من أسلمة الإنسانيات إلى أنسنة الإسلاميات | ضياء خضير

يظلّ الخطاب الدينيّ الذي بدأه الدكتور عبد الجبار الرفاعي منذ أكثر من أربعين عامًا مثيرًا للاهتمام والمتابعة، بسبب تميُّزه وغزارته وروحه الإنسانية المتسامحة، وحرارة اللُّغة التي يجري التعبيرُ بها عنه. وقداشتدّني -كما اتشدّ الكثيرين من الذين تابعوا هذا الخطاب وكتبوا عنه- إعجابي بالرجل، وليس فقط بجِدّة هذا الخطاب واختلافه، إنّما لأنّه يجسّد في خلقه الرفيع وسلوكه العملي أنموذجًا للشخصية العراقية المثقّفة، والمتحرّرة من الإلزامات التقليدية التي تميل برجل الدين عادةً نحو هذا الطرف أو ذاك. نحن هنا أمام رجل دينٍ عراقيٍّ آخر؛ يمتلك خطابًا قادرًا على اجتياز الحواجز الموضوعة في طريق كلِّ الناس الذين يمارسون حياتهم في مجتمعاتٍ إسلامية ما يفتأ رجل الدين فيها يحتكر سلطة المعرفة الدينية والفقهية والتشريعية التي تحدّد ما هو محلَّل، وما هو محرَّمٌ في سلوك “المكلَّفين” من أتباعه في هذا المذهب أو ذاك، ومن النادر الوقوف بين ركام هذه الخطابات القديمة والمعاصرة، الشفوية والمكتوبة، على هذا النوع الذي يجعل الدين في خدمة الإنسان، بصرف النظر عن مذهبه ولونه وعرقه، ولا يجعل الإنسان خادمًا لهذا الدين وأصحابه.

عبد الجبار الرفاعي يجعل من نفسه مكمِّلًا ووريثًا لسلسلة من المفكّرين ورجال الدين الذين أنجبتهم أو احتضنتهم الحوزةُ النجفيَّة في عهودٍ مختلفةٍ من عصرنا الحديث مثل محسن الأمين، وهبة الدين الشهرستاني، ومحمد جواد البلاغي، ومحمد رضا المظفّر ومحمد تقيّ الحكيم، ومحمد باقر الصدر، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد حسين فضل الله، وغيرهم ممن أشار إليهم الرفاعي نفسه لتميّزِهم ومحاولتهم الخروج بفكرهم واجتهاداتهم عن الخط التقليديّ الذي يحضر في خطابه النقل أكثر من العقل.

وهو إذ يتّفق مع رجال الدين هؤلاء، الذين يخرجون على “خطاب تبجيل كلّ شيء في التراث، وفي سعيهم لاستيعاب شيءٍ من عناصره استيعابًا نقديًّا، والجرأة في نقد بعض المقولات والآراء، وعملهم في البحث عن آفاق لقراءة النصّ وتفسيره في سياق الواقع ومعطياته واستفهاماته، ومحاولتهم الكشف عن شيء مما هو نسبيٌ في ميراث المتكلّمين والفقهاء”؛ لا يخفي معرفته بأنّ بعضَ محاولاتهم تلك لم تغادر المناهجَ التقليدية الموروثة بشكلٍ كامل، فيما نجح هو في فعل ذلك، وحاول منذ البدء أن يجعل من خطابه الدينيّ مختلفًا؛ يمدُّ به إلى شريحة أوسع من الناس كما لو كان جسرًا يعبُرُ من خلاله نحو أولئك الفقراء مثله في حياته المبكرة، التي تشكلت فيها بوادرُ وعيه الديني ويقظته الروحية الأولى. يستنهض الغنى الكامنَ في نفوسهم، ويحرّك بلغته البسيطة المؤثرة ما ينطوون عليه من عوالم خير داخلية لا حدود لثرائها واستعداداتها الفطرية التي وُجِد الدينُ في الأصل لإرواء ظمئها الأنطولوجي، وتوفير كرامتها، وتخليصها من الاغتراب الميتافيزيقي الملازم لحياتها، وغير ذلك مما يرافق حياتنا جميعًا من قلقٍ وارتباكٍ وجوديٍّ ظاهرٍ أو مُضمَر.

وهو يقول إنّ أكثر من سبقوه على هذا الطريق كانوا غيرَ قادرين على توظيف مناهج ومفاهيم وأدواتٍ جديدةٍ من الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديث في فهم الدين ونقد التراث، وما هو مستتر من نظم إنتاج المعنى الكامن فيه.

وعلى الرغم من أننا لا نكتفي في هذا الكتاب -كما سيرى القارئ- بعرض ما نظنّ أنّه يمثّل المفاصل الأساسية في خطاب الدكتور الرفاعي، ونحاول أن نقدم له قراءةً نقديةً فاحصة؛ نعتقد أن لا جدوى من الاكتفاء بعرض جوانب من فكر الرجل من دونها، فإننا ندرك أيضًا أنّ التناول العقلي أو المنطقي المجرّد لهذا الخطاب الموزّع على عددٍ كبيرٍ جدًا من الكتب والمباحث؛ قد لا يمثّل بشكلٍ صحيحٍ روحَ هذا الخطاب، وربّما يسيءُ إلى صورته العامة التي تشيع فيها فيها روحُ التسامح والمحبّة، وتحيل مجملُ المباحث الكلامية الجديدة فيه إلى رؤيةٍ عرفانية صريحةٍ أو مقنعة غير قابلةٍ في نفسها لأيّ مقاربةٍ نقديّة لا تراعي طبيعتها الأخلاقية والروحية، أو المشاعر الوجودية الخاصّة لأصحابها، وهي -كما سنرى- مطروحةٌ ضمن تجربةٍ ورؤيةٍ واعيةٍ ومركّبة، ومسلّحة بمعرفةٍ تراثيةٍ وعصرية تكرهُ الخضوعَ لآليات المناهج الفلسفية والمنطقية التي لا تفصل بين الدينيّ والدنيويّ، أو بين المقدّس وغير المقدّس في موضوعاتٍ محدّدة تقتضي وجوبَ التسليم بنوعٍ من العلاقة الخاصّة والاستثنائية بين البشري والإلهي الذي يجسّده الوحي النبوي، وقدسية النص ّالقرآني، وما يتّصل بذلك من أمورِ إشكاليةٍ تُبحَث باستمرارٍ في كتابات الدكتور الرفاعي؛ كالعلاقة بين الدين والأيديولوجيا، أو بينه وبين الدولة، والطريقة التي يجري فيها (تحيين) النصوص القرآنية على الطريقة الهرمنيوطيقية التي جرت عند الغربيين للكتاب المقدّس منذ زمن طويل، وأسفرت عن نتائج حاسمة في علاقة المجتمعات الغربية بديانتها المسيحية؛ التي جعلت من عبارة السيد المسيح في إنجيل مرقص التي تقول “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” معيارًا ومثالًا للعلاقة المزدوجة بين الدينيّ والدنيويّ. وهي، كما نعرف، عبارةٌ تناقلت من سياقها التاريخيّ الخاصّ بسؤال بعض اليهود للسيد المسيح عن جواز دفع الجزية لقيصر؛ لتكون إجابته عليها دليلًا على هذه العلاقة التي لا يجب أن يتدخّل فيها الإلهي المقدّس في الدنيويّ الخاصّ بمجريات الحياة المدنية، مثلما لا يتدخّل الدنيويّ في حياة المقدّس ذي الطبيعة الروحية المختلفة. في حين ما زالت هذه العلاقة الخاصّة ببناء الدولة والسلطة السياسية الحديثة في مجتمعاتنا الإسلامية مختلطةً غامضة؛ على ما أصابها من عدوى التأثّر بالنظام السياسيّ الغربيّ خلال العهد الاستعماريّ لبلادنا أو بعده؛ حيث ينفصل القول النظريّ فيها عن الواقع العمليّ، وتكتسب فيه عبارة السيد المسيح السابقة معنى آخر قد يكون فيه “ما لله وما لقيصر لله وحده” في إطار الرؤية الدينية المتسلّطة، و”ما لقيصر وما لله كليهما لقيصر وحده” في إطار الرؤية الدنيوية المنفلتة، وكلّ ذلك يحدث في إطار ما نقرؤه ونشهده من مفارقاتٍ وغرائب مرافقةٍ لتكوين الدولة وأمثلتها الواقعية التي يمتلئ بها تاريخنا الإسلامي القديم والحديث.

إعلان

وفي الوقت الذي لا يجري فيه الاعتراض عندنا على وجود عنوان (الإسلام دين الدولة) من الناحية الدستورية؛ لا نجد أحدًا يبالي بغياب هذا الإسلام أو عدم حضوره، ولو بروحه الأخلاقية والتربوية في مفاصل هذه الدولة، وهو ما يشير إلى جانب من بنية الانفصام العميقة القائمة بين النظرية والواقع لدى نخبِنا الدينية وأحزابها السياسية بشكلٍ خاص، ومجتمعنا العربيّ الإسلاميّ بشكل عام.

الدعوة إلى “أنسنة الإسلاميّات، لا أسلمة الإنسانيّات” التي أطلقها الدكتور الرفاعي تظلّ شعارًا لدى المتنوّرين القلّة من رجال الدين في هذه الدولة، ولكنّه شعارٌ غيرُ قابلٍ للاشتغال لدى آخرين غيرهم؛ ما زالوا يتدخّلون في حكم هذه الدولة ويعبثون بمصالح الناس فيها تحت عناوين وشعاراتٍ إسلامية وديمقراطية مضلّلة.

وما ينطوي عليه خطاب الدكتور الرفاعي في هذا الشأن من شفافية وغنى دلالي، وما يوفره لقارئه من عناصر اتزانٍ عقلية ونفسية؛ هو الذي يحفّزنا على جعل بعض جوانبه موضع نقاشٍ واستفهامٍ من أجل تعميقه وإثارة الأسئلة المعترضة أو المحفّزة للحوار والنقاش حوله. وصاحبُ هذا الخطاب لا يضيق بالأسئلة، ويقول إنه لا يملك؛ مثل أصحاب التدين السياسي؛ إجاباتٍ جاهزةً تتكرّر فيها الشعارات التي لا معنى لها، ولا قيمة.

ومنطلقُنا في كلِّ ذلك يظل هو الإيمان المشترك بالدين عنصرًا لا غنى عنه في حياة كلّ إنسان، وبالحقّ سبحانه وتعالى خالقًا ومدبّرًا لهذا الكون، لا ينتج من المواقف والآراء الفكرية التي تتبع القول برفعه من دواخلنا غير أن يصبح كلّ شيءٍ مباحًا في هذا العالم، كما كان ديستويفسكي يقول.

وكوني أديبًا أو ناقدًا غير متخصصٍ بالشأن الديني لا يكفي للقول بأنّي أتدخّل هنا فيما لا يعنيني، بل ربّما يمنحني؛ على العكس من ذلك؛ ميزةَ رؤية هذا الخطاب من زاويةٍ أخرى قد لا تتوفّر بنفس القدر والدرجة لمتلقّي هذا الخطاب من علماء دين ومتخصصين. فالمنهج ونظرية المعرفة الخاصّة بنظم التفكير في أُطُرها العامة ليست حكرًا على رجال دينٍ ومثقّفين دون غيرهم، لاسيّما في خطابٍ يتعدّى الأساليب التقليدية، ويحاول أن يستخدم المناهج العلمية والفلسفية في مقاربة موضوعاته الدينية.، إضافةً إلى وجود علاقةٍ خاصّةٍ بيني وبين الدكتور الرفاعي قد لا يعرفها غيري وغيرُه؛ تدفعني إلى إعارة مزيدٍ من الاهتمام لما يكتبه ويقوله دون خوفٍ من التجاوز على النظرة الموضوعية المحايدة؛ فهذا الرجل الذي هو أستاذٌ ومعلِّمٌ في هذا الشأن للكثيرين في العراق وخارجه على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك المتكلِّم نفسه؛ كان في يوم ما تلميذًا من تلاميذي!

نعم، تلميذًا من التلاميذ الكُثُر الذين لا أعرفهم، ولا يعرفونني أحيانًا إلّا في وقتٍ متأخّرٍ تقود إليه أحيانًا نوعٌ من الصدفة المحض، وليس غريبًا في تاريخ العلم أن يصبح الطالبُ أستاذًا لأستاذه في هذا الجانب أو ذاك من العلم، وهو شيء أتشرّف به ولا أنكره؛ لأنّ قراءتي المتأخّرة لعبد الجبّار الرفاعي واطلاعي على سيرته الذاتية قد أضافت لي الكثير، وعلمتني درسًا آخر من الدروس الأخلاقية والتربوية الجديرة بالتقدير والاعتبار؛ يقدّمها رجل دينٍ عرفانيٌّ ومثقّفٌ استثنائيٌّ في واقعنا العراقيّ والعربيّ المعاصر، وأنا لا أتردّد من الاعتراف بذلك وتقديم الشكر والعرفان بالجميل لصاحبه، فضلًا عن أن تلك التلمذة لم تكن تزيد في الواقع على الصورة الرسمية والشكلية التي لا علاقة خاصّة فيها بين التلميذ وأستاذه؛ حينما كنت أنا وإيّاه في ثانوية قلعة سكر بمحافظة ذي قار التي انتقل إليها عبدالجبّار الرفاعي بعد إكماله الابتدائية في مدرسة القرية القريبة من قضاء الرفاعي نهاية الستينات من القرن الماضي، فيما كنت قد بدأت حياتي الوظيفية مدرّسًا للغة العربية، ثمّ مديرًا لهذه الثانوية الكبيرة خلال الأعوام ١٩٦٧و١٩٧٠ نفسها، ثمّ في مدينتي ومسقط رأسي (الشطرة) التي أصبحتُ مديرًا لمتوسّطتها في نفس السنة التي انتقل عبد الجبار الرفاعي هو الآخر إلى المدينة؛ التي ألّفت مرحلةً تكوينيّةً بالغة الأهمية في حياته الفكرية واتجاهه الديني اللاحق، كما في حياتي واتجاهي الأدبيّ السابق واللاحق، وقد عمدت إلى وضع نصّ القصيدة التي نشرتها بمجلة الآداب اللبنانية عام ١٩٧٠ أثناء وجودي في مدينة قلعة سكر لأشير إلى أنّي كنت أنا الآخر مشغولًا منذ ذلك الوقت الذي مضى عليه الآن أكثر من نصف قرن بالبحث عن طريقٍ مناسبٍ للإيمان والمعرفة.

كلُّ هذا ونحن لم نلتقِ ولم نتعرّف على بعضنا بشكلٍ مباشر بعد، مع أنّ ما قرأناه فيما بعد من سيرة بعضنا في كتبٍ متبادلةٍ كان بالنسبة لي على الأقلّ صادمًا؛ أحيانًا؛ فيما يتّصل بالظروف المتشابهة لمعاناتنا المشتركة؛ شأنَ الكثيرين من أمثالنا من أبناء الجنوب العراقيّ الفقراء؛ وما يواجهونه من ضيقٍ وعَنَتٍ لا يغطّي مع ذلك على طموحاتهم الأدبية والفكرية ورغبتهم في الخروج إلى عالمٍ أوسع من الحياة والفكر؛ على ما هنالك من اختلافاتٍ فرديةٍ طبيعية في الأهداف والتطلّعات والظروف الشخصية والعائلية المرافقة.

وحين أجرينا أوّل اتصالٍ بالتليفون بيننا بعد سنين طويلة من ذلك التاريخ البعيد؛ الذي لم نلتق فيه حتى الآن وجها لوجه؛ لم ينكر الدكتور الرفاعي أنّ صوتي مألوفٌ بالنسبة له، ويكاد أن يعرفه من نبرته كما قال لي، في حين أشعرُ أنني حين أكتب عنه الآن فإنني أكتب عن جانبٍ غائبٍ أو مفقودٍ في حياتي نفسِها.

وقد كان لخالي المرحوم عطا القزاز مدرّس العربية المعروف في الكرخ أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي؛ دخلٌ في هذا التعارف المتأخّر الذي حدث بيني وبين الدكتور الرفاعي؛ فقد أُولِعَ هذا الرجل في سنواته الأخيرة بفكر الدكتور الرفاعي الديني على نحوٍ استثنائي، وجعل من قراءة البحوث التي تنشرها مجلته (قضايا إسلامية معاصرة) وكتاباته رفيقًا ملازمًا له خلال قعوده الطويل في بيته؛ على نحوٍ عجيبٍ تحوّل فيه من حالٍ إلى حال. وقد كان التبدّل الذي طرأ على حياته وفكره الذي انتقل فيه من يساريٍّ ماركسيٍّ إلى متديّنٍ مؤمنٍ بسبب تلك القراءات مثيرًا للحيرة والتساؤل بالنسبة لي ولكلّ من يعرف الأستاذ عطا من أفراد عائلته وأصدقائه، وقد أخبرني الدكتور عبد الجبّار فيما بعد أنّه كان يبعث بكتبه بيد المهندس فراس ابن المرحوم عطا المقعد في بيته في الإسكان غربيّ بغداد؛ بعد أن نقل له تحيات أبيه وشغفه بقراءة كتاباته، وينقل إليّ الدكتور عبد الجبار متأثّرًا كيف أنّ المرحوم عطا كان يعبّر له عن امتنانه وشكره في كلّ مرّةٍ يتّصل فيها به عن طريق الهاتف قائلا له: “إنّك أنقذتني، وجعلتني أعثر على نفسي، وعلى المعنى الذي كنتُ أبحث عنه لحياتي.”

وأنا أروي هذه الحادثة الصغيرة التي يظهر من خلالها مدى التأثير الذي مارسه فكرُ الدكتور عبد الجبّار الرفاعي الدينيّ الجديد على الكثير من الناس الذين يعرفهم أو لا يعرفهم؛ لأبيّنَ -كما ذكرت- جانبًا من السبب الشخصيّ الذي عزّز فيّ الرغبة والفضول للتعرّف على الرجل وفكره، ثمّ الكتابة عنه وأنا في مقامي البعيد في كندا.

وقد سبق للناقد العراقي المعروف الدكتور عبد الله إبراهيم أن التقى قبلي بالدكتور عبد الجبّار، وكتب عن تأثيره فيه- على ما بينهما من اختلاف- مقالًا في جريدة الصباح؛ وصف فيه ما رآه في شخصية الرفاعي من نبلٍ ونقاء وتواضعٍ وطيبة، وكيف أنّ تعليم الدكتور عبد الله الدنيوي الحديث لم يمنعه من أن يخصّه الدكتور الرفاعي باهتمامه وتكوين علاقةٍ خاصّةٍ معه؛ بعد أن كان كما يقول: شديدَ النفور من ذلك النمط من رجال الدين الذين تخمّرت كتلتهم في الأروقة المعتمة، وعلى نحوٍ لا يختلف كثيرًا عما كنتُ اشعر به؛ أنا الآخر؛ إزاءَ بعض رجال الدين قبل أن أتبيّن حقيقة عديدين منهم من خلال هذا الرجل الذي تتلمذ إليهم وعاش بين ظهرانيهم وخرج عن منهج الكثيرين منهم. فللرفاعي، كما يقول الدكتور عبد الله “شيوخٌ معمّرون، أثقلت رؤوسهم العمائمُ السّود والبيض، وأطالوا المقام في الظّلال، وتلقّف عنهم أصول الفقه، وعلم الكلام، والعقائد، فضلاً عمّا كان يتلقّاه طلبة علوم الدّين عن شيوخهم من دروس المنطق الصوري، والنحو القديم، والبلاغة المدرسيّة، بوصفها من الوسائل الضروريّة لمقاربة العلوم الدّينيّة، كما انحدر إليهم ذلك من شِعاب الماضي؛ فالمرجّح أن يكون قد أوغل في كلّ ذلك حتّى حاز درجة الدكتوراه فيه، وأحسب أنّه تآلف مع تلك الأجواء بفعل المعاشرة، ودوام التعلّم، والتعليم، والمدارسة؛ مدّة طويلة؛ قبل أن ينأى بنفسه عن ذلك” (د عبد الله إبراهيم، جريدة الصباح، ٢٩/١١/٢٠٢٣).

والدكتور عبد الجبار الرفاعي يشير في أحد كتبه إشارةً دالّةً إلى أنّ أكثر الباحثين ممن يمتلكون خبرةً بمناهج القراءة الجديدة عندنا في العراق يهربون من توظيفها في قراءة النصّ الديني، وغالبًا ما يوظفونها في قراءة النصّ الأدبيّ والأعمال الفنية والإبداعية المختلفة الأخرى، وتلك حقيقةٌ من حقائق الثقافة العراقية التي يغلب عليها الطابع الأدبيّ والشعريّ أكثرَ من الطابع الفكريّ والعقلاني.

وعبارة محمود درويش التي تقول “كن عراقيًا لتكون شاعرًا” لا ينبغي أن تُقرأ وفق جانبها الإيجابي الجميل فقط، بل هناك جانبٌ سلبيٌّ لا يجب إغفاله: هو أننا -نحن العراقيين- كثيرًا ما نفكّر ونتصرّف بطريقةٍ شعريّة لا تراعي الضرورات الواقعية.

وربّما كان واحدٌ من نتائج غياب الكتابات الفلسفية والاجتماعية الفاعلة في المجال الدينيّ في وسطنا الثقافيّ العراقيّ قد دفع عديدًا من الكتّاب والأدباء إلى تولّي زمامِ المبادرة؛ ومحاولة تناول يوميّات الواقع العراقي، وما فيه من إشكالاتٍ فكرية واجتماعية ونفسية، وما خلّفته الحروب الخارجية والداخلية في هذا الواقع على الذات العراقية الجريحة من ندوبٍ غير قابلةٍ للشفاء بسهولة.

وهذه الكتابات غيرُ معنيّة في جملتها بوجود الدين والروح الإيماني؛ أو عدم وجودهما فيما تكتب؛ فالمهم والأكثر إلحاحًا في سنوات الجمر والجبهات الملتهبة هو وجود البشر أحياء، وتوفّر حاجاتهم الأساسية، وليس كيفية ما سيكونون عليه من ماهية في هذا الوجود.

والتقى المفاجئُ والعودة إلى الله يمثّل نوعًا من ردّة الفعل والخوف من المصير المجهول أحيانًا أكثر من الإيمان المتولّد عن قناعةٍ وتأمُّلٍ بالموضوع الديني؛ الذي ما فتئ الدكتور الرفاعي يكافح من أجل البحث عنه والتأكيد عليه ونشره ممزوجًا بهذه المسحة الخفيفة من التصوّف العرفاني أو ما يقع في دائرته.

وما يضيفه الدكتور الرفاعي إلى عبارته السابقة من تفسيرٍ لانصراف الباحثين عن استخدام أدواتهم المنهجية في الكتابة عن الأمور الدينية؛ يتمثّل في أنّهم “يبحثون عن ملاذٍ يحتمون فيه من غضب أنصار التراث” قد لا يكون صحيحًا قدْرَ صحةِ اختلاف التوجهات الناتجة عن نوع التعليم والمواد المقدّمة في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية العراقية؛ التي كان نقلُ المناهج الأدبية التراثية والغربية الحديثة الخاصّة بالنقد الأدبيّ والفنيّ يزيد على ما سواه من برامج ومواد دينية وفلسفية متوفّرة، ولم تكن الحوزة الدينية الشيعية في النجف الأشرف؛ كالأزهر الشريف في مصر؛ منفتحةً على تعليمٍ دينيٍّ ودنيويٍّ يغطّي كامل التراب الوطني ويصنع كوادر دينيةٍ مثقّفةً بثقافة دينية وعصرية متوازنة، وقد خرّجت النجف وبقيةُ مدن الجنوب العراقيّ الشيعية أعدادًا من الشيوعيين أو المنتمين للفكر اليساريّ الماركسيّ أكثرَ مما خرّجت من رجال دين ومتدينين.

ولذلك فإنّ الموقف الذي عبّر عنه الدكتور عبد الله إبراهيم في هذا المقال يعبّر بالفعل عن موقف الغالبية العظمى من هؤلاء الأدباء والكتاب العراقيين من ذوي التعليم العام والثقافة الأدبية والنقدية الحديثة؛ التي يغلب عليها طابعُ الفكر اليساري الذي لا يميل -ولا نقول يعادي- إلى صورة رجل الدين التقليديّ كما عرفها هؤلاء الأدباء في تعليمهم المدرسيّ وحياتهم الثقافية العامة.

وعنوان كتابنا هذا الذي يجمع بين (التصوّف العرفاني) و (علم الكلام الجديد) في إطارٍ واحد) ناتجٌ عن طبيعة التركيب أو المزج الذي حاول الدكتور الرفاعي نفسُه إدخاله على مجمل مدوّنته الفكرية والكلامية التي لم يكتفِ فيها برفض أغلب ما رآه فيها من تراث الفقهاء والمتكلّمين القدماء، وإنّما أراد أن يضفي عليها مسحةً أخلاقيةً وروحية؛ متمثلةً في ما يسميه تصوّف العرفان والعرفاء، وسنكرّس الكلام في الفصل الأول من الكتاب للجانب الفقهيّ والكلاميّ وفلسفة الدكتور الرفاعي في النظر إليهما، فيما سيجري تناول الجانب العرفانيّ التصوّفي في كلّ فصلٍ من فصول الكتاب الأربع، نظرًا لحضوره الكثيف في كلّ منظومة الدكتور الرفاعي الدينية؛ التي لا شكّ عندنا في أنّ التصوّف في صورته العرفانية الموجودة في كلّ كتب الدكتور تقريبًا، هو حصيلةٌ شخصية ونتاجٌ لتجربة فردية، وتأثّرٌ بقراءات رجال دين وعرفاء آخرين حسب تسميته؛ مثل محي الدين بن عربي، وجلال الدين الرومي، والعلامة الإيراني محمد حسين الطبطبائي (١٩٠٤ – ١٩٨١)؛ الذي منحه الدكتورُ الرفاعي على صعيد الدراسة والتدريس قدرًا من الاهتمام لم يمنحه لآخر سواه من المفسّرين والفلاسفة والعرفاء المعاصرين، ولعلّ التشابه الذي وجده الدكتور الرفاعي بين حياة هذا الرجل (الإلهي) وبين حياته نفسها أن يكون ملهمًا ومعينًا له على فهمه، والارتباط الصميم بفكره وآرائه الكلامية ومواقفه الصوفية أو العرفانية. فقد عاش الطباطبائي -رحمه الله- بين تبريز والنجف وقم، مثلما عاش الرفاعي نفس؛ في رحلةٍ معاكسة، بين مدينة الرفاعي والنجف؛ حياةَ نضال وكفاح لا شبيه لها في قسوتها وقدرتها على معاندة الظروف الاجتماعية والسياسة المحيطة، ولكن ذلك لم يثنه، كما لم يثنِ تلميذه العراقيّ عن مواصلة الدراسة والتحصيل العلميّ الذي أنتج هذا القدر من الوعي والإحاطة بالمعارف الدينية والفلسفية؛ التي فتح الله عليهما فيها بما ينير بصيرتهما وبصيرة الكثيرين من بعدهما، ولنرى في حصيلتها هذا النوع من الرجال الذين يعدلون في ثقلهم المعرفيّ والروحيّ والأخلاقيّ الآلافَ من الذين خرجوا من بينهم؛ فأعانوهم أو وقفوا في وجوههم، ولكن ما أودعه الله فيهم من أدبٍ وسماحة خلق يقتضيهما الدينُ الحق؛ لا يجعلهم بعيدين عن أن يكونوا في الموضع الذي يكون فيه أيُّ واحد من أولئك الفقراء في المادة والروح من الذين خرجوا من بينهم، ولم يتسنَ لكثيرٍ منهم أن يقرأوا أو يسمعوا مثل هذا الصوت الذي يمكن ان يتسرّب بيسرٍ إلى أعماقهم.

وتلك؛ في تقديري المتواضع؛ هي القيمة الأساسية لخطاب الدكتور الرفاعي الروحي والأخلاقي، أعني سعة أفقه وانتشاره وقدرته على ملامسة جوانب حاضرة أو غائبة عن حياة كثير من الناس، بما في ذلك البسطاء منهم.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: الدكتور ضياء خضير

تدقيق لغوي: أمل فاخر وعبير الششتاوي

اترك تعليقا