أهمية فوز الكاتب التنزاني عبد الرزاق جورنا بجائزة نوبل للأدب
يمثل الكاتب والبالغ من العمر 73 عامًا قريحة أفريقية ما بعد كولونيالية وذاتية إسلامية
نجح أهل السويد مرة أخرى في مفاجأة الجميع باختيارهم خلسة للفائز بجائزة نوبل للأدب لهذا العام، فقد أعلنوا فوز الكاتب عبد الرزاق جورنا (والذي ولد عام 1948)، وهو الكاتب السادس من القارة الأفريقية الذي يحصل على هذه الجائزة المرموقة. وتأتي هذه الأخبار بما يشتهيه المتهكمون والمغامرون وعشاق القراءة ومتذوقو الأدب الأفريقي. أما دهشة جورنا ذاته لحصوله على الجائزة فيعد من الشواهد على قلة التقدير الذي يحوزه ذلك الأدب الرائع والمبهر في تنوعه القادم من القارة السمراء.
لا شك أن هذا من أجمل لحظات جائزة نوبل السحرية: فبدون سابق إنذار، يتحول كاتب روائي لا يعرفه الكثيرون إلى اسم يتداوله كل منزل، وكتبه التي يصعب الوصول إليها خارج نطاق المملكة المتحدة وشرق أفريقيا، ستطرح في الأسواق بكثافة.
وسوف يحتفى بجورنا باعتباره كاتب تنزاني، مما يلزم الجميع بالقاء الضوء على هويته المتشابكة المركبة. فترجع أصول جورنا إلى زنزيبار، وهي مجموعة من الجزر الذاتية الحكم في المحيط الهندي، اندمجت مع اليابسة بعد استقلالها من البريطانيين خلال ستينيات القرن العشرين، تحت مسمى تانزانيا.
إلا أن العلاقة بين الجزر واليابسة كانت دائمًا مشحونة ثقافيًا وسياسيًا، وقد أقر جورنا أنه انتقل إلى المملكة المتحدة في الستينيات للهروب من إرهاب الدولة الذي كان يمارس ضد العرب في زنزيبار. ومنذ ما لا يزيد عن ستة أشهر، تولت سامية صلوحي حسن رئاسة الجمهورية في تانزانيا، لتصبح أول امرأة وأول زعيم تتولى مثل هذا المنصب من زنزيبار، ليقدم لنا كل من جورنا وحسن فرصة لتأمل تاريخ هذه “الأماكن الصغيرة” التي تم اسكاتها، والتي تعاني من آثار الاستعمار، وإن ظلت عادة خاضعة تحت سلطة القوى الحاكمة أيضًا.
كما ينتمي جورنا أيضًا إلى مجموعة تعرف بكتاب بريطانيا من السود، تتكون من أناس هاجروا إلى المملكة المتحدة من المناطق التي كانت مستعمرة فيما سبق، فيميلون إلى استكشاف موضوعات الهجرة والاندماج. وفي ضوء وصوله إلى المملكة المتحدة دون تأشيرة دخول، فإن كتابات جورنا وتركيزها على الذاكرة واستحالة الوصول إلى شعور بالانتماء، يعد من الاسهامات الهامة في هذا التراث الأدبي.
يمثل الحزن والشعور بالاغتراب الخانق لب أعمال جورنا، فيقول “إن الشعور بالوحدة والغربة أمسى تربة غنية للتأمل مما قادني إلى كتابة الأدب الروائي”، مشيراً إلى تجاربه الخاصة في الهجرة إلى المملكة المتحدة والشعور بالصدمة حيال العنصرية الصريحة التي لاقاها.
وعلى الرغم أن كاتبات مثل ليلى أبو ليلة من السودان، وتشيماماندا نجوزي اديتشي وتيجو كول من نيجيريا، ونوفايوليت بولاوايو من زيمبابوي قد اشتهرن لتركيزهن على تيمات الهجرة، إلا أن الفضل يعود إلى عبد الرزاق جورنا لكونه واحدًا من أوائل الكتاب ممن قاموا بصياغة تجربة الرحلة من أفريقيا إلى الغرب.
كاتب ما بعد كولونيالي
كاد جورنا أن يبلغ الأربعين من العمر عندما نشر أولى رواياته “ذاكرة الرحيل” (1987)، وعلى الرغم أنه كان قد أمضى الكثير من السنوات في المملكة المتحدة، وكان قد حصل على درجة الدكتوراة في الأدب، إلا أنه بدا وكأنها تنبع من موقع من قد ترك لتوه الوطن. فيقول لرازيا إقبال في حوار منذ عامين: “كنت لا أزال في طور الرحيل”.
بل أن الرواية الأولى كانت قد اكتملت قبل عقد من الزمان، ولكن سلسلة دار نشر هاينمان للكتاب الأفريقيين كانت قد رفضت نشرها، وقد أدرك جورنا لاحقًا أن السبب هو صعوبة تصنيف عمله بأنه أفريقي أو بريطاني أو شتات. وبعد مرور عدة أعوام، وصلت روايته الرابعة “جنات عدن” إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، ومنذئذ بدأت أعمال جورنا في الوصول إلى عدد أكبر من القراء وأن تحظى باهتمام نقدي أوسع.
لا تعد أعمال جورنا من الأعمال التي يسهل قراءتها، فكثيرًا ما تكون شخصياتها هائمة، مثقلة بالفقد والخسارة. فهي أبطال روائية تصارع من أجل البقاء على هوامش المجتمع، وفي علاقات حب عابرة للأعراق محكوم عليها بالفشل، وبيئة خانقة من الارتحال، تتخلل جميعها أعماله. فكثيراً ما تظل الأماكن دون أسماء، كما أن النهايات السردية تظل قليلة.
كما أن أعماله تتمتع أيضًا بقدر غني من التناص، في إشارات إلى شبكات من النصوص الأدبية التي تغمر القارىءفيخشى الولوج في بحرها. لذا تعد عبارة الكاتبة فيرجينيا وولف البسيطة المثيرة للذاكرة توصيفًا رائعًا لكتابات جورنا إذ تقول: “إن الذاكرة تدخل إبرتها وتخرجها، إلى أعلى وإلى أسفل، هنا وهناك.” وبينما تعد رواياته عقلانية، إلا أنها تميل أيضًا أن تتمتع بحسية عميقة، فتستحضر ببراعة عوالم اختفت.
لقد تحدثت لجنة جائزة نوبل عن اسهامات جورنا للأدب ما بعد الكولونيالي، واستكشافاته للآثار الخبيثة المترتبة على الاستعمار. وعلى الرغم أن هذا بالطبع حقيقي، إلا أنه من المفيد أكثر أن نتأمل العدسات المتنوعة الفريدة التي يضفيها على الدراسات ما بعد الكولونيالية. فتتخذ أعمال جورنا من المحيط مركزاً باعتباره المكان الذي تأتي منه وعبره قصص التاريخ والهويات والعلاقات والحميميات والسياسة إلى الحياة. فالساحل السواحيلي الهائل، والذي يظل مجهولًا بقدر كبير، إنما يمثل موطن أمزجة هائلة من التراث الأفريقي والأسيوي والعربي، وإنها هذه العوالم التي يرسم جورنا خرائطها في رواياته.
فيقول للأكاديمية تينا شتاينر معترفًا: “إن الاحساس بالانتماء لعالم المحيط الهندي، أو على الأقل ذلك الجزء الذي أعرفه، وهو الجزء الإسلامي منه بشكل كبير، والذي اندمج في ابيستمولوجية إسلامية، حتى عندما تتحدثين عن ثقافات هندية أو هندوسية. إلا أن هذه الأمور الأخرى ترتبط حقيقة بشؤون أكثر تعقيدًا، فتمثل تاريخ عنف، وتاريخ سخرة واستغلال، لأناس جاءوا من أماكن أخرى، وخاصة الساحل الشرقي لأفريقيا الذي جئت أنا منه.” لذا فلا مجال للدهشة أن أعمال جورنا تمثل تحديًا هائلًا وإثارة لأشكال القراءة والتفكير المعتادة حول الأدب ما بعد الكولونيالي.
ومن الاعتبارات الأخرى الهامة الأسلوب الذي يتبعه عبد الرزاق جورنا في سرده لذوات مسلمة قيثارية، فلا يكتب جورنا بالضرورة متفكرًا حول الإسلام بشكل خاص، وإنما في ضوء الإهانات التي يتعرض لها المسلمون حول العالم بلا هوادة، وفي ضوء آثار الحرب على الإرهاب التي تظل تلوح في أفق هذا الفصيل من سكان الأرض، لذا فمن الضروري الإقرار بأن روايات جورنا تمثل للقارئ منفذًا إلى مجموعة كبيرة من الشخوص المسلمة، التي تم تجسيدها بالكثير من العناية والإنسانية والتعقيد.
الفائز الأفريقي
ها هو الفيل يدخل غرفة نوبل هذا العام: ما بين قدر العملاق الأدبي الكيني (نجوجي وا ثيونج أو)، والذي لم يفز مرة أخرى هذا العام، بينما يتم فجأة الاعتراف بأعمال كاتب من شرق أفريقيا آخر. ولعل الأدب الأفريقي في العالم المتحدث بالإنجليزية يسوده كتابات من جنوب أفريقيا ونيجيريا، ومن المؤشرات اليسيرة على ذلك أن كاتبين من جنوب أفريقيا، وهما: (ج.م. كويتسي ونادين جورديمار) قد فازا بجائزة نوبل، إضافة إلى (وول سوينكا) من نايجيريا.
وعلى الرغم من أن نجوجي يكتب كثيرًا بالإنجليزية، إلا أنه مناصر صارم وصريح للحفاظ على اللغات المحلية من الاندثار، وقد قدم الكثير من الأعمال بلغته الأم جيكويو. ومثلما الحال في كينيا، فإن تانزانيا أيضًا بلد حيث تظل الثقافة والأدب والتعليم السواحيلي حيًا حيويًا.
إلا أن سخرية من سخريات القدر تتضح رويداً: يكتب جورنا بالإنجليزية، وإن كانت مطعمة باللغة السواحيلية، وعلى الرغم من أن اللغة السواحيلية هي لغته الأم. فيبدو أن جائزة نوبل اختارت مرة أخرى أن تكافىء صدارة اللغة الإنجليزية وكتاباتها في القارة السمراء، لتزجر متجاهلة ذلك الكاتب الوحيد الذي كافح دون كلل أو ملل ضد مثل هذه الهيمنة. أما إذا كانت الفكرة السائدة حول “الجدارة الأدبية” هي الأمر الوحيد الذي يمثل معيارًا كما عرف عن لجنة جائزة نوبل قولها، فلا شك أنه لا يوجد آخر أكثر استحقاقًا لمثل هذا التقدير والاحترام عن عبد الرزاق جورنا.