آلِهَة الفَلاسِفَة.. إله سبينوزا

الإشكالية التي تُواجِه هذا النوع من الأسئلة هي عن أي إله يقصد سبينوزا؟ هل هو مؤمن أم ملحد؟ هي نوع من التصوُّرات عن الإجابة القادمة المعينة نظرًا لعدم وجود فضاء مختَلِف عن التصوُّرات المطروحة عن الإله في الاجتماع أو في المجتمع المعرفي والثقافي، ولحاجة إلى ضم سبينوزا أو دفعه إلى حيز المؤمنين أو الملحدين للمنفعة الذَّاتيَّة للمؤول، وهذا ليس شكلًا عامًا.

تَمَّ نعت سبينوزا بالمُلحِد وبالمؤمن وبالروحاني وبالمتصوّف.. إلخ، وتَمَّ ضمه أو تحليله باتِّجاهاتٍ مختلفة، منها وحدة الوجود (التي تطوَّرت بين الهندوسيَّة والرواقيَّة والتصوّف الإسلاميّ..) ومنها التصوّف اليهوديّ ” الكابالا” ومنها الإلحاد*.. إلخ.

“بينما اتهم معاصرو سبينوزا بالإلحاد من أجل الطعن في فلسفته (وأحيانًا شخصيته). يصور العديد من القرَّاء العاديين وبعض العلماء في عصرنا سبينوزا على أنه مُلحِدٌ من أجل إحياء ذكرى دوره كمؤسِّسٍ للعلمانيَّة الحديثة”[1].

ولا يمكن تحليل ذلك بدون الحديث عن التصوُّرات ذاتها، والمفاهيم المتعلقة بدلالاتٍ يُظَن ثباتها المطلق.

التصوُّرات

تختلف التصوُّرات عن كل شيءٍ بين الأشخاص، ولما كان التصوُّر عن المطلق مختلفًا بالخصوص لأنه مُفارِق في جميع الأديان بالمعرفة الكُليَّة والقُدرة الكُليَّة أو على الأقل أكثر من الشكل البشريّ معرفيًّا وقدرة، كان التصوُّر عنه مختلفًا على مدار التاريخ، الأديان، الأشخاص، النبوَّات، الآداب، سواء كان إبراهيميًّا أو لا. 

إعلان

يختلف تصوُّر المُطلَق على حسب الهوى، المعارف، التديُّن، النُّبُوَّة، الظروف الاجتماعيَّة، السن، الذَّات ومخيلتها، قدرتها التعبيريَّة والعقليَّة، لذلك كانت صور الإله مختلفة على مدار التاريخ سواء في الصورة الإبراهيميَّة أو غيرها، على حسب الحاجة أحيانًا لاستخدامه، وعلى حسب تسيسه، وعلى حسب الفهم للنص المُقدَّس في هذا الدين أو ذاك، وعلى حسب طرائق التَّفْكِير الفلسفيَّة.. إلخ.

وكان مختلفًا بين الفلاسفة، فهناك تصوُّرات مُخالِفة لِمَا في مدى التصوُّر الإبراهيميّ أو غيره، مثل إيمانويل ليفيناس وسبينوزا، وهو موضوع المقال، وآخرين كُثُر.

اللاَّهُوت 

اللاَّهُوت بطبيعته يقوم على مجتمعٍ حتى لو كان في بدءه يقوم على ذاتٍ فرديَّة. “التصوُّرات الجماعيَّة خارجة عن وعي الأفراد.. فهي لا تنبثق عن أفراد مأخوذين بشكلٍ معزول، ولكن من توافقهم وهذا أمر مختلف. فالتصوُّرات تكون مختلفة وعابرة عندما تكون فرديَّة، في حين أنها مستقرة وصلبة ومتقاسمة عندما تكون جماعيَّة”[2].

ويتم أخذ هذه التصوُّرات التي يعالجها الأشخاص عن طريق اللُّغَة والمرئي والمسموع وعلى مستويات الحداثة أو البدائيَّة بتدرجاتها، العجز أو المتوق له لتحقيقه، فإله المُتسلِّط غير إله العَبْد وإله الإنسان البدائيّ غير إله هذا العصر. فالمعارف والعلم يُستخدَمان لتغذية التصوُّر أو تشويهه عنه. وعلى المستوى اللُّغَويّ فإن إله الشَّاعِر غير إله المُتحدِّث، لأنه أقرب الأشخاص للُّغَة وأقربهم على استخدامها.

فِسْيولوجيَّة التصوُّر

وليس المُطلَق في أغلب التصوُّرات يمكن أن يُحَد بل هو سائل، ولكن سائل بعد حد العظائميَّة والتضخيم لكل ما هو فوق الإنسان. 

التصوُّر للمُطلَق بالخصوص:

1.”إن المقارنة هي التي تسمح لنا بالتَّفْكِير، وهي التي تمنحنا المواضيع المفَكَّر فيها”[3]، والمُطلَق ليس له شبيه مضاد للقياس، فهو حيز باطني يرتبط بأشكاله كثيرة لحُرِّيَّة الفرد، ولا أتحدث هنا عن تديينه أو لا، بل من حيث التصوُّر بأكثر ما تتمزَّق فيه الحدود الفيزيائيَّة والمعرفيَّة.

2.السجون الموروثة في الاجتماع من خلال التصوُّرات القديمة للآن المعرفي الذي نحيا فيه، إن تَمَّ استخدامها كسُّلْطَات أخيرة ونهائيَّة.

3. الحلم بقُدرَة اللُّغَة مع اختلافها وقُدرَة الذَّات على التعبير، وهذا ينقسم إلى الكثير من اللُّغَات ومن دلالة اللُّغَات في الكثير من المجتمعات، فالمجتمع العربيّ كانت اللُّغَة وتاليها المجاز شكل جوهريّ عنده. واللُّغَة ممتدة فهي الكائن المستمر دومًا، بينما مثلًا في الشرق الصيني كانت الطبيعة هي أولى من اللُّغَة، لذلك التصوُّر كان بصريًّا أكثر، وذلك ساعد على المجازات البصريَّة في الآداب. 

4. القُدرة الشخصيَّة للشعوب وتصوُّراتها البصريَّة، الخياليَّة، اللُّغويَّة. القُدرة الشخصيَّة والنوازع للأنبياء والفلاسفة والشُّعراء والفنانين المؤسِّسين. 

5. إن الميتافيزقيا مرتبطة بشكلٍ ما بتسميته الإله أو غيره، بقصص خلق العالَم، الخير والشر، الحياة الآخرة، المعنى، علة الوجود.. إلخ، وفي القديم كانت هذه الأمور جوهريَّة في شكلها البدائي ّبالجميع ليس مثل الآن العالميّ الحاليّ.

إله سبينوزا

تَمَّ طرح العَلاقة بين الله والعالَم في أغلب التصوُّرات في ثلاثة افتراضات مع تفرُّعاتٍ منها كثيرة أو اختلاف صفات.

  1. التوحيد، الله جوهريّ ومتعاليّ. 
  2. الربوبيَّة، الله  متساميّ.
  3. وحدة الوجود، الله متطابق مع العالَم وشكل منها بمتغيراتٍ هو إلَه سبينوزا. 

توجد في أغلبية الأديان وحدة الوجود، فهي عامة توجد في الهندوسيَّة وفي أحيان في الإسلام والمسيحيَّة ولها أكثر من نوع.

يؤمن  سبينوزا بإلَه منطقيّ، مرده التتابع المنطقيّ لا المفارقة خارج المنطق أو الوجود اللاَّهُوتيّ. فلا يوجد مشابهة بينه وبين الإنسان ولو حتى بعيدة أو تمثيل جسديّ أو الصفات المقابلة للزمن أو التعيين..إلخ الإنساني. الذي يتم من بداية الدين حتى إبراهيميته.

ولكن التصوُّر بالثنائيَّة خصوصية الدين أو شموليته، هو الذي دفع سبينوزا بأرضية الجبرية والاختيارية، وهي أن الناس تظن أنها تختار بينما هم خاضعين لأشكالٍ غير معروفة. فوجود الثنائية الشمولية أو الخصوصية تقلل عدد الحقائق المتاحة بينما هو بمشروعه يزوِّد الشكيات.

والتتابع المنطقي هذا لم يؤخذ من متن لاهُوتيّ بل من متنٍ منطقيّ.

صفات الإلَه عند سبينوزا:

الاقتراب الإلحاديّ:

عرَّف الله بالطبيعة، ووضعه ليس داخل العالَم بل هو العالَم، فالفرق الأنطولوجيّ يختلف عن الدين، وهذا الاختلاف الأنطولوجيّ يُزيل عنه صفات معينة، منها التَّشبيه والخَلْق والخيريَّة ويُبقي فقط صفات الطبيعة الأزليَّة واللا نهائيَّة.. إلخ. وهذا التصوُّر مُخالِف تمامًا، “يشبه إلَه الأخلاق النموذج الأصلي لما اعتقده باسكال واستخف به، ليس كإلَه إبراهيم، بل كإلَه الفلاسفة الذي يُعتَبَر بمعزلٍ وخارجٍ عن الواقع التاريخيّ وممارسة الدين. لذلك قد يبدو أن لدينا فصلًا مُنظمًّا بين اللاَّهُوت الطبيعي للأخلاق ودراسة الأديان التاريخيَّة في الأُطْروحة اللاَّهُوتيَّة السياسيَّة”[4].

وهذا الاقتراب يُبيِّن أن سبينوزا ليس مُلحِدًا بالدلالة التي تُقال؟ الله غير موجود بل الاعتبار الإلحاديّ يقوم على التصورُّ الإبراهيميّ للإلَه. والتصوُّر القائم في المذهب المنطوقة منه الكلمة، لأن الأمر يختلف أيضًا بين الأديان الإبراهيميَّة وفي مذاهبها، وهناك أنواع إلحاد أخرى، منها الإلحاد العلميّ الذي ليس له عَلاقة باللاَّهُوت.

الاقتراب من وحدة الوجود:

وضع بعض الافتراضات في مشروعه في كتابه “علم الأخلاق” ما يشبه الشكل الهندسي: “القضية” يتبعها “البرهان”، وسأحاول تبيان نظرته ببعض النقاط الجوهريَّة عن وحدة وجود سبينوزا والتي حاز بعض صفاتها من غير المتن الهندوسيّ أو غيره.

الله هو اللا متناه الوحيد، لأن المتناه هو الذي يُعرَف بتصوُّر شيء آخر، “يقال عن شيءٍ إنه متناه في ذاته عندما يكن حده بشيءٍ آخر من نفس طبيعته”[5]، ونحن نوجد كجزء من الله. وفقًا لمصطلحاته المؤسِّسة لمشروعه الذي يوجد فيه نقدًا كثيرًا، لكنه ليس موضوعنا. الله لديه الكثير من الأحوال:

  1. “لا نهائيَّة”. مثل قوانين الطبيعة. 
  2. “محدودة”. وتشمل هذه الوجود المعين، أي الأفراد والحيوانات والنباتات.. إلخ.

ووضع ما يشبه المعجم الاسبينوزيّ الذي يحوي الدلالات المعرفيَّة التي يستخدمها:

فيقول: “لا يمكن أن يوجد في الطبيعة جوهران أو عِدَّة جواهر من طبيعة أو صفة واحدة[6]”. وهنا يؤسِّس لوجود الله ولا وجود غيره كونه جوهر.

“الله -أعني جوهرًا يتألَّف من عددٍ لا محدود من الصفات المُعبِّرة كل واحدة عن ماهية أزلية ومتناهية_ واجب الوجود”، ونحن من تلك الماهيات[7].

لذلك ليتم النعت يجب أن يتم التعريف بدءًا بإلَه المُتكلِّم أيًّا كان أو الشكل المُنفَى له. وأيًّا كان تأويلك فالجدوى في أفكار سبينوزا ليس في تعيينه مُلحِدًا أو مؤمنًا، بل في أفكاره، لأن تعيينه هو ليس فعلًا معرفيًّا أو ليس مُدرَكًا للتوجيه لشيء، وإن تَمَّ التعيين فهو لا يلزِم معرفيًّا بالتبَنّي أو نبذ أفكاره لهذا السبب. 

المراجع:

  1.  ‘Spinoza’s ‘Atheism’, the Ethics and the TTP
    Yitzhak Melamed
  1. Blanc N. et autres. (2006). Le concept de représentation en psychologie. Paris, In press, p 14
  2.   The mythology, its methods and schools, Bernard sergent،61
  3. THE GOD OF SPINOZA A philosophical study RICHARD MASON
  4. سبينوزا، علم الأخلاق ص31-32
  5. سبينوزا، علم الأخلاق ص34
  6. سبينوزا، علم الأخلاق ص40

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: السعيد عبد الغني

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا