الإله أودين وبالدير وهيمدول (مقالات مترجمة)

مقدمة المترجم:

الديانة الإسكندنافية القديمة، والمعروفة أيضًا باسم الوثنية الإسكندنافية، هي فرع من الديانة الجرمانية التي تطورت خلال فترة الإسكندنافية البدائية، عندما انقسمت الشعوب الجرمانية الشمالية إلى فرع متميز من الشعوب الجرمانية. لقد استُبدِلَت بها المسيحية ونسيت في أثناء تنصير الدول الإسكندنافية. تقوم هذه الديانة على عبادة كثير من الآلهة التي سنسعى إلى استعراض قصصها في هذا المقال وغيره من المقالات، وبخصوص هذا المقال سنسعى إلى استعراض قصص أودين وبالدير وهيمدول. يُعَدّ أودين أب الآلهة النوردية، وإلهًا ذا شخصية معقدة جدًا وذات سمات متناقضة. وأما بالدير فهو الإله المحبوب في الديانة النوردية، الذي تُعَدّ وفاته مؤشرًا على بداية الراغناروك (نهاية العالم لدى النورديين). وأما هيمدول، فمقارنة ببقية الآلهة فلم يستمر تأثيره لهذا اليوم في الثقافة الشعبية مثله مثل أودين أو بالدير، على الرغم من محورية دوره في الراغناروك.

أولًا: أودين

أودين (يلفظ باللغة الإنجليزية “OH-din”، وباللغة النوردية القديمة “Óðinn”، وباللغة الإنجليزية والساكسونية القديمتين “Woden”، وباللغة الألمانية القديمة “Wuotan” أو “Wotan” أو “Wodan”، وباللغة الجرمانية البدائية “Woðanaz” الذي يعني “سيد النشوة”). يُعَدّ أودين إلهًا ذا شخصية معقدة ومبهمة في الميثولوجيا النوردية، وربما في العالم الأدبي بأسره. هو ملك «الأيسير- Aesir» قبيلة من الآلهة، إلا أنه يغامر وحيدًا وبعيدًا عن مملكتهم، يجول لتحقيق مصالحه، هو باحث عن الحكمة وواهب لها، لكنه لا يأبه بالقيم الجماعية مثل: العدالة، والإنصاف، وطاعة القانون، والعقود. يُعَدّ أودين راعي الحكَّام والخارجين عن القانون. هو إله الحرب، ولكنه إله الشِّعر في الوقت نفسه، وله صفات أنثوية، لو كانت لدى أي مقاتل فايكنج عادي لجلبت له العار. يعبده من له مكانة وشرف ومن النبلاء، إلا إنه يُعرَف بكونه مخادعًا. أي شخصية امتد أثرها وصداها عبر القرون، يمكن أن يكون لها هذه السمات المتناقضة بوضوح؟

معنى الاسم

كما ذكرنا أعلاه، يمكن أن نترجم اسم أودين إلى سيد النشوة، وأما اسمه في اللغة النوردية القديمة فيمكن أن يقسَّم إلى جزأين: “óðr” الذي يعني الشهوة أو الإلهام أو الغضب، والإضافة “inn” وهي إضافة تُستخدَم مع المذكر، وحينما تضاف مع كلمة أخرى ستعني السيد أو المثال الكامل، وأكد المؤرخ الألماني في القرن الحادي عشر أن اسم أودين يمكن أن يُترجَم إلى “الحانق”(1)، وأما اسم “óðr” فله مدلولات عدة تعكس شخصية أودين، فذُكِرَ في إحدى الملاحم أنه: “حينما جلس أودين مع أصدقائه أسعد نفوسهم، ولكن حينما حلَّت الحرب أرعب نفوسهم بقتامته”(2).

هذه النشوة التي يجسِّدها أودين ويضفيها هي العامل الموحد وراء مجالات الحياة التي تُعَدّ ولا تحصى والتي يرتبط بها، وهي: الحرب، والحكم، والحكمة، والسحر، والشامانية، والشعر، والموت.

