هل عرف النياندرتال الدين؟

لقد خاض جنسنا البشريّ معارِكَه ضدّ الطبيعة وضد البقاء على مرّ ملايين السنين، يقول فراس السواح في كتابه مغامرة العقل الأولى: “عندما انتصب الإنسان على قائمتين رفع رأسه إلى السماء ورأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى الأرض وتضاريسها ونباتها وحيوانها. أرعبته الصواعق، وخلبت لبّه الرعود والبروق. داهمته الأعاصير والزلازل والبراكين ولاحقته الضواري. رأى الموت وعاين الحياة. حيّرته الأحلام ولم يميزها تمامًا عن الواقع. ألغاز في الخارج وأخرى في داخله.

غموض يحيط به أينما توجّه وكيفما أسند رأسه للنوم. تعلّم استخدام اليدين وصنع الأدوات، وفي لحظات الأمن وزوال الخوف، كان لدى العقل متسع للتأمل في ذلك كله.
لماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ لماذا خلق الكون وكيف؟ من أين تأتي الأمراض؟ إلى آخر ما هنالك من أسئلة طرحت نفسها عليه.”

فهكذا لازمت الأسئلة الصعبة جنسنا منذ نزوله “الحاسم إلى الأرض في أفريقيا التي انطلق منها أسلافنا أشباه القردة Apelike في منطقة السافانا قبل نحو أربعة ملايين سنة.” (الشبكة الإنسانية – جون مكنيل)

ما هو الدين

ليس الهدف هنا وضع تعريف للدين ثم الخوض فيه، ولا نريد التطرّق كثيرًا في تعريف ماهية الدين (فقد يكون لهذا مقالة أخرى نناقش فيها تبديات الظاهرة الدينية ومكونات الدين)، ولكن دعونا فقط نذكر وجهات نظر بعض الفلاسفة وعلماء الميثولوجي عن الدين.
يقول وليم جيمس في بداية كتابه The varieties of religous eperience:
“…فالدين الذي أعنيه هنا، هو الأحاسيس والخبرات التي تعرض للأفراد في عزلتهم، وما تقود إليه من تصرفات. وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعتبره إلهيًّا”
ويقول ماكس موللر في كتابه نحو علم للدين: “إنّ الدين هو كدح من أجل تصوّر ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توق إلى اللانهائي.”

النياندرتال Homo Neanderthals

استوطن النياندرتال Neanderthal منذ ما يقارب 350.000 سنة قارّة أوروبا وأجزاء من آسيا الوسطى وغرب وجنوب غرب آسيا والشرق الأوسط. وقد كشفت دراسة حديثة عن تواجدٍ للنياندرتال في ليبيا بمدينة بلاغري. وفي الفترة التي عاشها النياندرتال في المنطقة الجغرافية الممتدة من إسبانيا حتى أوزبكستان، كان قد شهد العصرَ الجليدي الذي حلّ في معظم أوروبا وآسيا قبل مئتين وخمسين ألف سنة خلت. ويظنّ العلماء أنّ أجسادهم البدينة الممتلئة هي ما ساعدهم على البقاء والنجاة خلال العصر الجليدي.

إعلان

مناطق إنتشار النياندرتال

كان النياندرتال صيّادين مهرة وكانت لديهم أدوات وأسلحة متطورة سهّلت عليهم عمليات الصيد كثيرًا. ويبدو أنّ النياندرتال الذي قد تفوّق علينا جسديًا كان قريبًا منا من ناحية البنية التشريحية بشكل كبير.

إعادة تشكيل هيكل للنياندرتال

لا يُعرف على وجه التحديد سبب انقراض جنس النياندرتال؛ فالعلماء والدراسات في هذا الشأن ليس لديهم ما يتخذونه كحقيقة مسلَّم بها. ولعلّ الفرضيات الأكثر انتشارًا هي أنّ جنسنا نحن الـ “الإنسان العاقل” Homo Sapiens كان قد زاحم النياندرتال على مناطق سيطرته في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا فور هجرتنا العظيمة من أفريقيا من خلال إما مضيق باب المندب أو شبه جزيرة سيناء، لقد تفوّقنا على النياندرتال فاستعرنا منهم بعض تقنيات الصيد وطورناها، وكان عقلنا أكثر تطورًا من قدراتهم العقلية، وقد كنا أكثر تنظيمًا وأكثر جماعية من النياندرتال فتغلبنا عليهم. ولكن هناك دراسات أخرى توحي بأننا ربما تعايشنا معهم في سلام وودّ بل وربما تزوجنا منهم واختلطنا بهم ولكن فتكت بهم الأمراض التي ما استطاعت أجهزهتم المناعية البدائية مقاومتها، أو ربما فتكت بهم المجاعات.. هذا ما إن لم نصارعهم على الجغرافيا.

يقول جون مكنيل في كتابه الشبكة الإنسانية:

“كانت أستراليا -بين أربعين ألف سنة وستين ألف سنة خلت- أكبر المناطق الجديدة التي سكنها الإنسان العاقل، ونجحت جماعات الإنسان العاقل في إزاحة جماعات الإنسان النياندرتالي من أوروبا وجنوب غرب آسيا أو استوعبوهم قبل نحو خمسة وثلاثين ألف سنة.”

ها وقد تحدّثنا عن القليل من تاريخ النياندرتال، فقط دعونا نبدأ في سرد بعض من السجلّ الروحاني الماورائي لهذا الجنس البائد.

قبور النياندرتال

1- في أوروبا

يقول الدكتور فراس السواح في كتابه “دين الإنسان” أنّ النياندرتال لم يترك لنا شاهدًا واحدًا على ميله للتعبير بواسطة الفن التشكيلي عن أفكاره وإحساسه بمحيطه، وذلك باستثناء تنفيذه لبعض الحزوز على أدواته “لغاية جمالية بحتة”. غير أننا نستطيع البحث عن ملامح ثقافته غير المادية في مدافنه التي تم اكتشاف عدد كبير منها حتى الآن.

ويقول :”فالنياندرتال كان أول نوع بشري عُني بدفن موتاه في القبور، وأظهر في ذلك حرصًا كبيرًا كما أنّ التقاليد التي اتّبعها في دفن الموتى، تدل على “تمتّعه بحياة روحية” لم يتمتع بها سابقوه (من أجناس الهومو)..”

دعونا نبدأ في توضيح الأمور أكثر بالأمثلة ونذكر نماذج من أساليب الدفن عند النياندرتال.

سُمّي النياندرتال هكذا بسبب اكتشافه لأول مرة في منطقة وادي نياندر في ألمانيا بالقرب من دوسيلدورف، وفي جنوب فرنسا عُثر على كهف استُخدم كمقبرة لأربعة أفراد نياندرتالين؛ كان الهيكل الأول لامرأه وُضعت ضمن حفرة في وضعية الجثو، حيث تلامس الركبتان البطن وتنطوي الذراعان نحو الصدر، والهيكل الثاني لرجل مسجّى على الأرض في وضع التمدّد وقد ثُنيت ساقاه وتمت حماية رأسه وكتفيه بألواح حجرية. أما الهيكلان الباقيان فلطفلين وضعا في حفرتين ضحلتين في وضعية الاستلقاء، وإلى جانب هذه القبور حفرة مليئة برماد وعظام ثور بري. وقد عثر في المنطقة نفسها على عدد آخر من قبور النياندرتال:

  • قبر لفتى يافع دفن في وضع جانبيّ متوسدًا ذراعه الأيمن، وتحت رأسه كومة من شظايا الصوان، وقرب يده مقبض فأس حجرية.
  • وفي قبر آخر، دُفن رجل في الخمسين من عمره في حفرة طبيعية، حيث تمّ توجيه جثته وفق محور شرق غرب، ووجد مع الهيكل أصداف وبقايا عظام لكركدن وحصان بري وأيل وبيسون. (1)

وتُظهر قبور النياندرتاليين في الشرق الأوسط تقاليد دفن مشابهة، خاصة فيما يتعلق بطيّ الجثة ضمن حفرة صغيرة، وتوجيه الجسم وفق محور شرق غرب.

 

2- في المشرق

بعض الهياكل العظمية للنياندرتال الذي سكن الشرق الأوسط كانت قد كشفت في دراسات حديثة عن بوادر ابتعادٍ مورفولوجيّ عن الهيئة الكلاسيكية للنياندرتال الأوروبي وأكثر اقترابًا من هيئة الإنسان العاقل. (2)
في فلسطين، مارس النياندرتال عادة الدفن في اتجاه شرق -غرب، في مغارة السخول بجبل الكرمل اكتُشف أكبر تجمّع للقبور النياندرتالية الفلسطينية: قبر ضمّ عشرة هياكل عظمية، تراوحت أعمار أصحابها بين الثلاثة أعوام والخمسين عامًا.

العراق- موقع شانديار: اكتُشفت عادةُ إحاطة جسد الميت بأنواع معينة من البراعم والأزهار، وتبيّن للدارسين أنها تُستعمل اليوم لتحضير أنواع معينة من الأدوية والعقاقير (3). وفي نفس الموقع، هناك اكتشاف يذكره فراس السواح ويصفه بإلهام جدًا، الاكتشاف الذي يبين كيف كانت مجتمعات النياندرتال متماسكة ومتعاونة كوريثتها -مجتمعاتنا، مجتمعات الإنسان العاقل- ويقول السواح أنه في موقع شانديار كان هناك اكتشاف يُطلعنا على مدى تماسك الجماعة النياندرتالية وتعاطف أفرادها، فقد عُثر على هيكل رجل في الأربعين من عمره، تبيّن من الدراسة الدقيقة لعظامه أنّ الرجل عاش طيلة حياته مشلول الجزء الأيمن من الجذع، ومع مشاكله الصحية الكبيرة فقد وصل إلى هذه السن المتقدمة -بمعيار ذلك العصر- بفضل مساعدة الآخرين وحبّهم، وتمّ دفنه بكلّ عناية كما يدفن بقية الأفراد العادين.

يبدو أن النياندرتال كغيره من أجناس الهومو، قد أعتمد بشكل رئيسي علي الجماعية والتعاون لنجاحه

تحليل بقايا مدافن النياندرتال وما قد تشير إليه من معتقدات دينية

قبل التطرّق أكثر من ذلك في أمر جماعات النياندرتال، نريد أن نحلّل ونرى ما هي النتائج التي يمكن أن نتوصل لها بدراسة مدافن وقبور النياندرتال.
كان للنياندرتال ثقافة انتشرت عبر نطاق واسع، قد توحي بشعائر دفن قائمة على موقف إيديولوجي متماسك من مسألة الموت، ساد من شواطئ الأطلسي إلى أواسط آسيا. دعونا أولاً نصنّف إجراءات الدفن لدى النياندرتال ثمّ قد نتمكن من استقراء ما يتلمس خطوط الموقف الإيديولوجي ببعض من الثقة:

أولاً: تصنيف إجراءات الدفن

إذا صنفنا بقايا النياندرتال فهل يمكنا لمس شَعيرة أو طقسًا ثابتًا؟
1_في أغلب الحالات كانت تطوى الجثث بشدة.
2_توجيه الأجساد وفق محور شرق غرب.
3_كانت هناك عناية كبيرة برأس الميت، حيث تمت حمايتها بأحجار كبيرة.
4_هناك حالات غير شائعة عن إحاطة الجسد ببراعم وأزهار معينة منتقاة.
5_الشواهد العديدة علي القرابين الحيوانية، وعلى الدفن الموازي لبقايا الحيوانات المذبوحة.
6_(الهدايا الجنائزية) المكونة من العظام والأدوات المنتقاة، والتي وجدت حتى في قبور الأطفال والمواليد الجدد.

ثانيًا: الاستقراء الذي أشرنا إليه

1) يبدو أنّ النياندرتال قد اعتقد في وجود روح تستقلّ عن جسد المتوفّي لترحل إلى عالم موازي لعالم الأحياء، وقد تكون سبب ثني ركبتي الميت في حيزه الضيق القصير محاولة لمنع الروح من الهروب والتي قد تكتسب قوة جبارة قد تكون مؤذية.

2) يبدو أنّ النياندرتال كمثل أجدادنا في العصر الحجري الحديث قد ظنّ أنّ الرأس مُستَقرّ الروح، ولذلك فقد حموا رأس المتوفي بالألواح الحجرية، وكذلك توجيهها نحو الشرق الذي يرمز للبعث، فهو بوابة ميلاد الشمس والقمر.

