نوبل في الطب 2022 تَذهب إلى رائد مجال أبحاث الحمض النووي القديم: سِڤانته باِبو

مُنحت جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب اليوم لعالِم الوراثة السويدي «سِڤانته باِبو – Svante Pääbo»، تكريمًا له على اِكتشافِهِ الذي يُوَضَح بَعضًا من ملامحِ كلًا من الماضي البعيد والتُراث الجيني للأشخاص الذين يَعِيشونَ اليوم.
كان باِبو، المدير في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية (EVA) بمدينة لايبزيغ الألمانية منذ عام 1997م، رائدًا في مجال «أبحاث الحمض النووي القديم» المُزدهر الآن. فقد كان أول من استعادَ ووَضَعَ التسلسل الجينومي لأجزاء من الحمض النووي القديم لإنسان «النياندرتال – Neanderthal» بنجاح في عام 1997م. وبعد تنقيح أساليبه لتَجنُب تلوث العينات، قام فريقه بوضعِ تسلسُلٍ جينومي كامل لإنسان نياندرتال في عام 2009م، وآخرٍ لـ «الدينوسوفا – Denisovan»، وهو إنسانٌ قديمٌ آخر، في العام الذي يليه. فقد قَدمَ بحثه رؤىً حول التطور الجيني للإنسان الحديث متضمنًا فهمًا أفضل لمخاطر الأمراض.

يقول «يوهانس كراوس – Johannes Krause»، الذي أجرى رسالة الدكتوراه في معمل باِبو وأصبح الآن مُديرًا في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، إن الجينومات القديمة «تَسمح لنا بفهمِ ما يجعلُ البشرَ بشرًا.» وأشار إلى أن مُقارنة السلالات البشرية الحديثة والمُنقرضة أعطت للعلماءِ رؤىً جديدة فيما يَخُص تطور الدماغ والتوحد وإدمان النيكوتين واستجابة الجهاز المناعي لـ COVID-19، وغيرهم من الأمراضِ. ويُضيف كراوس قائلًا:

«من المُحتملِ أن يَستغرق الأمر منا بضعِ سنوات أخرى لمعرفة كل هذه الأمور، ولكنه سيُمَكِنُنا من فهمِ ما يَجعلُنا مُميزين للغاية.»

ويقولُ «كريس سترينجر – Chris Stringer» عالِم الأنثروبولوجيا القديمة في متحف التاريخ الطبيعي بالعاصمة الإنجليزية، لندن، والمُتخصص في كُلِ ما يتعلق بإنسان النياندرتال، أن باِبو سَيكون «أول من يقول إن هذا ليس عمله وحده، بل عَملِ فريقًا من الناس. ولكنه بَنى فريقًا رائعًا.» 

وتُضيف «كريستينا وارينر – Christina Warinner»، وهي باحثة في الحمض النووي القديم في كلًا من جامعة هارفارد ومعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية، قائلة: أن باِبو عَدَلَ نَهجه على طول الطريق، «فبمجرد حصولك على التسلسل الجينومي، عليك أن تَقف للحظة وتسأل: «ماذا يعني هذا؟» هذا يعني اتباعِ نهجٍ جديدٍ باستخدام تقنيةٍ جديدة، وتَعلُمِ مجالٍ جديد بالكاملِ من الأساس.” وصَرحَ باِبو في مؤتمرٍ صحفيٍ بالأمس بأنه عندما سَمِعَ الأخبار لأولِ مرة، اعتقدَ أنها كانت «مُزحة مُتقنة من قِبل مجموعتي البحثية.»

الحمض النووي القديم سِڤانته باِبو
نوبل في الفسيولجيا والطب: فاز والد سِڤانته باِبو، سون بيرجستروم، بالجائزة نفسها عام 1982

بدأ اهتمام باِبو بالحمض النووي القديم مع افتتانه بمصر القديمة في طفولته. وعندما كان طالبًا في جامعة أوبسالا، حَولَ تركيزه من عِلم الآثار إلى الطب، متتَبعًا خطى والده، «سون بيرجستروم – Sune Bergström»، عالم الكيمياء الحيوية، والحائز أيضًا على جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعام 1982م، لعمله على «البروستاغلاندنيات -prostaglandins» والمواد ذات الصلة. وسرعان ما استخدمَ باِبو أدواتِ الطب الجزيئي لينحو بالماضي نحوًا جديدًا.

إعلان

في بحثٍ نُشر عام 1985م في مجلة «نيتشر – Nature» العلمية، أعلنَ باِبو بأنه عَثر على كمياتٍ صغيرة من الحمض النووي في خلايا المومياوات المصرية. وسُرعان ما تم التشكيك في هذا العملِ المُبكر، لأن أصغر شَذرَة من الأنسجة البشرية يُمكنها إِدخال الحمض النووي الحديث إلى عينةٍ قديمة. فسعى باِبو بعد ذلك لتطوير تقنياتٍ تعمل على تقليل التلوثِ أثناء أخذ العينات وتمييز الجزيئات القديمة عن الجزيئات الحديثة.

وبخصوصِ هذا، يقول سترينجر: «كان باِبو يعمل على استعادةِ الحمض النووي من المومياوات في رسالة الدكتوراه الخاصة به، ولكنه فَشِلَ فشلًا ذريعًا، إذ لم يحصل على أي شيء. شخصٌ آخر كان سيقول: «حسنًا، أنا أستسلم، فلا فائدة من هذا،» لكن بابو لم يفعل، واستمرَ في المحاولة.»

في أواخرِ الثمانينيات، دَفعَ تطويرُ تقنية «تفاعل البوليميراز المتسلسل – Polymerase chain reaction» عمل باِبو للأمام، إذ أصبح من الممكن استنساخ أجزاءٍ صغيرة من الحمض النووي عدة مرات. فتواصل باِبو مع متاحف في ألمانيا لطلب عينات من عِظام إنسان نياندرتال، وطَحن كميات صغيرة منها إلى أن أصبحت مسحوقًا وقام بتعيين التسلسل الجينومي للحمض النووي الموجود بها.

كانت لحظة نَشرِ النتائج في مجلة «سيل – Cell» العلمية في عام 1997م، لحظةً فاصلةً، إذ أظهرت أنه يمكن استعادة كمياتٍ كبيرة من الحمض النووي من العِظام التي يبلُغ عمرها 50000 سنة أو أكثر. اعتمدَ العمل الأَوَّلِيّ على الحمض النووي للميتوكوندريا نظرًا لوفرتِه في الخلايا أكثر من الحمض النووي الخاص بالنواة، وبالتالي يمكن حِفظه بكمياتٍ أكبر. وكانت هذه النتائج كافية لإظهارِ أن البشر والنياندرتال كانتا مجموعتان منفصلتان تباعدتا منذ حوالي 500000 عام. في البداية، فُسِّر هذا على أن المجموعتان لم تتزاوجا قط – وهو استنتاجٌ قلبته أبحاثُ الحمض النووي القديم اللاحقة رأسًا على عقب.

في عام 2006م، عَمِلَ باِبو جاهدًا على تعيين التسلسل الجينومي الكامل لإنسان النياندرتال، وساعدته التطورات السريعة في تكنولوجيا سلسلة الحمض النووي جنبًا إلى جنب مع العينات الجديدة: وفي غضونِ بضعِ سنواتٍ، نجح هو وفريقه في وضع التسلسل الجينومي لأكثر من 4 مليارات زوجٍ أساسيِ. وقاموا بنشر مِسودة جينوم إنسان النياندرتال في مجلة «ساينس – Science» العلمية في عام 2010م.

أظهرت مقارنة جينومات كلًا من إنسان النياندرتال والإنسان الحديث أن نسبة 1٪ إلى 4٪ من أسلاف الأوربيبن والآسيويين اليوم ينحدرون من إنسان النياندرتال. فمن الواضح أن البشر المعاصرين تشريحيًا تزاوجوا مع إنسان النياندرتال في طريق انتقالهم من إفريقيا منذ 100000 عام أو أكثر.

يُقرُ سترينجر قائلًا: «لقد كُنتُ أحد الأشخاصِ القائلين بإنه [حتى لو تزاوج البشر المعاصرين وإنسان النياندرتال،] فهذا ليس بالأمر المهم. ولكن … أثبتَ سِڤانته وزملاؤه أننا قد تزاوجنا مع إنسان النياندرتال بالفعل، وأن الحمض النووي لا يزال نشطًا في جينوماتنا. لذلك، فهذه المعلومة ذات أهمية طبية.»

في عام 2008م، استعادَ باِبو وفريقه الحمض النووي من جزءٍ من عِظام إصبع في كهفٍ في سيبيريا، والذي كَشف عن مجموعة أسلاف بشرية لم تكُن معروفة مُسبقًا وتُعرف الآن باسم «دينوسوفا – Denisovans». هنا أيضًا، قَدمت النتائج الجينية رؤىً ثاقبة للمجموعات البشرية الحديثة، وكشفت عن أن التكُيف على العيش على ارتفاعاتٍ شاهقة الموجودة في مجموعات «التبت – Tibetan» الحديثة قد تكون مُستمدة من أسلاف دينوسوفا البعيدين.

في الـ 25 عامًا التي انقضت منذ بحث باِبو عن إنسان النياندرتال عام 1997م، تَوسعَ مجال أبحاث الحمض النووي القديم ليتدخل في كلِ شيءٍ تقريبًا، بِدءًا من المقابر التاريخية إلى النباتات وتطور الحيوانات، مع استخدامه في تطبيقات لم يتوقعها باِبو أبدًا. فتقول «بيث شابيرو – Beth Shapiro»، عالمة الوراثة بجامعة كاليفورنيا – سانتا كروز: «ألهمت رؤى سِڤانته جيلًا كاملًا من العلماءِ ووضعت حجر الأساس لعلم «الجينوميات القديمة – Paleogenomics» كمجالِ بحثٍ دقيق. فقد جمع باِبو فِرقًا من العلماء الذين، بفضلِ قيادتهِ ومثابرتهِ ودقتهِ، أنشأوا مجالًا أتاح مُنذ ذلك الحين رؤىً غير متوقعة في التطور البشري وعلم الحفريات والبيئة والعديد من التخصصات الأخرى.»

نادرًا ما تُمنح جائزة نوبل في الفسيولوجيا والطب لعالِمٍ واحد. ولكن، يتساءل كراوس، «لمن أيضًا ستعطيها؟» ويُضيفُ قائلَا: أن العديد من الفِرق العلمية تستخدمُ أدواتِ باِبو، «لكن هم في حد ذاتهم يُعتبروا ذريته العلمية. فقد أسَسَ العديد من الأساتذة والفِرق العلمية، وتفرع من معمله العديدِ من المعاملِ … من الواضحِ أن لا أحدًا يَستحقُ هذه الجائزة مثله.»

تُؤكد «كاترينا هارفاتي – Katerina Harvati»، عالِمة مُستحاثات البشر بجامعة توبنغن، على أن الجائزة «هي أيضًا شرفٌ عظيم للمجال بشكل عام. فلا يُمكنني أن أكون أكثر سعادة برؤية الأضواءِ مُسلطة على أبحاث الأصول البشرية بهذا الشكل المؤثر على الصعيد العالمي، مما يؤكد على أهمية مجالنا، ليس فقط لفهم ماضينا، ولكن لفهم كيف يمكن له أن يؤثر على حياتنا وبيولوجيتنا وصحتنا اليوم أيضًا.»

المصدر

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
اترك تعليقا