كيف جسّد الأدب عناء المهمّشين
الأدب هو أكثر الأشياء التي يمكنها أن تعبر عن مشاعرنا المعقدة بانسيابية شديدة، لا نملك معها إلا المضي فيها، فالأدب يرينا أن الإنسان هو الإنسان، في كل زمان ومكان، يظل كما هو بدوافعه المجهولة واحتياجاته البسيطة، وميله إلى العنف والحقد والحب والقوة.
فالأدب لا ينحصر فقط في خانة الرومانسية المبتذلة كما يروج له البعض، ولكنه يعرّفنا على بلدان لم نكن ندري بها، وأفكار وأديان لم نعلم بوجودها، الأدب يبدد وحدتنا ويجعل عالمنا غنيًا بالمشاعر والتجارب القاسية والناعمة دون أن نكون طرفًا حقيقيًا فيها، فهو لا يضفي إلينا أفكارًا فقط، ولكنه يجعلنا أكثر تعاطفًا وإنسانيةً مما مضي.
روايات جسّدت شقاء المنسيين
بضع رواياتٍ تجعلنا نخرج من انغماسنا الذاتي في معاناتنا الشخصية، لنتشارك مع شخصياتهم فقرهم ونبذهم وظروفهم القاسية.
متشردًا في باريس ولندن
يروي جورج أورويل حياة التشرد التي خاضها في مدينتي باريس ولندن في شبابه، ولكن الرواية ليست مقتصرةً فقط على معاناة أورويل، ولكنها تجسد حياة التشرد؛ ما معنى أن تكون متشردًا، كيف يتم نبذك من المجتمع حتى تصبح شخصًا لامرئيًا، شخصًا ليس له وجود فعلي، محرّم عليه الزواج وتذوق طعم الحياة العادية، وكيف تُحرم من أبسط الاحتياجات الإنسانية، كالاستحمام وبعض الطعام النظيف، كيف يحوّل الفقر والتشرد حياتك إلى شيء لا يستحق حتى بذل العناء للاهتمام به.
فيصف أورويل المشهد قائلًا: لقد عاش على طعام مقلد قذر حتى صار عقله وجسده من طينة أدنى، سوء التغذية -لا من سواه من الأدواء- هو من حطم رجولته، فبموته يكون ربحًا للمجتمع لتخلصه من طفيلي أخفق في كسب حياةٍ لائقة، ويقول أورويل: لقد صار المال اختبار الفضيلة الأكبر، في هذا الاختبار يفشل المتسولون، ولهذا يُحتقرون، إذًا لا فرق بين رجل أعمالٍ ومتشرد، سوى أن الأخير أخفق في اختيار المهنة الملائمة.
المرأة المهووسة
أما الكاتب الأسباني خوان خوسية مياس فيتحدث في روايته “المرأة المهووسة” عن فتاةٍ تعاني من اضطرابات نفسية وعقلية، حيث يصف عالمها الغريب ويتحدث عن أفكارها ومشاعرها كأنه هي، وقد تفكر بأن تلك الرواية مجنونة، ولكنها ببساطة تهبك رؤيةً كاملة لعقل الفتاة المهووسة.
ملذات طوكيو
أما في رواية “ملذات طوكيو” للكاتب الياباني دوريان سوكيغاوا، فيصف شعور كيف يمكن لك أن تكون ضحيةً لشيءٍ لم تختره أو حتى ترتكبه، كيف تُنبذ لسنوات ويظل عقابك مستمرًا حتى بعدما ينتهي كل شيء، ويمر العمر دون أن تدري به، فقط عبثية القدر من أهدرت حياتك ولم تمنحك سوى صنع الحلوى بطريقة مذهلة، وفوق ذلك تصف لك طريقًا للامتنان بأن الفرصة أتيحت لك لتتذوق جمال تلك الحلوى الغنية. فتقول السيدة يوشي إحدى شخصيات الرواية المريضة بالجذام: أيًا كانت أحلامنا، سوف نعثر بالضرورة ذات يومٍ على ما كنا نبحث عنه بفضل الصوت الذي يقودنا، أنا على قناعة تامة بذلك، فالحياة ليست عبارة عن زيٍ موحد.
صلاة تشرنوبل
واستمرارًا لتجسيد الألم والنبذ تتحدث الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا اليكسييفيتش عن مأساة تشرنوبل في رواية “صلاة تشرنوبل“، وكيف حوّلت كارثة المفاعل حياتهم لرماد، ما بين تهجير من أراضيهم الصغيرة إلى فقد أحبة وأبناء إلى فقد حيواتهم بألمٍ مبرح. الرواية هي سلسلة من اعترافات بعض الناجين لوقتٍ قصير، يروون قصصهم وتؤرخها الكاتبة حمايةً لتاريخهم من النسيان، فتقول: أكتب عن المحنة ذاتها، عن الآثار المفقودة لوجودنا على هذه الأرض وفي هذا الزمان، أكتب وأجمع الحكايات اليومية عن المشاعر والأفكار والكلمات، فالكتابة هنا لا تؤرِّخ فقط وإنما تعلو بالروح الإنسانية المرهَقة إلى مرتبة التخليد.
يصف المتحدثين مشاعرهم، الإحساس الذي انتابهم لحظة فقْد حبيب، خجلهم من التحدث عن الأمر وكأنهم يتعرّون أمام الجميع ليعرفوا ما خاضوه. ولكن الكاتبة تخلّد وجودهم المؤقت وتحفر بصمتهم في قلوبنا، فنحميهم من خطر النسيان ونشاركهم كارثتهم التي لن تشفى منها البشرية.
الخبز الحافي
ومن كارثةٍ نشعر بوجودها الدائم حولنا لكارثةٍ أخرى نعيش فيها ونتأقلم معها، حيث يصف الكاتب المغربي محمد شكري في روايته “الخبز الحافي” -التي في نفس الوقت سيرة ذاتية- ما خاضه في طفولته ومراهقته من فقرٍ مدقع، من أبٍ سيء وأخٍ صغير قُتل، يتحدث عن الفقر الجائع الذي يلتهمنا بلا رحمة، فالفقر ينزع منّا أي فكرةٍ حول جودة حياتنا، وهو فقط لا يمنحنا فرصةً سوى أن نحياها بقبحها ونعتاد عليها دون أن نشكو، كحيواناتٍ ليس لها أحقية الاختيار، ويخبرنا بمرارةٍ كيف تكون شكل حياتك عندما تسلك طريقك بين الفقر والعنف والتيه، كيف تُسرق حياتك منك دون اختيار، دون ذرة رحمة.
عشر دقائق وثمانية وثلاثون ثانية في ذلك العالم الغريب
كما تروي الكاتبة التركية إليف شافاق في حديثها البديع عن روايتها “عشر دقائق وثمانية وثلاثون ثانية في ذلك العالم الغريب” عن رؤيتها في روي قصص المنسيين ومهمة الأدب في تخليد قصصهم المنسية، وتأكيد وجودهم بروي القصص عنهم بعدما طمسهم المجتمع والأهل، ففي مقبرة جماعية في قلب اسطنبول العاصمة التركية يُدفن كل من لا أهل لهم، كأطفالٍ هجرتهم عائلتهم، وعجائز لا يعلم عنهم أحد، ولاجئين ماتوا في الطرق أو في قوارب لمحاولتهم للسفر لبلد أخرى، الجميع لا اسم لهم، فقط مجرد أرقام تطمس تاريخهم وهوايتهم المحدودة، فالأدب هنا يبدو محاولة حزينة لوهبهم قصصًا خيالية تؤكد وجودهم، ولكنها حتمًا محاولة ضرورية لتضفي واقعية على أصواتهم الخافتة البعيدة.
فالأدب نافذة جديدة على حيواتٍ مختلفة، مشاهدة مكثّفة وعميقة في عمق ذواتنا الإنسانية، تجسيد لتجارب مررنا بها، فالأدباء ليسو فقط حكّائين مهرة، ولكنهم مؤرخين أيضًا لتاريخ المشاعر الإنسانية المعقّدة، الأدباء يجعلون قصصنا مخلّدة ودائمة بدوام الإنسان على الأرض، فالأدب محاولة ناجحة لنعرف أنفسنا من خلاله ونصبح أكثر تعاطفًا وتقبلًا للآخر.