3) يبدو أنّ نثر الأزهار في قبر المتوفي (4) يوحي بمعنى البعث، الذي يؤديه توجيه رأس الميت نحو المشرق. فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشجر، وكان ظهور الأزهار الربيعية بشارة خير للنياندرتال الذي تغذى على بعض ما كانت تجود به الأشجار.

4) كما هو الحال لدى الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى الذي اعتقد بوجود قوة حيوية في الدّم فيبدو أن النياندرتال قد ظنّ بأن دماء الحيوانات المذبوحة عند الدفن كانت تطلق طاقة من نوع خاص، تعين التوأم الروحي للمتوفي على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي، ومن الممكن أنهم ظنوا بأنّ إقامة وليمة جنائزية عند الدفن لأكل لحوم حيوانات القرابين، وترك بعضها للتوأم الروحي قد يعينه في رحلته الطويلة.

5) يبدو أنّ الهدايا الجنائزية التي اعتمدها النياندرتال أولًا من الأدوات الحجرية والتي وجد منها في قبور مواليد جدد بالتأكيد لم يتعلموا استخدامها، ما يوحي بأنّ تلك الأدوات إنما أشارت لوظيفة سحرية ما رمزية.

ثالثًا: الهدايا الجنائزية

التي تمثلت في عظام بعض الحيوانات كالماعز وكانت توزع حول جسد المتوفّى أو يقبض بيده عليها، فقد كانت تشير كرمز لقوة ماورائية خفية عظمى كقرون الماعز التي وزعت حول طفل نياندرتالي في أوزبكستان، كانت تردد أصداءً بعيدة لطقوس ومعتقدات من العصر النيوليتي اللاحق.

 

دين نياندرتالي

إنّ فكرة تقديم القرابين أو الأضاحي هي فكرة متأخرة، وطقس الذبائح بمضمونه المعتاد، أي تقديم ذبائح من أجل استرضاء إله ما، هو طقس متصل بديانات العصور التاريخية بشكل رئيسي يكاد لا يلاحظ حتى مراحل متأخرة من العصر النيوليتي، ولكن لو لاحظناها لدى النياندرتال فسنفسرها طبقًا لتفسيرنا إياها لدى ثقافات الإنسان العاقل.

قد ظن النياندرتال بوجود (قوة قدسية غفلة)، تنبعث من عالم ما ورائي مجهول، موازٍ لعالم المظاهر الطبيعية المحسوسة المتنوعة الذي يعيشه النياندرتالي. وهذه القوة لا تتجسد في أية شخصية روحية ذات كيان معروف ومستقل. فقد اعتقد النياندرتال، وكما تظهر مخلفات مدافنه، بوجود عالمين متوازيين ومتبادلين في التأثير، يشكلان وحدة متكاملة تضم الوجود بأسره؛ فعالم يراه ويعيشه بحواسه، وعالم لا يراه رغم تأثيره فيه وفعاليته في عالمه، وبين هذين العالمين يرحل الميت عبر برزخ الموت، الذي يعبره وفق طقوس خاصة شهدناها في كل مدفن نياندرتالي.

يقول الأنثربولوجي فراس السواح في كتابه دين الإنسان: “وهكذا نستطيع الحديث عن (دين نياندرتالي) دون أن نتعب أنفسنا في البحث عن (آلهة نياندرتالية)”

وهكذا كحال العديد من الشعوب والثقافات البشرية التي سبقت العصر النيوليتي ومعرفة الزراعة والاستقرار، فلقد عرف التاريخ ظهور الأديان قبيل ظهور الآلهة الماورائية (وهذا ليس موضوعنا ويحتاج لمقال مستقل)، فمثلاً ما كان يسميه الهنود الحمر بـ “الواكوندا” أي الروح الكبرى، وهي قوة كونية كبري لا تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبث في الكون وتفعّل.. فهي من داخله.

 

أ. عبادة الدب

لم ينتج النياندرتال أي نوع من أنواع الفن التشكيلي، الذي يمكّننا من النفاذ إلى عالمهم الفكري، ولكن هناك دراسات على بقايا المدافن قد تعبر عن اعتقادات النياندرتال بخصوص عالم الماوراء.

