رحلتي مع «بوب ديلن» في القطار

يلتقي البشر بدون أدنى معرفة بعضهم ببعض، فمن الممكن أن يشاهد أحدهم الآخر في التلفاز، أو يجلس خلفه في أثناء موعده الغرامي، يلتقون في المواصلات، أو الاحتفالات الشعبية، في سياق من الصدفة البسيطة التي تتشكل عليها الحياة الكبيرة في مشهد يجمع في خلفيته ألحان الهارمونيكا لبوب ديلن في جميع انحنائاتها.

شخصيات مختلفة في أزمنة مختلفة أو ربما تزامن مشترك يلتقون بذرات بوب ديلن في الهواء من خلال مشاركته في نظراته للحياة، المحطات الحيوية في رحلته، وشغفهم بالفن الشعبي والروك آند رول، وهكذا قد استطاع المبدع «تود هاينز» إخراج فيلمه «أنا لست هناك – I’m not there» في هيئة سيرة ذاتية ولكن بشكل غير اعتيادي وغير مألوف.

زاوية تود هاينز الخاصة

I'm not there
صورة يظهر فيها تود هاينز

 

الجميع يمثِّل شخص بوب ديلن مثلما يمثِّلهم هو بالمقابل، هكذا كانت العدسة التي رأى بها المخرج العبقري تود هاينز علاقة الفنان المشهور بوب ديلن بالفن وبالجمهور؛ وذلك لأنَّه يعبِّر عن جميع الفئات والطبقات الكادحة والمّهمشة وخبايا نفس الإنسان في أغنياته، بصوت خاص ومزعج كما لم يتغنى أحد بها من قبل، واستطاع أن يصيغها في فيلمه المميز. إذ وضع الأغنية بوصفها عنصرًا أساسيًا يعتمد على نفسه ويصبح كالأعمدة التي تضيء الطرق وتمر على جميع الركاب لتطبع الأغنية على وجوههم وأرواحهم؛ لأنها نبعت من داخلهم في الأساس، فالفن الشعبي من الجميع وللجميع.

وما يميِّز الفيلم أنه قُسِّمَ لمحطات في هيئة رحلة وأغنيات عديدة للفنان الشهير بوب ديلن، وهذا ما زاده مصداقية للدلالة على مدى تعبير بوب ديلن عن أنفاس ووجوه وأصوات الجميع.

العابرون الدائمون

I'm not there

تبدأ أحداث العمل بنظرات آرثر المتوترة والحادّة في مقابلة ما عندما سأله أحد الأشخاص عن اسمه واتجهت جميع الأعين تجاهه، وعندها يسبح بخياله ليتذكَّر من هو حقًا، ليمثِّل آرثر -وهو إحدى أهم الشخصيات في الفيلم- أحد محطات حياة بوب ديلن والراوي نسيج الفيلم بجانب كونه شاعرًا مبتدئًا يشق نظراته الأولى للحياة في التاسعة عشرة من عمره. ولكن يدرك السائلون في المقابلة أنه الوحيد الذي أدرك ما تعلمه في تجاربه البسيطة وما سوف يتعلمه في المستقبل؛ ومن أهمها أنَّه مزارع قبل أن يكون أي شخص آخر. وابتداءً من تلك النقطة تشكلت شخصيته وبدأت رحلته فقد اختار بألَّا يكونًا مؤمن بل أن يكون هو الوحيد الذي يجب أن يعلم كيف ستجري الأمور وهو على أتم استعداد لها؛ لأنه غير مكترث من الأساس لأية نتائج وكأن الحياة بيضاء أو سوداء. وقد أخذ آرثر يتحدث عن نفسه ويصف المشاهد وكأنها قصائد مبهمة تحمل روح ألحان بوب ديلن.

إعلان

تستمر أحداث الفيلم بعد رواية آرثر في الجزء المعدم من أحد القطارات بإحدى المناطق الريفية حيث يظهر “وودي” الخادع في جسد صغير غير مفصح عن أي تفاصيل شخصية، وغير متصلٍ بالواقع من الأساس. فهو يُحَدِّث العجائز في القطار عن الاستقلال، والحرب، والفقر بلهجة ساخرة، ويتغنَّى عن الماضي وكيف أنه لا زال يدوي في الواقع وربما في المستقبل. فكيف للصغير أن يحلم وسط ضوضاء الشارع، وأب يبحث عن الطعام، وأم تمزق ثيابها لتكسي الصغار؟

I'm not there
مشهد من مشاهد فيلم «أنا لست هناك – I’m not there»

 

لم يتحدَّث وودي عن بداية رحلته أو حتى عن المحطة التي يرغب في النزول إليها على نهج لا إكتراثيته بثيابه المتسخة أو بقدميه التي آلمته طيلة الطريق حتى ينل عشاءه يومها في أحد بيوت الغرباء الذين عرضوا عليه تقديم يد العون مقابل الاستماع لألحان الجيتار خاصته ليهرب وودي في الصباح مجددًا إلى قطار آخر، فهو لم ولن يعلم نهاية الطريق ولماذا أو حتى لأين، فكان الغناء هنا هو الرب.

لم يتطلَّع وودي للثياب الباهظة، ولا للحانات المنعزلة التي تقدِّم خمر غالي الثمن ولكنه فضَّل الطرق على الأبواب المختلفة لتتقاذفه الرياح وليغني للجميع من بلدة لبلدة، ومن هيئة لهيئة ليبدو وكأنه أصبح فاقد للهوية ولا يمتلك سوى الجيتار الفاني.

هنا يظهر بوب ديلن كالمسيح عارق الجبين ليحتضن تلك الهيئة العاملة، والأعين البائسة في لحن واحد باحث عن الخلاص وربما المأوى. يجلس وودي في أحد المشاهد وهو يغني كلمات بوب ديلن التي وجدها تعبر عنه:

Mama’s in the factory, she ain’t got no shoes
Dad’s in the alley, he’s looking for food
.And I’m in the kitchen with the tombstone blues

ننتقل لمحطة الشخصية التالية وهي محطة ما بعد طفولة وودي المبهمة وثقة نضوج أرثر لننتقل لعنفوان شباب چاك مغني الروك والملهم والذي وجد نفسه في بداية حياته في صدام كبير مع الواقع الأليم من خلال ما يراه من فقر بين الناس أو تهميش السلطات لهم ومطالبهم فعندها يقرِّر چاك أن يثور ويستعين بموسيقاه الصاخبة والعزف الدائم مع حبيبته في التعبير وتجميع أكثر عدد من المؤيدين وسط الشباب في مشهد مبهج يشرح هدوء بدايات الأمل والحلم.

I'm not there
مشهد من العمل السابق

 

وهنا يكمن الصراع: هل يستطيع چاك ورفاقه الصعود بالأحلام والألوان الجريئة الخاصة أن يغزوا الأجواء ويرسخوا الأرجل على اليابس؟ أم يقف شبح الماضي العجوز متسلحًا بالاعتيادية الروتينية والمظاهر المادية التي لا تتناسب مع أفكارهم الصادقة والحالمة؟

فقد اصطدم چاك عندما اختار أن يمثِّل صوت الشباب في توبيخ الانتخابات الأمريكية مع المقاعد الخالية تمامًا من الشباب، ليعبِّر عن غضبه بشكل تلقائي في لقاء رسمي وسط كاميرات الصحافة ليستمع العالم لأول مرة لصياح الشباب، فيغادر چاك المؤتمر قبل انتهائه لتكون هذه آخر مرة يظهر بها أمام الأعين والكاميرات كنجم مشهور، وبعدها يعتزل چاك الأنظار ويتم تحطيم أسطواناته ومحو كلماته، وتتوقَّف الهارمونيكا حتى تمضي السنوات وتمضي معها ذروة شبابه؛ فيظهر  چاك في هيئة الزاهد والواعظ بين الشباب الحديث في الكنيسة وينصحهم بأن يسلكوا طريق الرب من البداية، وأن تختصر أناشيدهم للتأمل ومدح الرب فقط عندها تبدأ الهارمونيكا من جديد ولكن في لحن هادئ مع البيانو الكنائسي ليتغنوا جميعًا في صوت واحد وتحت أقدامهم رماد الروك آند رول، يناجون الرب بأن يصلح من ذاتهم في أيام من الهدوء الممل فلم يفهم أحد ما قاله چاك والرفاق ولم تذكر كلماته سوى في ألحان بوب ديلن.

عندما يسألونك إذا كنت تكترث لمشكلات العالم، انظر بعمق في عين السائل فهو لن يسألك مجددًا.

في وسط الرحلة يصل الإنسان لمحطة ما من الظلمة وهي عندما يكوِّن فلسفته الخاصة، و هنا يبتعد “السيد كوين” المغني المشهور عن القطيع؛ لأنه توقَّف عن البحث عن الحقيقة عند اكتشافه لعدم وجود حقيقة مطلقة تستند عليها جميع الأساسيات والقيم، وبأنَّ العالم يتجه نحو الخراب عاجلًا أم آجلًا بينما هو يستمر في الغناء بلا اكتراثية.

تبدأ المشاهد وهو يهبط من الطائرة إلى الأراض الإنجليزية متجهًا نحو اجتماع يخص التغيير الذي قد حدث لموسيقى السيد كوين  والأوضاع السياسية الشائعة. في هذه المحطة نصل لمنتصف الفيلم، التي يختار المخرج فيها كادرات الأبيض والأسود فقط في تصوير مشاهد السيد كوين لكي يعيش المشاهد بداخل ذهن بوب ديلن كما لم يكن من قبل مع سائر الشخصيات. يخالف السيد كوين الطبيعة عندما يهمل صحته ويتصرَّف كيفما شاء، ولكنه لازال يخاف السقوط.. حتى وهو يقف مناجيًا تمثال المسيح أعلى المباني بأن ينزل الأرض من جديد حتى لا يسقط!

يقف كوين على المسرح بعد غياب طويل غير أنَّه لا يقدِّم الموسيقى المتناغمة ولا الصوت العذب المرجو، وإنَّما أسمى المعاني للجمهور وهي في هيئة أناشيد عادية مقتبسة من واقعهم، أو مزيد من السخرية الصاخبة، أو مشاجرات سياسية، أو حتى إطلاق الرصاص على جميع المستمعين. فهو يقدم لهم السبيل للحقيقة.

يقدِّم المخرج مشاهد كوين في الأبيض والأسود؛ لسبب أنها الشخصية المحورية والمحطة الحرجة في رحلتنا فهي مرحلة مهمة أثَّرت على حياة بوب ديلن لاسيما من ناحية ألحانه وموسيقاه.

ولم يغني كوين للانتشاء، فقد كان على سبيل الانتحار أن تختار السماع لصوت السيد كوين المزعج والمصاب بالربو. وعلى نطاق أوسع، لم يكن الجمهور في نظره مجرد مستمع لموسيقى الروك فقط، بل جميعنا نمثِّل الجمهور عند مثلًا مشاهدة الأحداث السياسية على التلفاز، ومحادثات المسؤولين كما أرادوها أن تبدو، وكأننا جمهور يشاهد العروض الترفيهية والهزلية في السيرك القومي مثلًا.

فمسألة الحرب والتعدي على الأراضي المجاورة كانت الواقع الذي أراد السيد كوين بأن يوصله “للجمهور”. فأكذوبة الساحة السياسية أسوأ بكثير من حدة هارمونيكا بوب ديلن.

يختار السيد كوين أن يقتل جميع القيم المتداولة والخاطئة من خلال موسيقاه التي لا تعرف القواعد فهو اهتم وبشدة اتهام المسؤولين وتوبيخهم على المسرح أمام الجمهور حتى ولو كلفه هذا جميع السباب.

احذر من الحب والتعصب الديني، كلها مؤقتة وسريعة التأثير.

تحدث عرقلة ما في الطريق في أثناء الرحلة ومن الواضح أننا في محطة يخطو نحوها الجميع، ننتقل للشخصية التالية في هيئة ممثِّل وفنان يدعى روبي يخطو بداية طريقه وسط حيرة لاختيار أفضل عروض التمثيل.

يخطو “روبي” في بداية مشواره الفني مع حبيبته -التي تشاركه حبه للروك آند رول- والتي هي الشخص الذي  جعله يستطيع أن يؤدي جيدًا أول دور رئيسي له، والذي أخد يتقمَّص فيه دور المغني المعتزل “چاك” الذي علمنا كيف انتهى به الواقع من الاستسلام والابتعاد عن الأضواء.

