محاكم التفتيش… الدفاع عن الإله
“إن الله نفسه هو أول محقق عرفه النوع البشري وإن إدانته لآدم وحواء تعتبر أول محكمة تفتيش تعقد على الإطلاق، وهي النموذج الأول لجميع محاكم التفتيش” _بارامو أحد أشهر محققي محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي.
لو خيرت بين الآتي، فأيهم تختار:
-أن توضع في يدك كرة ملتهبة أو قطعة حديد محمّى، وتسير بها تسع خطوات.
– أو يوضع يدك إلى كتفك فى ماء مغلي.
– أو يلقى بك فى ماء مثلج.
– أو تعطى لقمة خبز كبيرة تزن أوقية لتبلعها دفعة واحدة.
– أو توضع عصابة على عينيك حتى تسير بين محاريث ملتهبة مثل الجمر على الجانبين… مهلًا قبل أن تختار عليك أن تعلم أن الاختيارات السابقة ليست طرقًا للتعذيب والعقاب، لا لا إنها فقط وسائل لامتحانك بالمحنة -trial by ordeal- والتي ليست إلا ما يمكن أن نسميه بمصطلح اليوم (جلسة تعارف).
عن طريق نتيجتها يعلم الكاهن والمحقق ما إذا كنت ستستكمل باقي إجراءات محكمة التفتيش التي ستبدأ فى حالة إذا تقيحت يداك في غضون ثلاثة أو إذا طفت فوق الماء المثلج، أو عجزت عن بلع لقمة الأوقية أو احترقت وأنت تسير مغمضًا بين المحاريث الملتهبة، إذا حدث أي من ذلك فأنت شبه مُدانٍ وتستحق التقديم للمحاكمة .
أسباب نشأة محاكم التفتيش
نشأت محاكم التفتيش مع أواخر القرن الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر وذلك للحفاظ على تعاليم الدين النقية من تلك الشوائب التي دخلت عليها من البدع والهرطقات التي بدأت تنتشر بين الناس. كان العدو الأكبر والذي بسببه نشأت محاكم التفتيش هو المذهب الكاثاري الذي انتشر بشدة جنوب فرنسا وأخذ يتسع ويكتسب أنصارًا ومؤيدين كل يوم، وهو مذهب خليط بين المسيحية والإسلام والمانوية، نشأ نتيجة اختلاط الجنود المنخرطين في الحروب الصليبية مع المسلمين والفرس الذين لا زالوا يعتنقون الديانة المانوية.
والمذهب الكاثارى الذي يعني الطاهر باليونانية يؤمن بوجود إلهين، واحد للخير وآخر للشر، وأن الله له ولدَيْن، الأكبر هو الشيطان والأصغر هو يسوع المسيح، كما أنكروا الطقوس والجحيم والمطهر وقيامة الأموات والزواج وتناول اللحوم وحبذوا الانعزال وأكدوا أن الخلاص حكر على طائفتهم وحدها. لهذا نشأت محاكم التفتيش ليردوا المسيحيين إلى حظيرة الإيمان، وكان يتم البحث والتقصي عن المهرطقين والمشتبه بهم بكل جدية وحماس حتى وصل الأمر بقبول تهمة الهرطقة على المتهم إذا شهد عليه اثنان معروفان بالتقوى، بل كان يتم إدانة المتهم بالهرطقة إذا امتقع وجهه أثناء الادعاء عليه، وكان يتم حجب أسماء الشهود ويتم كذلك حجب الأدلة والقرائن التي تثبت الجرم بحق المتهم.
وفى حالة اعتراف المتهم بهرطقته وتراجع المتهم عن أفكاره وإعلانه التوبة كان ينجو من الإعدام ويحكم عليه غالبًا بالسجن مدى الحياة أو السجن المؤبد أو أحكام أخرى كأن يرتدي صليبين من القماش الأصفر وأحيانًا ثلاثة حتى يتم تجريسه بين الناس أو يتم الحكم عليه بالذهاب إلى الحج الأكبر فى فلسطين أو بعض الأديرة المنتشرة في أوروبا أو يحكم عليه بحضور القداس يوم الأحد ويصوم كل جمعة ولا يأكل اللحوم أيام السبت ويتلو.. أبانا الذي فى السموات والسلام عليك يا مريم، سبع مرات يوميًا.
لم يكن الاتهام المباشر بالهرطقة فقط هو سبب المحاكمة، بل مجرد التعاطف أو حتى السلام والابتسام للمهرطق كان كفيلًا بتقديمك للمحاكمة بتهمة الهرطقة، ففي عام 1254 تعرض أرنولد بود فى مونتريال لتهمة الهرطقة لأنه استمر في زيارة أمه المتهمة أساسًا بالهرطقة وتقديم المساعدة لها ولم يكن هناك ما ينقذه سوى قيامه بتقديم أمه كي تحرق.
وكان هناك مبدأ قانونى يقول إنه إذا عرف الزوج بهرطقة زوجته أو علمت الزوجة بهرطقة زوجها ولم يبلغا فى غضون ستة أيام فهما يعتبران شريكين فى الهرطقة دون الحاجة لشهود. وكانت محاكم التفتيش تقبل شهادة المهرطقين المطرودين والقتلة واللصوص والسحرة والمشعوذين وقراء الطالع ومنتهكي الأعراض والزناة، خلافًا لباقى المحاكم الكنسية الأخرى والتي كانت تسير على نفس درب القانون الروماني القديم.
والمهرطق الذي تثبت التهمة عليه أو الذى يصر على أفكاره واعتقاداته كان يسلم للسلطة المدنية، أي يحكم عليه بالإعدام حرقًا على الخشبة، فإذا مات قبل تنفيذ الحكم تحرق جثته فى جمع من الناس أما إذا مات أثناء المحاكمة ثم حكمت المحكمة عليه فيما بعد بالهرطقة فينبش قبره وتستخرج عظامه وتحرق على الملإ.
يقول المحقق برنارد جو فى القرن الرابع عشر
“إن هدف محكمة التفتيش هو القضاء على الهرطقة، والهرطقة لا يمكن القضاء عليها إلا بالقضاء على المهرطقين، والمهرطقون لا يمكن القضاء عليهم إلا بالقضاء على المدافعين عنهم والمعضدين لهم، وهذا يتم عن طريقين هما إعادة المهرطقين إلى العقيدة الكاثوليكية الحقة أو حرق أجسادهم وذلك بتسليمهم إلى السلطة المدنية “.
كان هناك العديد من أنواع التعذيب التي كان يلجأ إليها المحققون لانتزاع اعتراف المتهم ومنها:
وهناك عجلة كاترين والتي كانت عبارة عن عجلة خشبية كبيرة يتم تثبيت المتهم عليها منحنيًا على ظهره ويلقى بها من أعلى الجبل لتسحق الضحية تحتها أثناء دورانها أو توقد تحتها نيران وتدور ببطء ليتم شيّ الضحية بينما ينتظره كلب أو ذئب شرس جائع، ومع كل دورة ينهش جزءًا منه ليدور مرة أخرى على النار وهكذا حتى لا يتبقى منه سوى العظام فقط.
وهناك التابوت الحديدي الذي كان على هيئة امرأة يوضع المتهم داخلها، وكان التابوت بداخله مسامير حادة طويلة تخترق المتهم عند الإغلاق وكانت توزع المسامير بحيث تبتعد عن الأعضاء الحيوية كالقلب والرئتين حتى لا يموت المتهم بسرعة وكانت تبطن من الداخل بخشب الفلين لتحجب صوته عن الخارج وتحجب صوت الخارج عنه.
وهناك كرسي التفتيش والذي كان من أقسى أدوات التعذيب في وقته وحتى الآن وهو عبارة عن كرسي كله كتلة مسامير من كل الجهات، يربط إليه المتهم من صدره ويديه وساعديه وساقيه وقدميه ويتم إجلاسه على الكرسى ووضع ثقل عليه حتى تنغرس المسامير في كل جزء من أجزاء جسم الضحية حتى خصيتيه، والأنكى من ذلك كان يتم تسخين الكرسي حتى يلتهب الحديد ويلتصق بلحم الضحية مما يجعل حتى خروجه منه عذابًا فظيعًا لا يطاق.
وهناك المنشار الذي كان يتم نشر الضحية به من بين رجليه وهو فى وضع مقلوب بحيث تنزل الدماء في رأس الضحية ليبقى يقظًا لأطول وقت ممكن حتى أن بعضهم كان يظل حيًا حتى يرى المنشار فى وسط بطنه.
وهناك عقاب بالجلوس على قطعة معدن مثلثة وحادة جدًا، يجلس عليها الضحية كما يجلس على حمار فتقوم بشطره نصفين ببطء شديد.
– جان دارك.
– جيوردانو برونو.
– غيلان الدمشقي
– الجعد بن درهم
الحلاج
– ولا ننسى مأساة الحلاج الذي حكم عليه بالزندقة والكفر فتم صلبه وحرقه حيًّا. – قبله ابن المقفع الذي احرق حيًّا وأُطعم من لحمه وهو حي وظل كذلك إلى أن لفظ أنفاسه. ولا يفوتنا السهروردي، ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي قتله صلاح الدين الأيوبي، وكذلك باقي العلماء والمفكرين مثل الرازى وابن سينا وأبي العلاء المعري وابن الهيثم وابن رشد والكندي وحتى الإمام الطبري الذي رشق بيته بالحجارة وسدت فتحته حتى مات ولم يقدر أحد على دفنه، فدفن فى بيته حيث مات.
وتدور الأيام وتمر السنون ويظل العقل الأصولي كما هو ويظل التعصب كما كان فنرى في أوائل القرن العشرين محاكمة الشيخ علي عبد الرازق وتجريده من كل شهاداته ورفده من وظيفته ومنعه من القضاء بسبب كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، الذي أنكر فيه الخلافة الإسلامية كأحد قواعد الحكم في الإسلام.
ومعه لا ننسى محاكمة طه حسين بسبب كتابه “في الشعر الجاهلى”، واتهامه بالكفر والإلحاد وإنكار الوحي وانتحال القرآن من الشعر الجاهلي. ولا نكاد نلتقط أنفاسنا حتى نرى فى نهايات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، نرى تلك المحاكمة الهزلية للدكتور نصر حامد أبو زيد، والحكم بردته عن الإسلام والتفريق بينه وبين زوجته.
ولا يتوقف قطار التكفير والردة ولا تتوقف عجلة الحسبة الجبارة لتقف سيفًا مسلطًا على كل من يفكر ويجرؤ على الخروج عن السرب وعن الدرب المرسوم فتدهس في طريقها فاطمة ناعوت وإسلام البحيرى ومحمد عبدالله نصر وقبلهم سيد القمني وغيرهم الكثير.
أخيرًا
بعد جولتنا تلك بين محاكم التفتيش في ضمائر وعقول كل من يفكر ويبدع، بعد تلك الطوفة العابرة هل يحق لنا أن نسأل.. لماذا؟ لماذا انتهت محاكم التفتيش في أوروبا واعتذرت الكنيسة الكاثوليكية عن كل مخاذيها وتبرأت منها وأقرت بذنبها، بينما لا نزال نفخر نحن بكل جرائمنا وفظائعنا على مدى تاريخنا كله، بل وإلباسه ثوب القداسة وربطه بالدين نفسه حتى صار مجرد نقد تاريخ المسلمين بمثابة نقد ونقض للإسلام نفسه؟ مما يسهل على كل محتسب ومفتش دين أن يتهمك بالفسق والردة والخروج من الدين إذا أنت أنكرت أو استنكرت أفعال من سبقونا من المسلمين، فبينما تحاول أنت الدفاع عن الدين وفصله عن أفعال منتسبيه، يصر المحتسبون على ربط الاثنين معًا وتقديس كليهما.
وسؤال أخير.. متى نصل لتلك النقطة التي ينفصل فيها الإلهي المقدس عن البشري غير المقدس، متى؟!