في جبال الألب، اكتُشفت ثلاثة كهوف ترجع إلى أواخر الباليوليت الأوسط، احتوى كل منها على جماجم عظام دببة مغاور، تم ترتيبها بشكل اصطناعي مقصود، أطلق عليها بعض الباحثين اسم “مقامات الدب”، ورأوا فيها دليلاً على (عبادة) منظمة تدور حول الدب، خصوصًا أن طقوسًا مشابهة مازالت قائمة في القطب الشمالي.

واستمرارًا لعبادة الدب في الباليوليت الأعلى، قرب منتسبان بفرنسا، اكتُشف كهف به دمية طينية لدبّ في وضعية الربوض وقد باعد بين قائمتيه الأماميتين، وبينهما جمجمة لدب ملقاة على الأرض صممت بغير عناية، وقد وجد المستكشفون عدم وجود رأس للدمية في الأصل، ووجود ثقب في الرقبة، فيما يوحي بأنّ عصا كانت تُغرس بها لحمل ثقل ما، هذا أشار إلى نتيجة منطقية واحدة وهي أنّ الرأس الطينية ما هي إلا قاعدة أساسية صُممت لحمل رأس دب مذبوح، وأنّ هذا الكهف ما هو سوى مقام مقدس تقام عمده طقوس عبادة الدب.

في سوريا وجنوب الأناضول بتركيا، قامت جماعات جنسنا المتفوق الهومو سابينس بعبادات مماثلة. الترتيب المقصود لرؤوس وعظام الحيوانات في العصر النيوليتي الذي شهد معرفة الزراعة واستقرار الإنسان فيما يبدو أنه قد حدث للمرة الأولى في الشرق الأوسط.

ب. Animal lord “سيد الحيوانات”

كان الأنثربولوجي الشهير ليوفوربينيوس هو أول من صاغ مصطلح”سيد الحيوانات” Animal lord وذلك في معرض وصفه لطقوس بعض قبائل الصيادين في الصحراء الإفريقية.
كان سيد الحيوانات هذا لدى قبيلة “المخاليبي” التي انقرضت الآن، هو الذي يمكّن أفراد القبيلة من صيد الطرائد ويسوقها إليهم، ويظهر إليهم سيد الحيوانات هذا في هيئة حيوانية لا بشرية، وكان الجاموس الذي يصطادونه أكثر من غيره من الحيوانات الأخرى يُدعي بـ “الأب الجاموس”، قد وهبهم هذا الأب الجاموس قرنًا جاموسيًا يمكنهم من خلاله التغلب على طرائدهم، وهم يستخدمون هذا القرن على النحو التالي:
قبل شروق الشمس، يقوم المحاليبي برسم صورة على الرمل للطرائد المنوي صيدها، وعند بزوغ الشمس تمامًا تُرشّ الصور بدم يراق من قرن الجاموس الطقسي، وبذلك يسيطر الصيادون على موضوعات صيدهم وينجحون في الإيقاع بها.

هذا التفسير سيطر لوقت كبير فيما بعد على دراسة معتقدات ما قبل التاريخ، وصار مصطلح “سيد الحيوانات” مفتاحًا لتفسير المعتقدات الدينية البدائية منها. سيد الحيوانات لدى الصيادين، هو الحيوان المؤلَّه الذي ينتمي إلى النوع الذي تصطاده القبيلة أكثر من غيره، ويلعب الدور الأساسي في استراتيجيتها الغذائية.

وقد شاع هذا المصطلح لدى جنسنا نحن الهومو سابينس قبيل معرفة الزراعة والاستقرار، واستمرّ إلى الآن عند بعض القبائل البدائية، ويبدو أنّ الـ Neanderthals قد عرفوا هذا المصطلح، فنحن قد تحدّثنا عن عبادة الدبّ، فمن الممكن أن النياندرتال كان يجري طقوسه حول رؤوس الدببة في الكهوف -كما وضّحنا- ليس إلا للعمل بمصطلح سيد الحيوانات. يبدو أنّ النياندرتال كان يصطاد الدببة أكثر من غيرها وأنها كانت المصدر الأهم لغذائه، لذلك احتاج أن يقيم طقوسه تلك ليتمكن من فريسته مثله مثل وريثه الذي تفوق عليه واحتلّ الأرض من بعده.