I'm not there
مشاهد من العمل السابق

 

يقع روبي في حبها ثم يتزوجان وينجبان طفلتيهما ويعيشان مؤقتًا حياة الهدوء والاستقرار، ولكن تكثر سهرات الفنان روبي وسط المعجبين والمعجبات مع أحاديث الزوجين حول ذكوريته أحيانًا، وأحيانًا أخرى تزداد الأعباء على عاتقي الزوجة حتى ينتهي الأمر بالانفصال والبرود الشديد، ونسيان صندوق صور أسرتهم الصغيرة في غرفة روبي.

إنها الطبيعة ومن الصعب أن نمضي في الاتجاه المعاكس لها. فالأمطار تلمس النبات لينمو، والكلاب تلاطف بعضها البعض في خيوط الشمس الذهبية، والإنسان يجد ضالته في أحدهم ليستطيع إكمال الصورة على الألحان الشغوفة والحميمة.

ولكن، كما تتخلَّل الغيوم السماء الصافية، تظهر المشاكل بين الأزواج، فتتغيَّر الفصول، وتتغيَّر الاهتمامات وتنبت البذرة لتسدِّد ضريبة الطبيعة في الاستمرارية، فيولد الأطفال.

فهل يستطيع الأزواج أن يخلدوا؟ هل يُعَدّ الحب استثناءً من القاعدة كونه المؤثر الذي يداعب الأمعاء؟

هكذا ينتهي مشهد الممثِّل روبي وهو يأخد طفلتيه لنزهة صباحية بعد الانفصال عن زوجته  التي أخذت تنظر إليهم بعين الرعاية وهو غير قادر على أن يمحو ما كان لها من صندوق للصور والذكريات.

ينتهي الفيلم بآخر محطة حياتية لبوب ديلن وآخر شخصية في القطار مجددًا وكأنها تتذكَّر أول محطة مع وودي لتبدأ الرحلة من جديد؛ فهي لا تنتهي ولن تنتهي، لأنها رحلة لا بدَّ أن يمر الجميع خلال محطاتها على ألحان بوب ديلن الذي تغنى للرحلة في جميع أوقاتها.

تظهر الشخصية الأخيرة في هيئة العجوز بيلي الذي يتشابه بالضرورة مع وودي فهو هارب ولا يعرف أحد اسمه الحقيقي، وقد عاش حياة من الهدوء في الريف النائي المنعزل بوصفه أفضل مكان للعب مع الجراء الصغيرة، وركوب الخيل، وربما الموت!

I'm not there
مشهد من العمل السابق

 

يذهب بيلي يومًا ما لاحتفال شعبي على جواده هاربًا من اسمه الحقيقي مرتديًا القناع حتى يعلم العمدة بأنه غريب عن عادات الاحتفال وعن الأرض وأنه كان مغنيًا ومنشدًا مشهورًا يومًا ما، فيا ترى ماذا حدث لبيلي؟ وما الذي أتى به إلى الريف؟ وما سبب هروبه من بداية المحطة لآخرها؟

يوضع بيلي في زنزانة صغيرة بسبب شكِّ العمدة بأنه خارج عن القانون، غير أنَّه يستطع الهرب مثلما فعل طوال حياته، فيجري نحو القطار في رشاقة لأجل أن يلمس الجيتار بعد زمن طويل، ويختار أن ينتقل لمكانٍ آخر بلا هدف واضح طالما استعاد قدرته على العزف والغناء مجددًا.

تصبح الألحان هنا أهدى من قبل، ومستمرة حتى نهاية الأفق، فهنا أنهى بيلي رحلته غير مكترث للحياة ولا يفصح عن اسمه الحقيقي، ويتذكَّر حياته وسط أسطر أغاني ديلن، وكيف كان يحب الغناء في الماضي. يتذكر أنه قد تعلم كثيرًا مما تعلمه وودي، وچاك، وكوين، وروبي، وآرثر وهنا وصل لنهاية التجارب. وهنا يستمر العجوز بيلي في الابتعاد والعزلة، وعندما يفكر في النظر إلى نفسه فإنه لا يفعل بل ينظر بعيدًا للأفق.

في الختام ندرك بالضرورة أنَّ فيلم «أنا لست هناك» لم ولن ينتهي، بل يظهر بوب ديلن في هيئته الحقيقية وهو لا زال يعزف ألحانه على الهارمونيكا بلا توقف.


نرشِّح لك: بوب ديلن.. سيد الأغنية الدرامية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نور وهدان

تدقيق لغوي: رنا داود

تدقيق علمي: مايكل ماهر

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا