اقتصاد الانتباه

ينتهي المطاف بالمسوق في تشتيت انتباه المستهلك في محاولةٍ منه للسيطرة على كامل انتباهه

يشكِّل مبدأُ الندرة المبدأَ الجوهري الذي يُبنى عليه الاقتصاد بأكمله. ويشير مبدأ الندرة ببساطة تامّة إلى نقص العرض لِمنتج ما؛ أيّ أنّ الكمية المتوافرة في السوق لا تتوافق مع الطلب عليه.   

ونعيش مبدأ الندرة كمُستهلكين عندما يخلو محل البِقالة من الموز أو عندما ننتظر في طابورٍ لساعات طويلة بهدف شراء أحدث هاتف ذكي من نوع آيفون، أو حتى عندما نرغب بممارسة تمارين اليوغا وتمشية الكلب، ولكن الوقت المتاح أمامنا محصور بساعة واحدة. وبذلك نرى أن الندرة تحيط بنا من كل صوب وحدب. كما ونلاحظ هذا المبدأ عندما نريد من آبائنا أن يُعيروننا انتباههم للحظة، ولكن غرقهم في عالم أجهزتهم الإلكترونية يستهلك كامِل انتباههم. وفي مجال التسويق، نجابه مبدأ الندرة وجهاً لِوجه عندما نرغب بجذب انتباه الجمهور المستهدَف، إلّا أننا نتنافس مع الآلاف لنحظى بهذا المورِد الذي يتسم بالمحدودية، بما في ذلك المسوقين والشركات والأفراد وغيرهم من الأمور التي تنافسنا في جذب انتباه المستهلك. 

قد يُعجبك: الاقتصاد من التنظير إلى التجريب

مبدأ النُدرة ودوره في تنشيط الاقتصاد

ورغم أنّ ما سبق ذكره يبدو كئيباً بعض الشيء، ويُلمِّح أننا نخوض غمار معارك لانهائية لنحظى بكل شيء، إلا أنّ النُدرة ليست بالمبدأ الضار. فهذا المبدأ هو المحرك الرئيسي الذي يحافظ على نشاط العالم وحيويته، فضلاً عن أنه أحد المبادئ التي تُحرِّك الاقتصاد والتي تحدد الطريقة المتبعة لتحديد أسعار السلع والخدمات، فغِياب هذا المبدأ سيؤدي بالمستهلكين إلى الامتناع عن الدفع مقابل أي سلعة أو خدمة؛ وذلك بحكم المخزون اللامحدود المتوافر تحت تصرفهم، وبذلك لن يتمكن أي فرد من كسب المال، الأمر الذي يعني أننا لن نمتلك المال الذي يتيح لنا مبادلته مقابل السلع والخدمات. ولكن لِمَ قد نحتاج المال من أصله؟ فنحن سنمتلك مخزوناً غير محدود من كل شيء -فكل شيء تحت تصرفِنا. وتبعاً للسيناريو النظري ذاته، سنفترِض أنّ الجوع سيختفي عن وجه الأرض؛ إلا أنّ لي رأياً آخر. ولا شكَّ أنّ ماهية المصدر الذي يتّسِم بالنُدرة أو نوعيته ليست بالمُشكلة؛ حتى وإن كان هذا المصدر هو انتباه الجمهور المستهدف. 

طرف المعادلة الذي يتَّسِم بالنُدرة: انتباه المستهلك

أدى الانفجار المعلوماتي الحديث الذي أتاح لنا الوصول إلى كمٍّ هائلٍ من المعلومات إلى اندلاع صراع جوهري على انتباه الجمهور المستهدف، حيث أدى ذلك إلى زيادة الطلب على انتباه الفرد بشكل غير مسبوق؛ فَيرغب المسوّقون بأن يحصلوا على جُلِّ انتباهك قبل أن تشاهد مقطع الفيديو اليوتيوبي التالي، ويرغب أصدقائك أن تعيرهم كامل انتباهك على تطبيقات سناب شات وفيسبوك وتطبيق الرسائل النصية العادية، كما ويرغب زملاؤك وجميع المسوِّقين بأن يحظوا بانتباهك عندما تتفقد رسائل البريد الالكتروني الواردة. 

إعلان

إلا أنّ المشكلة تكمن في محدودية انتباهك الحالي وذاك المستقبلي الذي يمكنك أن تعيره لكل من يرغب أن يحظى به. حيث أشار John Hagel -الرئيس المشارك لمركز الأبحاث Center for the Edge, Deloitte- قائلاً: “نظراً لأن يومنا يتكون من 24 ساعةٍ فقط، سيؤدي اختيار المنتج أو الخدمة التي ستحظى بانتباه المستهلك إلى تحديد الشركة التي تخلق قيمتها الاقتصادية وتلك التي تُدمِّرها”.

ومن المؤسِف أنّ الانحدار الأخير في ندرة الانتباه ينبع من الطلب المتزايد على انتباهك كمُستهلك، فضلاً عن أنه ينبع من تراجعٍ في العرض -أي أنّ كمية الانتباه المتوفرة ليُعيرها الفرد للغير في تناقص مستمر. ويتَّضِح هذا التراجع في مقياس مدى الانتباه -ويُقصد بمدى الانتباه الفترة الزمنية التي يمكن للفرد فيها التركيز على شيء معيّن- الذي تراجع من 12 ثانية من التركيز إلى 8 ثوانٍ خلال الخمس عشرة سنةٍ الماضية. وأغلب الظن أنّ ذلك يرجع إلى الطلب المتزايد على انتباه المستهلك العادي على مدار اليوم بكامله. 

اقرأ أيضًا: تعلّم الاقتصاد من أفلام جيمس بوند

 

ندرة هائلة في انتباه المستهلك

يحتاج المسوِّقون لانتباه المستهلك، ففي حال انعدام انتباه المستهلك، يُمسي المسوِّق عاجزاً عن توضيح كيفية حلّه لشكاوى المستهلك، وغير قادرٍ على إتمام عملية شراء المستهلكِ للمنتج أو الخدمة التي استفسر عنها بدايةً. 

إذن، كيف يمكننا حلُّ هذه المُعضِلة؟ كيف يمكنك -كمستهلكٍ- الاحتفاظ بآخر حزمة من الموز عندما تجابه خمس مستهلكين آخرين يفتقرون للبوتاسيوم المتوافر في الموز والذين يتوجهون لمكان تواجد الموز في سرعة تساوي سرعتك؟ أو كيف يمكنك لفت انتباه المستهلكين المستقبليين؟

هل يتعين عليك الصراخ بصوتٍ أعلى أو لفتراتٍ أطول؟ هذا ما يقوم به المسوِّقون؛ ولكن معظمهم يتعامل مع الأمر على نحوٍ خاطئ -بل ويزيدون الطين بِلّة! 

لماذا تعتبر وجهة نظر المسوقين خاطئة؟ 

يبذل المسوق جهداً كبيراً لزيادة مبيعاته على مدار مسار المبيعات بطوله وجذب أكبر قدر ممكن من انتباه المستهلك، لدرجة أنه يُفاقِم المشكلة بدلاً من حلها. ولنأخذ رسائل البريد الإلكتروني مثالاً على ذلك: حيث يستقبل الشخص العادي ما يُقارب 85 رسالةً تجارية بشكلٍ يوميّ؛ وهو ما يعدُّ رقماً كبيراً، كما وتشكّل الرسائل التسويقية جزءاً لا يتجزأ من هذه الرسائل؛ إلا أن معدل تجاوب المستقبِل مع هذه الرسائل لا يتعدى 1.5%. مما يعني أنّك عندما ترسل رسالة إلكترونية ل10,000 فرد، يستجيب ما معدله 150 منهم لرسالتك، وقد تكيّف المسوقون مع هذه الحقيقة بطريقةٍ أو بأُخرى. 

ولكن حتى يصِل المسوِّق لِمسار المبيعات التي يهدف له، يتعين أن يزيد معدل استجابة المستهلكين للرسائل الإلكترونية عن 150؛ لذلك يضطر إلى اتخاذ إجراءاتٍ توازن بين كفتي الميزان هاتين، أي أنه يقوم بإرسال عدد أكبر من رسائل البريد الإلكتروني بهدف زيادة فرصة تفاعل المستهلكين المحتملين مع المحتوى المُرسَل عبر البريد الإلكتروني. 

ولكن زيادة عدد رسائل البريد الإلكتروني تؤدي إلى زيادة الطلب على انتباه المستهلك على المدى القصير ونقص الانتباه الذي يمكن للمستهلك تخصيصه للمحتوى التسويقي على المدى الطويل؛ مما يعني أنّ المسوّق يدور في حلقة مُفرغة وينتهي به المطاف مُتَّبِعا نسقاً دائرياً يُعرف بدائرة موارد الانتباه. 

إنّ العدد الكبير للرسائل التسويقية المتنافسة والمدى القصير لانتباه المستهلك لَفي تزايد مستمر، ولن يتقلص قريباً. فإرسال مزيد من الرسائل الإلكترونية يؤدي إلى تفاقم المشكلة بدلاً من حلها. ولكن هل يتمثل الحل بالتزام الصمت التسويقي وعدم إرسال أية رسائل من الآن فصاعداً؟ من المؤكد أن الإجابة هي لا؛ وذلك لأن المسوّق يحتاج بداية إلى جذب انتباه المستهلك ليشرع في زيادة مبيعاته على طول مسار المبيعات بأكمله،  ويتمثل الحل النهائي في الكيفية التي يحاول فيها المسوّق جذب انتباه المستهلك.

التغلب على نظرة انتباه المستهلك

من المهم في عصرنا هذا أن يبحث المسوق عن طرق جديدة للتنافس المبني على الاستفادة المطلقة من كل عملية تواصل مع الجمهور، ويمكن تحقيق ذلك عبر تصميم عمليات تواصل ذات تأثير عميق على الجمهور؛ بحيث يؤدي إلى جذب انتباه الجمهور واهتمامه الخالص بالمنتج أو الخدمة التي يقدمها المسوّق، مما يعني أنه يتوجب على المسوّق أن يتجنب الرسائل التي تحتوى خانة موضوعها على مصطلح “رداً على…” أو “رسالة إعلانية مرسلة لعدد كبير من الأفراد”، فضلاً عن تلك المكتوبة بلهجة هجومية أو بأسلوب فكاهي مبتذل.

حيث تتبع الرسائل التسويقية المثالية التي تجذب انتباه المستهلك المعادلة التالية:

جذب انتباه المستهلك+ الاحتفاظ بانتباه المستهلك+ إضافة طابع شخصي مخصص لكل زبون+ حث المستقبِل على شراء المنتج أو طلب الخدمة= تواصل فعّال يزيد من المبيعات.

الاقتصاد

وأدى القصور في حجم انتباه المستهلك والطلب المتزايد عليه إلى معاناة المسوِّقين من صعوبة بالغة في الإيفاء بالعنصر الأول من المعادلة “جذب انتباه المستهلك“. 

يكمن الحل في اسم المستهلك

ولّى الزمن الذي اعتمد فيه المسوّق على آليات التسويق الجماعي، حيث أعمل شخصياً في مجال تسويق المحتوى، ومن المؤكد أنّ بعضكم يعملون في هذا المجال كذلك؛ إلا أنّه من المرجح أن وظيفتك تختلف عن وظيفتي في بعض الجوانب، والأهم من ذلك أنّك تختلف عني بشكل جذري من الناحية الشخصية؛ فلِم يؤمن المسوّقون أنّ الإعلان الذي يجذب انتباهك قد يجذب انتباهي كذلك؟ 

يرتكز التسويق بشكلٍ جوهري في عصرنا هذا على التسويق الشخصي؛ لذلك يتوجب أن يعاملنا المسوقون بشكل فردي تبعاً لتباين شخصياتنا، وذلك يغير من العنصرين الأول والثاني من المعادلة السابقة بحيث تكون كالتالي: 

جذب انتباه المستهلك باستخدام أساليب موحدة تتحايل على المستهلكين ككل+ الاحتفاظ بانتباه المستهلك عبر تخصيص المحتوى ليناسبه شخصياّ دوناً عن غيره من المستهلكين+ إضافة طابع شخصي مخصص لكل زبون+ حث المستقبِل على شراء المنتج أو طلب الخدمة= تواصل فعّال يزيد من المبيعات.

التسويق الشخصي

تمّ استخدام أساليب التسويق الشخصي لأول مرة في رسائل البريد الإلكتروني، حيث كان من الشائع في تلك الفترة أن تذكر اسم المستقبِل بعد تحيته مباشرةً؛ فكُنا في تلك الفترة نرى أسماءنا في مطلع الرسالة الإلكترونية. ويعود سبب نجاح هذا الأسلوب إلى أنّ البشر يتوقون إلى الشعور برابطٍ شخصي عند التواصل والتقدير المخصص لهم، ولا يزال الإيميل ذو الطابع الشخصي أنجع من الإيميل ذو الطابع العام في عصرنا هذا. فوفقاً لشركة آبردين للتسويق، تشهد الإيميلات ذات الطابع الشخصي معدل تجاوب أعلى ب 14% من الإيميلات ذات الطابع العام، فعندما يستقبل الفرد إيميلاً ذو طابع شخصي يهدف إلى تحويل تصنيفه من زائر إلى زبون، يبدو أنّ مشاعر الدفء النفسي تنساب داخله وتشجعه على تعبئة بياناته؛ حيث تنجح هذه العملية بمعدل 10% مقارنةً بالإيميل ذو الطابع العام. 

إلا أنّ إضافة الطابع الشخصي على رسائل البريد الإلكتروني لا تقتصر على إضافة اسمه فحسب، أو على تزويده بمعلومةٍ خاصة تبعاً لِمسماه الوظيفي، ولا على تخصيص صفحة الويب تبعاً لمجال عمله. حيث يشهد عصرنا هذا توجهاً حديثاً نحو إضفاء طابع شخصي على المحتوى التسويقي والتخصيص الفائق له. وما نعنيه بذلك أنّ يتم تخصيص المحتوى التسويقي بحيث يناسب كل زبون على حدة وعلى نطاق واسع، بحيث يجذبهم ذلك إلى المنتج أو الخدمة التي تسوقها لهم. وهنا ستبدأ تشعر بأن خبرتك الواسعة في علامتك التجارية باتت ذات تأثير على معرفتك بِآفاقك المستقبلية، وعلى بناء علاقة شخصية من كل زبون من زبائنك. فيعتمد مستقبل الاقتصاد والتسويق على قدرة المسوّق على إنشاء روابط شخصية مع زبائنه، فضلاً عن التمسك بالانتباه الذي يعيرونه لِمحتواك التسويقي. 

 

نرشح لك: استقلال علم الاقتصاد: قراءة في كتاب مبادئ الاقتصاد

إعلان

مصدر المصدر
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

ترجمة: راما ياسين المقوسي

اترك تعليقا