الحرب

رسمت الثقافة الشعبية الحديثة صورة عن أودين بوصفه حاكمًا سيئًا ومحاربًا (بل حتى بوصفه مفتول العضلات)، ولكنه بالنسبة إلى الميثولوجيا النوردية القديمة لم يكن كذلك. إذ كانت الحرب النبيلة ترتبط بالإلهين وهما «ثور-thur» و«تير-tyr»، بل كان يحث الناس على الانغماس فيما يراه المعاصرون أفراحًا خبيثة(3)، رؤيته ليست ببعيدة عن مقولة نيتشه الشهيرة: “أتقول إن القضية الصالحة هي التي تبرِّر الحرب؟ أما أنا فأقول لك: إن الحرب الصالحة هي التي تبرِّر أي قضية(4).
لارتباطه بأمور الحكم كما سنذكر لاحقًا، فأودين لا يهتم بالمحاربين الاعتياديين، بل يبارك فقط من يعده من نخبتهم، إذ تمتع عديد من المحاربين الجرمانيين برعاية أودين مثل «ستاركاد-Starkaðr» وعائلة «فولسونغ-Volsung».
ولأودين صلة قوية بـالمحاربين «البرسركرين-berserkers» والمحاربين “الشامانيين” الذين تتمحور تقنيات قتالهم للوصول لنشوة الوحدة مع حيوانات الطوطم الشرسة مثل الذئاب أو الدببة، وبالتالي فإن أودين سيد هذه الحيوانات.
وبالتالي، فبوصفه إله حرب لا يهتم أودين ﻻ بالقتال ولا بنتائجه، وإنما بشعور النشوة التي تتجلى في أثناء القتال (إحدى تجليات أودين).

الحاكم

إن تفضيل أودين للنخبة يمتد لكل المجتمعات في جميع العوالم، فهو النموذج الإلهي للحاكم بين آلهة الأيسير، وهو المؤسِّس لعدة عوائل ملكية(5)، ولا يمكن أن يحظى أي ملك برعايته إلا إذا كان محاربًا شامانيًا.
إن للشعوب الجرمانية ثلاث طبقات اجتماعية وسياسية مثلهم مثل بقية الشعوب الهندو-أوروبية القديمة: تتكون الطبقة الاجتماعية الأولى من الحاكمين، والثانية من المحاربين، والثالثة من الفلاحين، وتهتم البقية بعملية الإنتاج. ويمكن أن نطبق هذا التقسيم على الآلهة، إذ يمثِّل أودين وتير الطبقة الحاكمة(6)، ويختلف  أودين عن تير، بأن تير يهتم بالقانون والعدالة، بينما يهتم أودين بالخداع والسحر، لهذا فإن تير حاكم منضبط وفاضل، بينما أودين حاكم مخادع وصعب الفهم(7)، وعلى العكس من تير يحب أودين الخارجين عن القانون ويفضلهم، وكذلك من يُطرَدون من المجتمع لارتكابهم جرائم فظيعة. ويوجد عدة محاربين مشابهين لأودين بعض الشيء، مثل «ایجيل سکالاكریمسون- Egill Skallagrímsson» الذي كتبت عنه (ملحمة ايجيل)، والذي يُعَدّ محاربًا قويًا وشاعرًا ولكنه يحترم القواعد اﻻجتماعية، والشيء نفسه ينطبق على «غريتر اسماوندرسون- Grettir Ásmundarson» الذي كتبت عنه “ملحمة غريتر القوي”. وذكر أحد المؤرخين الدنماركيين “ساكسو جرامتيكوس- Saxo Grammaticus” قصة عن أودين بأنه طُرِد لعشر سنوات من «أسغارد-Asgard»  من أجل أﻻ تُشَوَّه سمعتهم بسبب أفعال أودين(8).
ومهما يكن فلن يفضِّل أودين أي رجل أو امرأة إلا  بسبب ذكائه وإبداعه وكفاءته في حرب الكل ضد الكل، وأما مسألة  ما إذا كان أي شخص سيصبح ملكًا أو مجرمًا فهي مسألة حظ فقط، لا علاقة لأودين بها.

الساحر والحكيم والشاماني

يكمن الفرق الأساسي بين اللاهوت التوحيدي والتعددي بأن إله الديانات التوحيدية هو كلي المعرفة والقوة والحب… إلخ. وأما آلهة الديانات التعددية فهي لا تمتلك هذه الصفات، فهم مثل البشر، أو الأشجار، أو الصقور محدودي القدرة. وبالنسبة إلى أودين فإنه ﻻ يتجاوز حدوده إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، وتقود تصرفاته وسعيه للوصول لمعرفة وحكمة وقوة أفضل، حتى إذ لجأ للسحر.
ومن خير الأدلة على ذلك، تضحيته بإحدى عينيه، إذ تخلو أحد محاجر عينيه، وذلك لأنه ضحى بعينه بحثًا عن الحكمة.
وفي إحدى القصص ضحى أودين بنفسه حينما شنق نفسه بشجرة «الأغدرأصيلة-Ygddrasil» لتسعة أيام وليالٍ، ولم يسعَ أي من رفاقه لبعثه في هذه الأيام. وفي نهاية هذه المحنة، أدرك أعظم أسرار الوجود تلك المدونة على أحجار تحتوي على كلمات بالأبجدية الجرمانية القديمة المشحونة بالسحر. وقد وُصِفَ بأنه تفاخر بذلك قائلًا:
“حينها تعاظمت حكمتي وتخصبت، وقادتني كلمة من كلمة إلى كلمة أخرى، وقادني عمل من عمل إلى عملٍ آخر”(9).
إن هذه الرغبة التنافسية، قادت أودين لمنافسة أحد العمالقة في إحدى المرات، لمعرفة من لديه معرفة وعلم أكثر. كانت جائزة هذه المسابقة رأس الخسران، وانتصر أودين في هذه المنافسة، حينما سأل العملاق سؤالًا لا يعرف جوابه إلا هو، وحصل أودين على جائزته وعاد ﻷسغارد(10).
ويُعَدّ أودين إلى جانب الإلهة «فريا-Freya» أفضل الشامانيين بين الآلهة. إن مغامراته الشامانية موثقة جيدًا، إذ احتوت «يونغلينا-Ynglinga» على مغامراته حيث “كان يسافر لأراضٍ بعيدة لمهامه أو لنفسه، ويبدو للآخرين أنه نائم أو ميت(11)، ومن بين أسفاره الأخرى سفره المذكور في «قصائد الإيدا-Eddic Poem» تحديدًا في قصيدة«حلم بالدير-Baldur’s Dream» حينما ركب «سلبنير-Sleipnir» حصانًا ذا ثمانية أرجل يشبه الحصان الشاماني الأوراسي الأسطوري(12)، وبهذه الرحلة سافر أودين إلى العالم السفلي لاستشارة سيدة شامانية ميتة تدعى «سيريس-Seeress» نيابة عن ولده(13).
ومثله مثل جميع الشامانيين في كل العالم(14)، يرتحل أودين مع أرواح، فهو يرتحل مع غُرابيه «هوغين-Hugin» و«مونين-Munin» ومع الذئبين «جيري-Geri» و«فيريكي-Freki» و«محاربات الفالكيري-Valkyries».
وبالنسبة إلى الشامنيين، يخضع معظم الشامانيين لموت وبعث في حياتهم من أجل الحصول على قواهم(15)، ومر أودين بالتجربة نفسها كما ذكرنا سابقًا حينما اكتشف الرموز.
وذكرنا سابقًا نوعين من المحاربين البرسركيين والشامانيين الذين حظوا برعاية أودين، كان كل من شكلي السحر يسمح للرجال بممارسته.
ومن الأشكال الأخرى للشامانية هو ما تضمنه التقليد السحري المعروف باسم «سيدر-Sedir»، الذي يُعَدّ كلًا من أودين وفريا من أشهر الآلهة التي مارسته.
في المجتمع الألماني التقليدي، ومن أجل أن يمارس الرجل دوره في هذا التقليد، عليه أن ينسى دوره بوصفه ذكرًا، لهذا السبب فإن لممارسة أي رجل لهذا النوع من الشامانية عواقب سلبية تتمثل في إزدراء الأشخاص له. ولكن كما بيَّنت الملاحم، فإن هذه المسألة لم تمنع الرجال من ممارسة السيدر. ولكن لم يدرئ ذلك عن أودين تهمة “انعدام الرجولة”. وسخر منه الأشخاص لاكتسابه سمات أنثوية وقيامه بأعمالهن التي تشكل جزءًا محوريًا من ممارسات السيدر. وبيَّن المؤرخ ساكسو في المقطع الذي تحدَّث فيه عن نفي أودين الذي ذكرناه سابقًا، بأنه بقيام أودين بأعمال النساء فقد جلب أشنع الفضائح للآلهة(16). وذكرنا سابقًا مسألة التخصيب في المقطع الشِّعري لأودين، على الرغم من كونها استعارة مجازية، فإنها استعارة تتضمن انعكاسات جنسية يمكن لأي قارئٍ أو مستمعٍ إلى الشِّعر في عصر الفايكنج أو العصور الوسطى أن يدركها. ومهما يكن فإن ممارسة أودين لهذا النوع من الشامانية منحته دورًا غير رجولي بأعين أي من كان يسكن شمال أوروبا قبل المسيحية، وجعلته يبتعد عن تحقيق الدور الذي يُلقَى على عاتق الرجال الشرفاء. ولكن، كما بينا سابقًا، فإن أودين لا يأبه بالشرف، ولا يمتنع عن أداء أي نشاط يحقق له النشوة حتى وإن جلب له سوء السمعة.

الشِّعر

لا يتكلم أودين بأي لغة إلا اللغة الشعرية(17)، ويُعَدّ الشِّعر هبة يمنحها أودين لمن يشاء. سرق أودين «خمر الشِّعر-Mead of Poetry» من العمالقة، ذاك الخمر الذي يمنح الأشخاص القدرة على الحديث والكتابة بأسلوب جميل ومقنع. ولم يمنح أودين هذه الهبة إلا للآلهة أو الأشخاص الذين يعدهم مستحقين لذلك. سُمِّيَ الخمر في اللغة النوردية القديمة باسم “The Stirrer of Óðr”، وكما ذكرنا سابقًا تعني “óðr” (النشوة، الإلهام، الغضب)، وهي جذور اسم أودين كذلك. إن هذا الخمر والقوى التي تمنحها، تُعَدّ تجسيدًا آخر لنشوته الفائضة.

الموتى

حينما تحدَّث الرومان عن آلهة بقية الشعوب سعوا للتعريف عنهم بآلهة من دينهم، فحينما تحدثوا عن أودين وصفوه بأنه الإله ميركوري مرشد الأرواح (الذي يرشد الموتى من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وحينما يحين الوقت، من عالم الأموات إلى عالم الأحياء)(18). تُعَدّ هذه المسألة مهمة، وذلك لأن أودين ارتبط بالموت أكثر من ارتباطه بالحرب، ولو كان كذلك لوصفه الرومان بكونه مارس (الوصف الذي يلائم تير وثور).
يرأس أودين «فالهالا-Valhalla» جنة الخلود التي يحارب فيها الموتى، تلك الجنة التي ينقل أودين وأرواحه المساعدة الفالكيري نصف من يُقتَل في الحرب إليها، وتأخذ فريا النصف الآخر. وكان أودين هو الذي يتلقى القرابين البشرية خاصة من العوائل الملكية أو النبيلة ومن جنود الأعداء. تلك التضحيات التي كانت تحصل بواسطة الحربة أو الخناقة أو كليهما بالطريقة نفسها التي ضحى بها أودين بنفسه من أجل نفسه (باللغة النوردية القديمة gefinn Óðni, sjálfr sjálfum mér)، وذلك بغية الحصول على المعرفة من الأحجار. ومن الطرائق التي كانت يحبها أودين للتضحية بالأعداء كانت بواسطة رمي الحربة على العدو ثم الصراخ بـ: “إن أودين يملككم جميعًا” باللغة النوردية القديمة “Óðinn á yðr alla”، كما أشير إلى إتقانه لاستحضار الموتى(19)، وهو الفن السحري للتواصل مع الموتى وإحيائهم بصورة متكررة(20).
وتوجد أسباب متعددة لحفاظ أودين على صلته مع الموتى، من بينها رغبته في الحصول على المعرفة والحكمة التي يملكونها، وكذلك رغبته الملحة في الحصول على أفضل المحاربين ليساعدوه حينما يواجه الذئب “«فينرير-fenrir» في «الراغناروك-Ragnarok»، حتى مع معرفته المسبقة بموته في هذا القتال.

أب الآلهة

وإن واحدة من بين أسماء أودين “أب الآلهة” باللغة النوردية القديمة ” The Allfather”، ذلك لأنه وفقًا لـ «سنوري ستورلسون-Snorri Sturluson» هو أب كل الآلهة”(21)، وهو الأصل المقدس لكثير من العوائل في شمال أوروبا. وهو إله من الأيسر ومن «لفانير-Vanir». إن «أودر-Odr» (إله من الفانير ما هو إلا امتداد لأودين)، وعملاق (ووالدته «بيستلا-Bestla» واحدة من أوائل عمالقة الصقيع)، وكما توجد قصيدة تربط أودين بـ«أوند- önd»  نفس الحياة(22).
ما الذي يمكننا أن نستشفه مما ذُكِرَ؟ بالطريقة نفسها التي يستشعر بها الفايكنج وجود ثور برعده، يشعر الفايكنج بوجود أودين بواسطة “óðr” بالغضب والإلهام والنشوة التي لم تكن ظاهرة سيئة بل مقدسة وإلهية لها تجليات ومظاهر عديدة في حياة الفايكنج، ولهذا السبب ربما هو شيخ الآلهة، ظهر في هذا العالم بوصفه حاكمًا يشبه الملك بالنسبة إلى العامة.
يرى الفايكنج آلهتهم بوصفها قوى حيوية تحافظ على الكون، يَعُدّ أب الآلهة أودين القوى الحيوية أو “نفس الحياة” شيئًا يشبه ما وصفه نيتشه “إرادة القوة”، ولهذا السبب أدى أودين دورًا محوريًا في خلق الكون مقارنة ببقية الآلهة. فمن دون النشوة والسحر والبصيرة والصفاء التي تخلق الحياة، لما وجدت حياة ذات معنى.

ثانيًا: بالدير

يُكتَب باللغة الإنجليزية (Baldur) ويلفظ بالدير “Balder”، ويلفظ باللغة النرودية القديمة “بالدر”، ويلفظ باللغة الإنجليزية القديمة واللغة الألمانية العليا بــ “بالدر”. هو أحد آلهة مجمع «الأيسير- Aesir»، هو ابن للإله «أودين-Odin» والإلهة «فريج-Frigg»، وزوج إلهة غامضة «نانا-Nanna»، وأب الإله «فروستي-Forseti»، ويُعَدّ بالدير محبوب الإله والإلهات وجميع الكائنات(1)، ويُعَدّ وسيمًا وكريمًا ومبهجًا لدرجة أنه  يشع نورًا. أصل اسمه ليس واضحًا وكان محل خلاف عميق بين الباحثين، فرأى بعضهم أن أصل الاسم يعود للغة الهندو-أوروبية (behl) “أبيض”، وبعضهم الآخر رأى أن أصل الاسم يعود إلى اللغة النوردية القديمة “bál” التي تعني النار أو كلمة الرب في بعض من اللغات الألمانية. وأنا أرى أن أدق أصل لهذه التسمية كلمة “baldr” في اللغة النوردية القديمة التي تعني “جريء أو جسور”(2)(3). وقد رفض العديد من الأكاديميين هذا الأصل، لأنها تدل على شخصية حربية تختلف عن شخصية بالدير، ولكننا نعلم بأن الإله بالدير ليس مسالمًا ولا بريئًا كما صوَّرته لنا آداب الميثولوجيا النوردية التي تضمنت العديد من القصص المحتوية على وصف لسمات الآلهة وقصصهم.
تاريخيًا تُعَدّ «بروس أيدا-prose Edda» التي كتبها «سنوري ستورلسون-Snorri Sturluson» أقدم مصدر أكاديمي من أيسلندا، وكُتِبَت في العصور الوسطى وتتضمن قصة متكاملة عن بالدير، أي قصة وفاته وبعثه، التي يمكننا أن نلخصها في الآتي:
“حينما ساورت بالدير رؤى عن وفاته، جالت والدته العالم وطلبت من كل شخص وشيء أن يقسموا ألا يأذوا ابنها، ولأن  الآلهة  آمنت بأن بالدير حصين، رموا عليه كل أشكال وأنواع الأسلحة، لكنها لم تؤذه، ولأن لوكي إله مخادع، بحث عن أي طريقة لإيذاء بالدير، لذا سأل فريج عما إذا قد نسيت أن تطلب من أي شيء أن يؤدي قسمه، فسألها لوكي إذا ما طلبت من نبتة الهدال أن تؤدي قسمها، فأكدت أنها لم تطلب منها ذلك، لأن هذه النبتة غير مؤذية وصغيرة، استغل لوكي الفرصة وصنع سهمًا من هذه النبتة، ومنحه للإله «هودر-Hodr» ليرميه على بالدير، اخترق السهم بالدير وأرداه قتيلًا”.

وانتحب الجميع لموت ابن أودين إلا مخلوقًا واحد، العملاقة «شكر- »(4) التي يرى العديد بأن لوكي تخفى بمظهرها، ورفضت هذه العملاقة أن تقوم بأي تصرف يضمن بعث بالدير من الموت، ولهذا هلك بالدير في عالم الإلهة«هيل- Hel(5).

في الحقيقة تعود أغلب هذه المعلومات لمصدر واحد، وفيما عدا هذا المصدر توجد أبيات شعرية نوردية متناثرة، كما توجد أجزاء من القصة على قطع مجوهرات تعود لعصر ما قبل الفايكنج(6)، ويمكننا القول إن القصة التي رواها «سنوري-Snorri» في مخططه عن بالدير هي قصة أصلية وقديمة جدًا،
ولكن توجد مشكلة في قصة سنوري تتمثل في أنه أهمل جانبًا مهمًا من شخصية بالدير سهوًا أو لغرض تصويره بمظهر الشهيد، ويتمثل هذا الجانب  في جانب المحارب، وذُكِرَ هذا الجانب في كتابات المؤرخ الدنماركي «ساكسو غرامتيكوس-Saxo Grammaticus، الذي على الرغم من كون كتاباته غامضة وملطفة، فإنه ذكر أن لبالدير ميولًا قتالية، بل صوَّره في صورة أمير حرب، وعندما نقرن ذلك بالعديد من الكنايات التي تربط اسم بالدر بالأسلحة والحرب عمومًا، فإن هذا يلمح إلى أن بالدير كان مقاتلًا بدرجة أكبر من كونه مسالمًا ومعاني كما صوره سنوري(7).
وفيما عدا هذه المصادر لا نجد إلا مصادر شحيحة عن بالدير، من بينها قصة أنكلو-سكسونية (ذُكِرَ فيها باسم “Bældæg” الذي يعني اليوم اللامع، وسُمِّي باسم «ودين-Woden» الاسم الإنجليزي القديم لأودين)(8)، كما ذُكِرَ في «رُقى ميرسبورج-Merseburg charm» الألمانية، التي تعود لمخطوطة من القرن التاسع أو العاشر بعد الميلاد.
وما نعرفه عن بالدير في حقيقة الأمر قليل، وذلك لكون المصادر ما قبل المسيحية قليلة ومبعثرة، لكن ما نوقنه في حقيقة الأمر أنه كان إلهًا محبوبًا لدى الفايكنج وربما لدى الألمان أيضًا.

ثالثًا: هيمدول

هيمدول (يلفظ باللغة الإنجليزية بـ«هيمدول-Hame-doll»، وباللغة النوردية القديمة “heimdallr”، ولا نعرف جذر هذه المفردة في حقيقة الأمر(1)). يُعَدّ أحد الآلهة «الأيسير-Aesir» ويوصف بأنه الحارس اليقظ لإلهة «أسكارد-Asgard»، سُمِّيَ مسكنه باسم “Himinbjörg” الذي يعني منحدر السماء، الذي يدل على حصن سماوي يقع في قمة «بايفروست- Bifrost» جسر قوس قزح الذي يقود لأسغارد.
لا يحتاج هيمدول إلا إلى قليل من النوم، ونظره يصل إلى مئات الأميال ليلًا ونهارًا، وسمعه قوي لدرجة أن بإمكانه أن يسمع صوت العشب ينمو على الأرض والوبر ينمو على جسد الغنم(2). يصغي هيمدول ويستمع ماسكًا ببوق “Gjallarhorn” الذي يعني البوق المدوي، ذلك البوق الذي سينفث فيه معلنًا بداية «راغناروك-Ragnarok»، في لحظة ستعلم فيها الآلهة أن هلاكها سيحل على يد العمالقة التي ستجتاز جسر قوس قزح ثم ستغزو أسغارد. وستخون الآلهة عدو هيمدول اللدود لوكي، وسيتحالف مع العمالقة. وسيقتل لوكي وهيمدول بعضهما بعضًا، وسيغرقان في البحر.
ويذكر أن العديد من الأبيات في شعر النوردي قد بيَّنت أن هيمدول كان أبو الإنسانية، وربما هو من أسس هيكلية المجتمع النوردي كذلك(3)(4).
ومثله مثل العديد من الآلهة النوردية، يُعَدّ هيمدول ابنًا للإله أودين، ولد من تسعة أمهات(5)، ورأى بعض الأكاديميين أن أمهات هيمدول التسعة هن بنات عملاق البحر «أيغر-Aegi»، ولكن يواجه هذا التفسير مشكلة مفادها أن أسماء أمهات هيمدول لا تشابه أسماء بنات أيغر(6).
وبخصوص المصادر حول الإله هيمدول، تُعَدّ المعلومات شحيحة جدًا لا تعكس القيمة الكبيرة لهذا الإله، فعلى سبيل المثال، يسعى عديد من الأكاديميين للربط بين هيمدول والكبش، إلا أنه لا توجد مصادر كافية تعزز هذه الصلة(7). ومن القصص الأخرى التي ذُكرت في الأشعار النوردية القديمة هي أن ” hljóð ” قد أُخفِيَ تحت شجرة العالم «الإغدراصيلة-Yggdrasil»  وترتبط بشكل أو بآخر بالعين التي ضحى بها أودين. لكلمة “hljóð” عدة معانٍ من بينها: سمع هيمدول، أو بوقه، أو سمع هيمدول المتجسد بصورة مادية بأذنه(8). تكمن المشكلة هنا، في أننا ﻻ نعرف ما إذا ضحى هيمدول بإحدى أذنيه، مثلما ضحى أودين بإحدى عينيه، في الحقيقة لا يمكننا أن نتيقن لشح المعلومات.

ملاحظة: يتكوَّن هذا المقال المترجم من ثلاث مقالات، كل مقال اختص بإلهٍ محدَّد.


مقال يخص الإله أودين:

https://norse-mythology.org/gods-and-creatures/the-aesir-gods-and-goddesses/odin/#:~:text=He’sarelentlessseekerafter,rulersandalsoofoutlaws.
مقال يخص الإله بالدير:
https://norse-porch.org/gods-and-creatures/the-aesir-gods-and-goddesses/baldur/
مقال يخص الإله هيمدول:
https://norse-mythology.org/gods-and-creatures/the-aesir-gods-and-goddesses/heimdall/#:~:text=Takentogethercertainversesin,deitiesasonofOdin.


قائمة مصادر مقال أودين

إعلان

[1] Adam of Bremen. c. 1080. History of the Archbishops of Hamburg-Bremen. Translated by Francis Joseph Tschan. p. 207.
[2] Snorri Sturluson. Ynglinga Saga 6. In Heimskringla: eða Sögur Noregs Konunga.
[3] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 50-52 and references therein.
[4] Nietzsche, Friedrich. 1954. Thus Spoke Zarathustra: a Book for All and None. In The Portable Nietzsche. Edited and translated by Walter Kaufmann. p. 159.
[5] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 56, 70.
[6] Dumézil, Georges. 1988. Mitra-Varuna: An Essay on Two Indo-European Representations of Sovereignty. Translated by Derek Coltman.
[7] Dumézil, Georges. 1973. Gods of the Ancient Northmen. Edited by Einar Haugen. p. 46.
[8] Saxo Grammaticus. The History of the Danes.
[9] The Poetic Edda. Hávamál 138-141. My translation. The original Old Norse of verse 141 reads:
Þá nam ek frævask
ok fróðr vera
ok vaxa ok vel hafask,
orð mér af orði
orðs leitaði,
verk mér af verki
verks leitaði.
[10] The Poetic Edda. Vafþrúðnismál.
[11] Snorri Sturluson. Ynglinga Saga 7. In Heimskringla: eða Sögur Noregs Konunga.
[12] Eliade, Mircea. 1964. Shamanism: Archaic Techniques of Ecstasy. Translated by Willard R. Trask. p. 380.
[13] The Poetic Edda. Baldrs Draumar.
[14] Eliade, Mircea. 1964. Shamanism: Archaic Techniques of Ecstasy. Translated by Willard R. Trask. p. 6.
[15] Ibid. p. 14.
[16] Saxo Grammaticus. The History of the Danes.
[17] Snorri Sturluson. Ynglinga Saga 6. In Heimskringla: eða Sögur Noregs Konunga.
[18] See, for example, Tacitus’s Germania.
[19] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 42-50.
[20] See, for example, Ynglinga Saga 7 and Hávamál in The Poetic Edda.
[21] Snorri Sturluson. The Prose Edda. Gylfaginning.
[22] The Poetic Edda. Völuspá 18
– قائمة مصادر مقال بالدير:
[1] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 153.
[2] Snorri Sturluson. The Prose Edda. Gylfaginning 27.
[3] The Poetic Edda. Völuspá, stanza 1.
[4] The Poetic Edda. Rígsþula.
[5] The Poetic Edda. Völuspá in skamma.
[6] Simek, Rudolf. 1993. Dictionary of Northern Mythology. Translated by Angela Hall. p. 135-136.
[7] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 151-152.
[8] Ibid. p. 149-150.
– قائمة مصادر مقال هيمدول:
[1] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 153.
[2] Snorri Sturluson. The Prose Edda. Gylfaginning 27.
[3] The Poetic Edda. Völuspá, stanza 1.
[4] The Poetic Edda. Rígsþula.
[5] The Poetic Edda. Völuspá in skamma.
[6] Simek, Rudolf. 1993. Dictionary of Northern Mythology. Translated by Angela Hall. p. 135-136.
[7] Turville-Petre, E.O.G. 1964. Myth and Religion of the North: The Religion of Ancient Scandinavia. p. 151-152.
[8] Ibid. p. 149-150.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد رسول محمد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا