البكتيريا تراقب جيناتك وتؤثر في عملها!
قد يكون منّا الآن أحد يحب الأسد، ذلك الكائن المعروف بقوته، والذي استخدمت صفاته في الكثير من أبيات الشعر بمخلتف اللغات، وآخر يعشق الدلفين، وقد يكون لك أنت حيوان تفضله كثيرًا بسبب صفاته المعروفة والتي يعيش بها في الطبيعة ليؤثر عليها وتؤثر عليه، لكنّ الأمر المختلف قليلًا أن هناك شريحة من الناس بعالمنا اليوم لها توجّه مختلف، حبّ من نوع آخر، عشق لكائن لا يمكن حتى رؤيته أو لقائه بسهولة، الكائن المجهري “البكتيريا” والذي تناولنا صداقتنا معه في مقال الأسبوع الماضي. وفي مقالنا هذا سنواصل المسير في كشف الغبار عن هذه العلاقة الغريبة والعطرة.
يكون مقالنا اليوم امتدادا لما طرحناه الأسبوع الماضي حول المخلوق الودي الذي نعيش معه منذ أن كنا أجنة في رحم دافىء لطيف .
البكتيريا ، الكائن الذي استمررنا ومازلنا مستمرين معه تحت نطاق تأثير متبادل بيننا؛ إن كان هذا التأثير إيجابيًا رزينًا فإننا نستفيد بشكل كبير من هذا التعايش، بينما العكس أيضًا محتمل ويكون صحيحًا غالبًا.
حيث فهمنا سابقا أحد التأثيرات الإيجابية للبكتيريا وأهميتها في تحليل المكونات والعناصر المغذية التي نتناولها، كاللاكتوز المتواجد بكثرة في المواد اللبنية، وأن غياب البكتيريا Bacteroides Thetaiotamicron يجعل مركب اللاكتوز مسببًا لأعراض مؤذية. كما ذكرنا مثال البكتيريا Escherichia coli التي تقوم بتقديم الفيتامين K لنا بشكل منتظم إن حرصنا على إبقاء شروط التأثير بيننا وبينها إيجابية.
يمتد هذا التأثير ليصل لمرحلة أكثر عمقًا، حيث يمكن لهذا الكائن المجهري التحكم في أو مراقبة عمل بعض جيناتك بتفعيلها أو تعطيلها، هذا الأمر غريب حقًا ومهم بنفس الوقت، وتعد معرفة وفهم العملية التي تتدخل من خلالها البكتيريا في عمل جيناتنا من الضروريات.
,لكي نفهم العملية التي تقوم بها البكتيريا ، وجب التطرق للسبل التي يمر بها الجين من أجل القيام بعمله.
كل خلية بجسمك تحمل نفس عدد الجينات (قطع من الجينوم لها سلسلة معلوماتية محددة يتم نسخها وترجمتها إلى مركب بروتيني خاص بكل صيغة جينية) التي تحملها الخلايا الأخرى، أي أن الدي إن أي DNA بخلية دماغك هو نفس DNA الذي بكبدك بنسبة مئوية مرتفعة قد تكون نسبة كاملة من حيث المعلومات التي يحملها الجزيء.
إلا أن نشاط عمل هذه الجينات يختلف من نسيج لآخر، فقد يكون جين مفعلًا بنسبة قصوى في نسيج بينما يكون نشاطه ضئيلًا أو منعدمًا في نسيج آخر. وهذا كان التعريف الأبسط للجينات التي تعتبر أهميتها أعمق بكثير سواء من الناحية الحيوية وتنظيمها لعمل الخلية أو من الناحية السلوكية، كما شرح الزميل معتصم وهيب في سلسلته العلمية المركزة
علم الأعصاب السلوكي ودراسة الدماغ ” الجينات والسلوك .
الجين وتفعيله :
بنواة كل خلية من جسمك يتواجد المركب المعقد الدي إن اي DNA، الذي له تركيبة جد مهمة، وبشكل مختصر، فإن لولب الدي إن آي ملتف حول جزيئات بروتينية تسمى الهيستونات Histones والتي لها دور في حمايته من التحلل degradation، وخلق قابلية التفاعل بين اللولب وعوامل آخرى منشطة أو كابحة… هذه الهيستونات تضم أحماضًا أمينية قاعدية Amino acid تسمى الأرجينين arginine والليسين lysine تحمل شحنة موجبة تتجاذب مع الشحنة السالبة للولب مما يجعله ملتفًا بها في عدة مناطق ومواضع.
هذان الحمضان الأمينيان (وحدات بناء البروتين) عنصران مهمان في تعديل نشاط الجينات. كمثال بسيط فإن إضافة مركب الأسيتيل acetyle إلى الحمض الأميني الليسين lysine acetylation ينقص من شحنته الموجبة وبالتالي يتضاءل التجاذب بين الهيستون واللولب، فتقل كثافة الدي إن أي في تلك الجهة من الجينوم، مما يجعل الجين المقابل أكثر قابلية لتشغيله وتعبيره، لكن إزالة الأسيتيل Histone deacetylation من هذا الحمض الأميني، يؤدي إلى خفض شغل الجين بل قد يصل لتوقيفه. وتوضح الصورة بالأسفل كيف يكون لولب الدي إن آي قبل الحصول على الأسيتيل ”الصورة في الأعلى” و كيف يصبح بعدما يحصل عليه ”الصورة في الأسفل”.
من جهة أخرى، تتم أيضًا إضافة مركب الكرونيل إلى حمض الليسين، هذه العملية مختلفة قليلًا لكنها متواجدة بشكل كبير في خلايا الأمعاء، حيث أنّ اندماج (كرونيل-هيستون) يقوم بالتأثير إيجابيًا على المنطقة البدئية من الجين Promotor وهي الجهة التي تقع عليها مراقبة الجين gene regulation.
والبكتيريا المتواجدة بقناتك الهضمية تقوم بإفراز وتركيب مواد حيوية تسمى ”الأحماض الذهنية قصيرة السلسلة” short chain fatty acids، تدخل هذه الأخيرة إلى خلاياك لتبدأ بالتعامل مع بعض جيناتك، وذلك بزيادة عدد الكرونيل-هيستون وكذا توقيف بروتين يسمى Histone deacetylases” HDAC2” حسب ما نشره معهد بابرهام في 8 من هذا الشهر.
ما أهمية هذه التفاعلات مع البروتين HDAC2؟
قام علماء بملاحظة وفحص خلايا أمعاء فئران فقدت معظم المستعمرات البكتيرية، فوجدوا أن نسبة البروتين HDAC2 مرتفعة مقارنة بخلايا الفئران العاديين.
وفي أبحاث أخرى اقترحت أن زيادة نسبة هذا البروتين مرتبطة بزيادة خطر الإصابة بسرطان القولون والمستقيم.
والسبب في تورط HDAC2 في العديد من المشاكل أن وظيفته كأنزيم هي تنشيط عملية إزالة مركب الأسيتيل من الهيستونات، وارتفاع نسبة هذا الأنزيم بالخلية يؤدي لارتفاع عمليات إزالة الأسيتيل بشكل أكثر من الطبيعي، فيؤثر ذلك سلبا على جينات الخلية إضافة إلى تأثيرها السلبي على عملية الكرونيل Cronylation.
إذن، انطلاقا من هذه المعطيات يمكنك استنتاج الكيفية التي تعمل بها البكتيريا من أجل صيانة جيناتك و الحفاظ على خلاياك وكذا تقليل خطر الإصابة بالسرطان.
وكخلاصة، فإن صديقك المجهري يقوم بالتخاطب مع جيناتك عبر رفع معدل الكرونيل بهيستونات خلاياك و تعديل نسبة HDAC2، وهذا أمر كاف للاقتناع بأن لها دور في نشاط جيناتك.
الآن، من هو كائنك المفضل؟ 🙂