسب موضع دراسته.
ومثلها مثل العِلْم، سَعَت كل فَلْسَفة بفلاسفتها، وكل ميدانٍ من ميادين الفِكْر، على تطوّير أفْكَارها وتثبيت دعائمها، لتصبح هي الأصل الأساسيّ الذي نجمت عنه باقي أفْكَار الإنسان وطبائعه وسلوكيَّاته.
ينقذ الفيلسوف نفسه من الرداءة، إما عن طريق الشكوكيَّة، أو من خلال التصوُّف. -إميل سيوران
فابتئاس الإنسان من رحيله الأبديّ وانعدام المعنى، يدفعه إلى حزنٍ وجوديٍّ. هذا الحزن الوجوديّ الذي يصفه مارتن هايدجر بأنه الحياة الحقيقيَّة، فتكون وسيلة حياته وتقبُّله للموت هو البحث العميق في الفِكْر والعَيْش به ومن خلاله ومن أجله فقط لا غير.
أما عن الأدْيَان، فقد أثبتت أنها الأبْرَع والأشْجَع في حيازة روح الإنسان، لأنها لم تتهرَّب من المواجهة الشرسة أمام الموت، بل وقفت مُتحدِّيَة جميع الأفْكَار الإنسانيَّة والخصائص الماديَّة وأسَرَت الإنسان بالأمل الميتافيزيقيّ، وجعلت المَوْت مَعْبَرًا دُنيويًّا لا يمتلك قيمة منفصلة، بل هو مجرَّد حدث في لوحة إنسانيَّة لا نهائيَّة نُقِشَت منذ الأزل.
لقد أخذت الأدْيَان بيد الإنسان وعَلَت به إلى النجوم ومدارات الكواكب، ارتفعت به كقوَّةٍ كونيَّة هي الأهم في العَالَم وليس كمجرَّد عنصر متجلي عنه، غَذَّت وأشْبَعَت أحلام وآمال الإنسان في مركزيَّته للكَوْن، وجعلته مُتحكِّمًا في ماديَّته وليست هي المُتحكِّمة فيه. لقد كانت الأدْيَان نفخة روحيَّة من الإلَه في جميع الموجودات الإنسانيَّة ومظاهرها، أنقذتها من الجمود الحركيّ ووهبتها هدفًا تسعى إليه في حياتها: الموسيقى، الأدب، الفَلْسَفة. كلها أشياء لَمَعَ بريقها تحت طائلة الأدْيَان حتى لو كان الفِكْر الإنسانيّ مُهَاجِمًا لتلك الأدْيَان، لأنه حتى المُعَادين لها قد وجدوا قيمةً ما في حياتهم من خلال مكافحتها، فأصبح كل شيءٍ يدور حول الدِّين والإلَه، سواء كنت مؤمنًا أم لا. واستطاع حُلْم الإلَه أن يُدَاعِب خواطرنا من بعيدٍ ويشعرنا بوجوده من خلال الأمل، من خلال الإرادة الإنسانيَّة في أن نجده، في اشتهاء مَعْبَر المَوْت نحو الاتِّحاد الصُوفيّ مع الإلَه، في التحرُّر من اللَّذة الماديَّة لنصبح أفكارًا مُحلَّقة في الهواء، في أن يصير الإنسان كَوْنًا تدور فيه الموجودات، فأشعره الدِّين بأنه لا يعيش في أشباح فِكْرةٍ ما مُتَوَاريًا عن المَوْت، بل اقترب من مَنْزِلة فارس شاهرًا سيفه في وجه الموت ذاته.
وفي ذلك يستطيع الإنسان تشرُّب الحياة كاملة، لا يشغله الموت أو ما بعده حتى، كما يقول محمود درويش:
“لم يسألوا: ماذا وراء المَوْت؟
كانوا يحفظون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض
يشغلهم سؤال آخر، ماذا سنفعل قبل هذا المَوْت؟“
فَلْسَفة التجزُّأ: كيف يَخْلُد الإنسان في اليوم ألف مرَّةٍ؟
إذا كان لنا أن نُحدِّد لأنفسنا مسارًا نسلكه، فهو أننا مجرَّد مرحلة زمنيَّة، أحد الأشكال البدائيَّة في عملية تَوجُّه الكَوْن نحو فنائه، ليُعيد تجدده. وإذا كان لنا أن نتصوَّر أن الكَوْن يمكن أن يظل في حالة تبادل ما بين فناءٍ –الانسحاق العظيم– ووجودٍ –الانفجار العظيم– فلو كنا نتناسخ، لكانت لنا ذاكرة واعية بما كنا. ولو كنا نتناسخ بدون ذاكرة فهذا ما يساوي المَوْت تمامًا. فالإنسان في مجمل تعريفه ليس سوى ذاكرة وأفكار وإدراك زمنيّ في مرحلةٍ ما.
لذا إذا كنا نتجه نحو فناءٍ خالد –من ناحية ذاكرتنا ووعينا وتجربتنا الزمنيَّة، وليس من ناحية مادتنا الحيويَّة– فلماذا وُجِدَ الإنسان كعنصرٍ كَوْنيٍّ؟ وكيف يتحقَّق سبب وجوده في حياته اليوميَّة التافهة القصيرة؟
دعنا نتخيَّل أننا مجرَّد جزء بازغ واعٍ من صلصال الكَوْن ومادته. إذا كان الكَوْن يتجه نحو الفناء ونحن معه، لماذا إذًا بحث الكَوْن عن وجوده؟ الإجابة هي أنه إذا كان الكَوْن وُجِدَ ليفنى، فهذا يعطينا فِكْرة ما، أن الكَوْن وُجِدَ ليستشعر كماله من خلال الوجود الناقص، فما تخلقه الحياة من تشوُّهاتٍ منطقيَّة: كالزمن، والسيرورة، والصيرورة، وإرادة الفعل، والتبادلات، والتغيُّرات الجوهريَّة للمادة والمكان والزمان، كلها أشياء ناقصة يستشعر فيها الكَوْن والإنسان خلوده وعظمته.
هكذا يمكننا أن نقول: إن تجزُّأ الإنسان في الأعمال اليوميَّة هو ما يهمه حقًا. أن يتجزَّأ الإنسان لفِكْرٍ وثقافةٍ وفَنٍّ بواسطته يُمَارس هواية التغيير والسعي وراء التغيير، هذا ما يمنحه حياةً وخلودًا، مثلما تجزَّأ الكَوْن لنجوم ومجرَّات تسعى للتغيير قبل فنائها. إننا إذا نظرنا إلى تاريخ العِلْم، فسنجد أنه كان وسيكون حالة أسطوريَّة قادمة في قصص الأُمَم التالية، حالة تُعبِّر عن غبائها الفِكْريّ مقارنة بما سيأتي. وهذا ما يجعلنا نتصوَّر أن تلك الحالة من ديمومة التغيير والرَّغبة في المعرفة، ليست مقدَّسة في حال ذاتها، بل هي رَغْبَة تغيير من أجل سُكُون. هذا السُّكُون هو التماهي والتطابق مع الكَوْن بأكمله، فالعِلْم ليس مقدَّسًا بذاته، بل هي حالة ناقصة دائمة تحاول أن تُكمِّل نفسها، لكنها لا تفلح في ذلك، لأنها دائمة التغيير، ودائمة الاكتشاف، ودائمة الحديث عن نطاقٍ أوسع.
إن اللحظة التي يُعلن فيها العِلْم اكتماله الفِكْريّ تُمثِّل لحظة أن نصير نحن الكَوْن، حالة من الطاقة لربما هي الطبيعة بذاتها كما عند اسبينوزا وفلاسفة المعتزلة، لكننا دائمًا ما نكون مُكبَّلين بمفاهيمٍ اصطلاحيَّة لا تستطيع أن تَخْلِق جديدًا. هذا يدفعنا إلى التساؤل عن: ماذا بعد أن نصير ضوءًا؟ أسنخوض ديمومة بحث وتغيير جديدة؟ هذا ما يجعل النُّقْصَان هو الكمال وهو الأبديَّة. ذلك هو ما يساعدنا على تقبُّل اللا خُلُود اللا واعي. هكذا يُمكننا أن نقتنص من حالات حياتنا التافهة وغير المُسْتَقِرة وغير المُعبِّرة عن صورة الكَوْن والعِلْم بصورته المُطْلَقة لحظات تُشْعِرنا بالكمال والسعادة والأبديَّة. نحن صورة مُصغَّرة وبدائيَّة، شكلًا وليس مضمونًا، من الكمال والمطلق، لأن الكمال والمطلق هما النُّقْصَان، ونحن ناقصون نسعى إلى لتغيير دائمًا. بإمكاننا الآن أن نفهم لماذا نتمسَّك بمعاني الفِكْر والإنسانيَّة والعِلْم والتَّاريخ. نحن خالدون منتصرون باستغراقنا في أعمالنا اليوميَّة، لا يمنعنا المَوْت عن أداء إنجاز قائمة مهامنا. إذا قِيل لنا سنموت اليوم، فبإمكان محمود درويش أن يَرُدّ في قصيدته “بقية حياة” قائلًا:
إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء.
فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقت؟ أنظر في ساعة اليَدّ.. أشرب كأس عصيرٍ.. وأقضم تفاحةً.. وأطيل التأمُّل في نملة وَجَدَت رزقها.. ما زال ثَمَّة وقت لأحْلِق ذقني..
أعد غدائي الأخير.. أصبّ النبيذ بكأسين.. لي ولمن سيأتي بلا موعدٍ.. وألبس أحدث قُمْصَان إيطاليا وأشيِّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا.. ثُمَّ أمشي إلى المَقْبَرة.
ثُمَّ يستطرد في قصيدة “الحياة حتى آخر قطرة”:
وإن قيل لي ثانية: ستموت اليوم..فماذا تفعل؟ لن أحتاج إلى مُهْلَةٍ للرَدِّ
إذا غلبني الوَسَن نِمْتُ.. وإذا كنت ظمآنَ شَرَبتُ.. وإذا كنت أكتب فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال.
فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا بوسعي أن أفعل غير ذلك حتى لو كنت أشجع من أحمق وأقوى من هرقل؟
الخُلُود الواعي والخُلُود اللا واعي: أيهما أفضل؟
إن إقرار سيوران بجماليَّة خُلُود المَوْت وولعه باللا وجود، هو إقرار غير منطقيٍّ بالمرَّة، بل إن الخُلُود الواعي للإنسان –إذا ما استطاع تحقيقه– هو الحَلّ الأفضل له وللكَوْن بكل تأكيدٍ، لأنه، من ناحية، خُلُود مُدْرِك بوعي الإنسان، ولأنه يتيح للإنسان أن يستشعر الكمال من خلال العيوب المنطقيَّة والنواقص الكَوْنيَّة والإنسانيَّة، التي يُمَارِس الإنسان في ظلها إرادة التغيير والسَّعي الدائم لإنجاز المُهِمَّات، لأن استحالة إدراك الإنسان شُعُور أنه كائنٌ ميت خالد، تُسْقِط عن المَوْت تلك المهابة الشَّاعريَّة الجليلة.
لماذا لا نتصوَّر، ونحن جالسون في أماكننا، وجود عنصر ما أمامنا غير موجودٍ كان يمكن أن يوجد؟ كيف لا نَحزن أن هناك أحد يُسمَّى “س” كان يمكن أن يوجد معنا في فضاء الغرفة، لكنه ليس كذلك؟ كيف لا نحزن من أجل شيء لم يوجد؟! إن اللا وجود يجعلنا لا نستطيع أن نشعر بنُقْصَان حياتنا وزمنيَّتها المؤقتة من خلال وعينا. إذًا، المَوْت هو هدمٌ للكمال، وخُلُوده باطل غير صحيحٍ. وبذلك تُهْدَم فِكْرة جمال أبديَّة الموت أو راحته أو كماله. إن وجود الكمال مع عدم الوعي بالكمال ليس كمالًا، إنما السعي للكمال في حياة اللا كمال يُعَدّ كمالً.ا
وماذا عن رُعْب الخُلُود الواعي؟ تخيَّل معي يا سيدي أنك عَطِشتُ الآن، فشَرَبتُ. هل إذا عَطِشت مجددًا فلن تَشْرَب لأنك تعرف إحساس العَطَش والارتواء؟
إن سعي الإنسان الدائم للفعل والتغيير، يمكن أن يُنسيه رُعْب الخُلُود. لو عَاشَ الإنسان للأبد فلن يمنعه شيء من الاستيقاظ مبكرًا والشُّرب، ثُمَّ الاستيقاظ والشُّرب للأبد. إن سعي الإنسان إلى الفعل والتغيير،هو الشيء الوحيد الذي أنساه عبثيَّة الحياة وأحزانه بها وأنساه موته وفناءه، والذي بإمكانه أيضًا أن يُنسيه رُعْب الخُلُود إذا تحقَّق. حتى إن أعظم مثالٍ على ذلك، هو أن تصوُّر الجنة في الأدْيَان الإبراهيميَّة كان عبارة عن جنة من الأفعال والتفاعل بمهامٍ استهلاكيَّة يوميَّة، من طعامٍ وشرابٍ وجنسٍ واستمتاعٍ: “وَ كُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا”. بإمكان الإنسان أن يخوض حلقة سيزيف تلك غير خائفٍ من أبديَّة الخُلُود، لأن رغباته وإن تكرَّرت وإن مَلَّ منها سيسعى دائمًا لإشباعها ولن يحتمل التوقُّف عن ذلك، بل بإمكاننا الزَّعم أن التألُّم الأبديّ في الجحيم خيار أفضل من انعدام وجود الإنسان. إذ إنه لا شيء يُضاهي أبدًا وعي الإنسان بوجوده ولا كرامة في الموت أبدًا.
“تنهار أجسادنا أحيانًا عندما نكون في التسعين من عمرنا، وأحيانًا قبل حتى أن نولد، لكن هذا يحدث دائمًا ولا يوجد أي كرامةٍ فيه، يمكننا العَيْش بكرامةٍ، لكن لا يمكننا المَوْت معها”.
من مسلسل هاوس
خاتمة:
يمكن أن يكون الإنسان مجرَّد تجربة عِلْميَّة أو فِكْرة أو نمطًا أو حجرًا في دار عبادة أو عُنْصُرًا كَوْنيًّا حيويًّا أو لحنًا موسيقيًّا أو أسطورة غابرة منسية منذ عهودٍ سحيقة. لكن لا يوجد أعظم من كَوْنه إنسانًا يحوي كل ذلك، وإن تحالفت كل المكنونات ضِده فأفنته، فلن يُضاهي ذلك أبدًا ثانية من كرامة عاشها الإنسان وهو واعٍ بأنه بإمكانه أن يصير العَالَم بذاته، بأنه هو وعي التجربة والفِكْرة والحَدَث، بأن إنسانيَّته جعلته يدور دورةً بين النجوم، ثُمَّ ينظر متجبِّرًا للأفق بكبرياء وعيه اللحظيّ الأبديّ، لا يملك في تلك الحياة كلها سوى آماله وأمنيَّاته.
كل شيءٍ يجب أن يموت. هذه هي الحقيقة، لكن المرء يحب أن يعتقد أنه دائمًا ما يكون هناك أمل.
من فيلم “أنا أفكر في إنهاء الامور”
تدقيق: أمل فاخر
نحن نُواجه دائمًا، بما في هذا الكَوْن من حقائق واقعیَّة، فنحس باختلافها وبتعددها، ولكننا نحاول، من ناحیةٍ نظریَّةٍ، أن ندركها على وجهٍ يُرجِع ھذا التعدُّد والاختلاف إلى وحدةٍ لا تعدد فیها ولا اختلاف.. وإن سرورنا عند معرفة أن الحقائق المُضْطَرِبَة لیست إلا مظهرًا لحقیقة واحدة یشبه سرور المُوسِیقيّ عندما یُرجِع الأصوات المُضْطَرِبة المختلفة إلى نغمةٍ واحدةٍ ولَحنٍ واحد. – وليم جيمس.. العقل والدِّين
لقد كانت جميع الفلسفات مُحِقَّة جميعها في آنٍ واحد. إذ تناولت كل منها الإنسان من منظورٍ تحليليٍّ، وحاربت من أجل أن تكون فكرتها هي معنى الحياة وهي وسيلة الإنسان لتفسير نفسه وسط الكَوْن. وإذا استطاع الإنسان أن يفهم ذاته و طبيعة سلوكه وأسباب أفعاله، فإنه دائمًا ما سيجد سرديَّة متقبِّلة للمَوْت في إطار فِكْره.. إذ إنه في حدود فَلْسَفته وفِكْره سيكون قد بلغ قمة المعرفة والتماهي مع الطبيعة والكَوْن، التي تجعله مُتقبِّلًا للموت بكل رحابةٍ، لأنه يعلم جيدًا أنه إذا ما استمر في الحياة فلن يتغيَّر شيء ما. فقد كشف سِرّ الحياة، وسيظل دائمًا يعمل ويسلك على النحو ذاته مدفوعًا بالفِكْرة أو الرَّغبة أو الفَلْسَفة التي اكتشف أنها تُدير الحياة، وأفعاله كلها ليست سوى تنويعات عن فِكْرةٍ أصيلةٍ عنوانيَّة لحياته. حتى إنه بإمكاننا أن نرى أن الفَلْسَفة العبثيَّة والعدميَّة الانتحاريَّة، هي فَلْسَفة حياتيَّة وجوديَّة، لم تفلح سوى في مساعدة الإنسان على انتهاج الحياة طِبق منظور اللا معنى، فأعطته حُرِّيَّةً في الفعل، ويأسًا في تقبُّل المصير، وساعدته في أن ينتهج الحياة وَفْق أسلوبها، لا أن يحرص ويخاف على قيمة ما في حياته من الموت والفناء، فيعيش في قلقٍ ذاتيٍّ دائم. ومن تلك الماديَّة أيضًا التي هي جوهر الفِكْر العِلْميّ، كما قلنا من قبل، والتي تعاملت مع الإنسان على أنه مادة حيويَّة تتغيَّر خصائصها الفيزيائيَّة والكيميائيَّة كما يحدث مع النجوم والكواكب والمجرَّات، وبالتالي فإن الإنسان وحياته كلها ليست سوى تمثيلاتٍ ماديَّة لا تمتلك في ذاتها خواصًا ميتافيزيقيَّة.
ولم یتفق الفَلاسِفَة في وقتٍ ما على معیار ٍواحدٍ واقعيٍّ تُخْتَبر به حقیقة ما هو في الواقع حق. فیجعله بعض العلماء شیئًا خارجیًّا مُغَایِرًا للشُّعُور العقليّ، ویُرى أنه الوحي والإلهام، أو إجماع الأمة أو الغرائز النَّفسیَّة، أو التجارب المُنظِّمة للجماعة، بینما یرى آخرون أن لحظة الإدراك ھي معیار للأحكام المُطْلَقة. ویذكر آخرون معاییر أخرى، مثل عدم تصوّر النقیض أو الضِدّ، وكَوْن الشيء مما يمكن البرهنة علیه حسًا، إلخ. وإن ما سُبِّح بحمده من الأدلة الموضوعیَّة ،لم یبدُ یومًا ما منتصرًا في المیدان؛ فھو لا یزال رغبة أو أملًا، إن دَلَّ على شيءٍ، فإنما یدل على أن حیاتنا التَّفكیریَّة ذات آمالٍ لا نھائيَّة.
وليم جيمس، العقل والدِّين
هكذا كان حال جميع الأفْكَار والفَلْسَفات في مواجهة الموت. ساعدت الإنسان على أن يعيش في ظل فِكْرة، أن يفقد ذاته ويغوص في جماعيَّة تلك الفِكْر، .أن تصير أفعاله هى ظلالها، أن يموت وهو ينشدها مع حرَّاسها. فإذا وُجِدَت الفِكْرة وُجِدَ هو. وموته هو ليس انتهاء حياته، ولكن موته هو زيف الفِكْرة. ففكرته هى أصل الحياة والمَمَات. فالذي دفع المُفكِّرون لتقديم أفكارهم ليس الخوف من الموت، ولكنه الكبرياء الذي لا يريدنا مغفَّلين أمام الموت.
ينقذ الفيلسوف نفسه من الرداءة، إما عن طريق الشكوكيَّة، أو من خلال التصوُّف. -إميل سيوران
فابتئاس الإنسان من رحيله الأبديّ وانعدام المعنى، يدفعه إلى حزنٍ وجوديٍّ. هذا الحزن الوجوديّ الذي يصفه مارتن هايدجر بأنه الحياة الحقيقيَّة، فتكون وسيلة حياته وتقبُّله للموت هو البحث العميق في الفِكْر والعَيْش به ومن خلاله ومن أجله فقط لا غير.
أما عن الأدْيَان، فقد أثبتت أنها الأبْرَع والأشْجَع في حيازة روح الإنسان، لأنها لم تتهرَّب من المواجهة الشرسة أمام الموت، بل وقفت مُتحدِّيَة جميع الأفْكَار الإنسانيَّة والخصائص الماديَّة وأسَرَت الإنسان بالأمل الميتافيزيقيّ، وجعلت المَوْت مَعْبَرًا دُنيويًّا لا يمتلك قيمة منفصلة، بل هو مجرَّد حدث في لوحة إنسانيَّة لا نهائيَّة نُقِشَت منذ الأزل.
لقد أخذت الأدْيَان بيد الإنسان وعَلَت به إلى النجوم ومدارات الكواكب، ارتفعت به كقوَّةٍ كونيَّة هي الأهم في العَالَم وليس كمجرَّد عنصر متجلي عنه، غَذَّت وأشْبَعَت أحلام وآمال الإنسان في مركزيَّته للكَوْن، وجعلته مُتحكِّمًا في ماديَّته وليست هي المُتحكِّمة فيه. لقد كانت الأدْيَان نفخة روحيَّة من الإلَه في جميع الموجودات الإنسانيَّة ومظاهرها، أنقذتها من الجمود الحركيّ ووهبتها هدفًا تسعى إليه في حياتها: الموسيقى، الأدب، الفَلْسَفة. كلها أشياء لَمَعَ بريقها تحت طائلة الأدْيَان حتى لو كان الفِكْر الإنسانيّ مُهَاجِمًا لتلك الأدْيَان، لأنه حتى المُعَادين لها قد وجدوا قيمةً ما في حياتهم من خلال مكافحتها، فأصبح كل شيءٍ يدور حول الدِّين والإلَه، سواء كنت مؤمنًا أم لا. واستطاع حُلْم الإلَه أن يُدَاعِب خواطرنا من بعيدٍ ويشعرنا بوجوده من خلال الأمل، من خلال الإرادة الإنسانيَّة في أن نجده، في اشتهاء مَعْبَر المَوْت نحو الاتِّحاد الصُوفيّ مع الإلَه، في التحرُّر من اللَّذة الماديَّة لنصبح أفكارًا مُحلَّقة في الهواء، في أن يصير الإنسان كَوْنًا تدور فيه الموجودات، فأشعره الدِّين بأنه لا يعيش في أشباح فِكْرةٍ ما مُتَوَاريًا عن المَوْت، بل اقترب من مَنْزِلة فارس شاهرًا سيفه في وجه الموت ذاته.
وفي ذلك يستطيع الإنسان تشرُّب الحياة كاملة، لا يشغله الموت أو ما بعده حتى، كما يقول محمود درويش:
“لم يسألوا: ماذا وراء المَوْت؟
كانوا يحفظون خريطة الفردوس أكثر من كتاب الأرض
يشغلهم سؤال آخر، ماذا سنفعل قبل هذا المَوْت؟“
فَلْسَفة التجزُّأ: كيف يَخْلُد الإنسان في اليوم ألف مرَّةٍ؟
إذا كان لنا أن نُحدِّد لأنفسنا مسارًا نسلكه، فهو أننا مجرَّد مرحلة زمنيَّة، أحد الأشكال البدائيَّة في عملية تَوجُّه الكَوْن نحو فنائه، ليُعيد تجدده. وإذا كان لنا أن نتصوَّر أن الكَوْن يمكن أن يظل في حالة تبادل ما بين فناءٍ –الانسحاق العظيم– ووجودٍ –الانفجار العظيم– فلو كنا نتناسخ، لكانت لنا ذاكرة واعية بما كنا. ولو كنا نتناسخ بدون ذاكرة فهذا ما يساوي المَوْت تمامًا. فالإنسان في مجمل تعريفه ليس سوى ذاكرة وأفكار وإدراك زمنيّ في مرحلةٍ ما.
لذا إذا كنا نتجه نحو فناءٍ خالد –من ناحية ذاكرتنا ووعينا وتجربتنا الزمنيَّة، وليس من ناحية مادتنا الحيويَّة– فلماذا وُجِدَ الإنسان كعنصرٍ كَوْنيٍّ؟ وكيف يتحقَّق سبب وجوده في حياته اليوميَّة التافهة القصيرة؟
دعنا نتخيَّل أننا مجرَّد جزء بازغ واعٍ من صلصال الكَوْن ومادته. إذا كان الكَوْن يتجه نحو الفناء ونحن معه، لماذا إذًا بحث الكَوْن عن وجوده؟ الإجابة هي أنه إذا كان الكَوْن وُجِدَ ليفنى، فهذا يعطينا فِكْرة ما، أن الكَوْن وُجِدَ ليستشعر كماله من خلال الوجود الناقص، فما تخلقه الحياة من تشوُّهاتٍ منطقيَّة: كالزمن، والسيرورة، والصيرورة، وإرادة الفعل، والتبادلات، والتغيُّرات الجوهريَّة للمادة والمكان والزمان، كلها أشياء ناقصة يستشعر فيها الكَوْن والإنسان خلوده وعظمته.
هكذا يمكننا أن نقول: إن تجزُّأ الإنسان في الأعمال اليوميَّة هو ما يهمه حقًا. أن يتجزَّأ الإنسان لفِكْرٍ وثقافةٍ وفَنٍّ بواسطته يُمَارس هواية التغيير والسعي وراء التغيير، هذا ما يمنحه حياةً وخلودًا، مثلما تجزَّأ الكَوْن لنجوم ومجرَّات تسعى للتغيير قبل فنائها. إننا إذا نظرنا إلى تاريخ العِلْم، فسنجد أنه كان وسيكون حالة أسطوريَّة قادمة في قصص الأُمَم التالية، حالة تُعبِّر عن غبائها الفِكْريّ مقارنة بما سيأتي. وهذا ما يجعلنا نتصوَّر أن تلك الحالة من ديمومة التغيير والرَّغبة في المعرفة، ليست مقدَّسة في حال ذاتها، بل هي رَغْبَة تغيير من أجل سُكُون. هذا السُّكُون هو التماهي والتطابق مع الكَوْن بأكمله، فالعِلْم ليس مقدَّسًا بذاته، بل هي حالة ناقصة دائمة تحاول أن تُكمِّل نفسها، لكنها لا تفلح في ذلك، لأنها دائمة التغيير، ودائمة الاكتشاف، ودائمة الحديث عن نطاقٍ أوسع.
إن اللحظة التي يُعلن فيها العِلْم اكتماله الفِكْريّ تُمثِّل لحظة أن نصير نحن الكَوْن، حالة من الطاقة لربما هي الطبيعة بذاتها كما عند اسبينوزا وفلاسفة المعتزلة، لكننا دائمًا ما نكون مُكبَّلين بمفاهيمٍ اصطلاحيَّة لا تستطيع أن تَخْلِق جديدًا. هذا يدفعنا إلى التساؤل عن: ماذا بعد أن نصير ضوءًا؟ أسنخوض ديمومة بحث وتغيير جديدة؟ هذا ما يجعل النُّقْصَان هو الكمال وهو الأبديَّة. ذلك هو ما يساعدنا على تقبُّل اللا خُلُود اللا واعي. هكذا يُمكننا أن نقتنص من حالات حياتنا التافهة وغير المُسْتَقِرة وغير المُعبِّرة عن صورة الكَوْن والعِلْم بصورته المُطْلَقة لحظات تُشْعِرنا بالكمال والسعادة والأبديَّة. نحن صورة مُصغَّرة وبدائيَّة، شكلًا وليس مضمونًا، من الكمال والمطلق، لأن الكمال والمطلق هما النُّقْصَان، ونحن ناقصون نسعى إلى لتغيير دائمًا. بإمكاننا الآن أن نفهم لماذا نتمسَّك بمعاني الفِكْر والإنسانيَّة والعِلْم والتَّاريخ. نحن خالدون منتصرون باستغراقنا في أعمالنا اليوميَّة، لا يمنعنا المَوْت عن أداء إنجاز قائمة مهامنا. إذا قِيل لنا سنموت اليوم، فبإمكان محمود درويش أن يَرُدّ في قصيدته “بقية حياة” قائلًا:
إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء.
فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقت؟ أنظر في ساعة اليَدّ.. أشرب كأس عصيرٍ.. وأقضم تفاحةً.. وأطيل التأمُّل في نملة وَجَدَت رزقها.. ما زال ثَمَّة وقت لأحْلِق ذقني..
أعد غدائي الأخير.. أصبّ النبيذ بكأسين.. لي ولمن سيأتي بلا موعدٍ.. وألبس أحدث قُمْصَان إيطاليا وأشيِّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا.. ثُمَّ أمشي إلى المَقْبَرة.
ثُمَّ يستطرد في قصيدة “الحياة حتى آخر قطرة”:
وإن قيل لي ثانية: ستموت اليوم..فماذا تفعل؟ لن أحتاج إلى مُهْلَةٍ للرَدِّ
إذا غلبني الوَسَن نِمْتُ.. وإذا كنت ظمآنَ شَرَبتُ.. وإذا كنت أكتب فقد يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال.
فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا بوسعي أن أفعل غير ذلك حتى لو كنت أشجع من أحمق وأقوى من هرقل؟
الخُلُود الواعي والخُلُود اللا واعي: أيهما أفضل؟
إن إقرار سيوران بجماليَّة خُلُود المَوْت وولعه باللا وجود، هو إقرار غير منطقيٍّ بالمرَّة، بل إن الخُلُود الواعي للإنسان –إذا ما استطاع تحقيقه– هو الحَلّ الأفضل له وللكَوْن بكل تأكيدٍ، لأنه، من ناحية، خُلُود مُدْرِك بوعي الإنسان، ولأنه يتيح للإنسان أن يستشعر الكمال من خلال العيوب المنطقيَّة والنواقص الكَوْنيَّة والإنسانيَّة، التي يُمَارِس الإنسان في ظلها إرادة التغيير والسَّعي الدائم لإنجاز المُهِمَّات، لأن استحالة إدراك الإنسان شُعُور أنه كائنٌ ميت خالد، تُسْقِط عن المَوْت تلك المهابة الشَّاعريَّة الجليلة.
لماذا لا نتصوَّر، ونحن جالسون في أماكننا، وجود عنصر ما أمامنا غير موجودٍ كان يمكن أن يوجد؟ كيف لا نَحزن أن هناك أحد يُسمَّى “س” كان يمكن أن يوجد معنا في فضاء الغرفة، لكنه ليس كذلك؟ كيف لا نحزن من أجل شيء لم يوجد؟! إن اللا وجود يجعلنا لا نستطيع أن نشعر بنُقْصَان حياتنا وزمنيَّتها المؤقتة من خلال وعينا. إذًا، المَوْت هو هدمٌ للكمال، وخُلُوده باطل غير صحيحٍ. وبذلك تُهْدَم فِكْرة جمال أبديَّة الموت أو راحته أو كماله. إن وجود الكمال مع عدم الوعي بالكمال ليس كمالًا، إنما السعي للكمال في حياة اللا كمال يُعَدّ كمالً.ا
وماذا عن رُعْب الخُلُود الواعي؟ تخيَّل معي يا سيدي أنك عَطِشتُ الآن، فشَرَبتُ. هل إذا عَطِشت مجددًا فلن تَشْرَب لأنك تعرف إحساس العَطَش والارتواء؟
إن سعي الإنسان الدائم للفعل والتغيير، يمكن أن يُنسيه رُعْب الخُلُود. لو عَاشَ الإنسان للأبد فلن يمنعه شيء من الاستيقاظ مبكرًا والشُّرب، ثُمَّ الاستيقاظ والشُّرب للأبد. إن سعي الإنسان إلى الفعل والتغيير،هو الشيء الوحيد الذي أنساه عبثيَّة الحياة وأحزانه بها وأنساه موته وفناءه، والذي بإمكانه أيضًا أن يُنسيه رُعْب الخُلُود إذا تحقَّق. حتى إن أعظم مثالٍ على ذلك، هو أن تصوُّر الجنة في الأدْيَان الإبراهيميَّة كان عبارة عن جنة من الأفعال والتفاعل بمهامٍ استهلاكيَّة يوميَّة، من طعامٍ وشرابٍ وجنسٍ واستمتاعٍ: “وَ كُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا”. بإمكان الإنسان أن يخوض حلقة سيزيف تلك غير خائفٍ من أبديَّة الخُلُود، لأن رغباته وإن تكرَّرت وإن مَلَّ منها سيسعى دائمًا لإشباعها ولن يحتمل التوقُّف عن ذلك، بل بإمكاننا الزَّعم أن التألُّم الأبديّ في الجحيم خيار أفضل من انعدام وجود الإنسان. إذ إنه لا شيء يُضاهي أبدًا وعي الإنسان بوجوده ولا كرامة في الموت أبدًا.
“تنهار أجسادنا أحيانًا عندما نكون في التسعين من عمرنا، وأحيانًا قبل حتى أن نولد، لكن هذا يحدث دائمًا ولا يوجد أي كرامةٍ فيه، يمكننا العَيْش بكرامةٍ، لكن لا يمكننا المَوْت معها”.
من مسلسل هاوس
خاتمة:
يمكن أن يكون الإنسان مجرَّد تجربة عِلْميَّة أو فِكْرة أو نمطًا أو حجرًا في دار عبادة أو عُنْصُرًا كَوْنيًّا حيويًّا أو لحنًا موسيقيًّا أو أسطورة غابرة منسية منذ عهودٍ سحيقة. لكن لا يوجد أعظم من كَوْنه إنسانًا يحوي كل ذلك، وإن تحالفت كل المكنونات ضِده فأفنته، فلن يُضاهي ذلك أبدًا ثانية من كرامة عاشها الإنسان وهو واعٍ بأنه بإمكانه أن يصير العَالَم بذاته، بأنه هو وعي التجربة والفِكْرة والحَدَث، بأن إنسانيَّته جعلته يدور دورةً بين النجوم، ثُمَّ ينظر متجبِّرًا للأفق بكبرياء وعيه اللحظيّ الأبديّ، لا يملك في تلك الحياة كلها سوى آماله وأمنيَّاته.
كل شيءٍ يجب أن يموت. هذه هي الحقيقة، لكن المرء يحب أن يعتقد أنه دائمًا ما يكون هناك أمل.
من فيلم “أنا أفكر في إنهاء الامور”
تدقيق: أمل فاخر