 

صلة روحية

يقول فراس السواح في كتابه دين الإنسان: “فالإنسان الأول الذي كان يشعر بوحدة عضوية تجمعه إلى كلّ مظاهر الحياة على الأرض، كان يعقد صلة روحية مع فصيلة معينة من الحيوان، هي غالبًا موضوع صيده الرئيسي ومصدر غذائه. وكان لهذا السبب يحسّ معها بنوع من المشاركة، وقيام نوع من” العهد” بينهما لا تنفصم عراه، وهو عهد ملزم لكلا الطرفين بنفس الدرجة والقوة. لهذا لم يكن صيده لها وتحويلها إلى غذاء بمثابة فعل عادي دنيوي، بل كان طقسًا له من القدسية ما لطقوس الصلوات والعبادة. من هنا فإنّ الشارة القدسية، سوف تستمد من أقرب العوالم إلى الصياد؛ من فصيله حيوان المفضل او رفيقه الروحي. فهنا تتحول كل الهيئات المتماثله لأفراد لا حصر لهم من الطرائد لتندمج في هيئه مثالية واحدة هي في الآن نفسه تجسيدًا أسمى للفصيلة وشارة قدسية لعالم اللاهوت.”

توق إلى اللانهائي

يبدو أنّ النياندرتال الذي تفوقت قدراتنا العقلية عليه قد تفوق علينا جسديًا وبدنيًا، ويبدو أننا قد استعرنا بعضًا من تقنياته وطورناها فتفوقنا عليه، ويبدو أننا نحن الهومو سابينس قد أطحنا به من الوجود هذا إن لم نكن قد اختلطنا معهم وتزوّجنا منهم كما تشير بعض الدراسات الحديثة ثم وافتهم المجاعات، لكنّ ليس هذا موضوعنا.. وليس موضوعنا أيضًا أن نبحث في مصطلح الدين ولا في تاريخه ولا في كيف بدأ البشر يسلكون طريقهم نحو الآلهة وهل سبقت الآلهة الأديان أم العكس، وما معنى العبادة.. كل هذا لم يكن موضع اهتمام مقالنا.

ولكن يبدو أنّ جنسنا منذ تفوّق ومنذ عرف الزراعة -منذ ما يقرب ال 10-13 ألف سنة مضت في العصر النيوليتي، الحدث الذي وقع تقريباً في الشرق الأوسط ثم تخلف عنه نشوء حضارات مصر وبلاد الرافدين وبلاد السند والهند والصين التي نشأت بشكل شبه مستقل عن حضارات العالم القديم- فمنذ ذلك الحين اتخذ الدين أشكالاً جديدة وأخذت المفاهيم الروحية في تطور دائم ومستمر وأخذت المؤسسات الدينية تظهر، ولكن يبدو أنّ هذا كله لم يأتِ من فراغ، يبدو أنّ الأسئلة الغيبية قد راودت الإنسان وأسلافه منذ ظهور أجدادنا علي الأرض وانتصابهم وهجرتهم، الحدث الذي أشرنا له، ويبدو أنّ النياندرتال ما هو إلا حلقة في سلسة كبرى تمتد لما فوق الـ 7 ملايين سنة من رحلتنا البشرية، ومن توقنا إلى الماورائي، أو كما قال الفيلسوف الألماني ماكس موللر: “إنه توق إلى اللانهائي”.

 

_المصادر:
Grahame Clarke,  prehistiric societies,  knopf, New York 1968.)1(

R.J. Braidwood,  prehistoric man,  scott, Illinois 1975(2)

 (3)Encyclopedia of religion. Voll.ll.p.152 

(4) أكتشف هذا الأمر بواسطة عالمة فرنسية في مجال نباتات ما قبل التاريخ بالصدفة

_(الكتب المقتبس منها والمذكورة)

_مغامرة العقل الأولي _ فراس السواح

_الشبكة الإنسانية _جون مكنيل

_بقية المصادر والإقتباسات كانت من كتاب "دين الإنسان"  لفراس السواح

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن جمال

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا