قراءة في لوحة: “مجيء المسيح وانتصاره” للألماني هانس ميملنغ

يكاد يكون الفن بكافة أشكاله أجود ما أتت به البشرية، فهو قادرٌ على أن يحتضن عوالم شاسعة من الأفكار والخلجات الإنسانية ويستطيع أن يتحدث بلسان الإنسان عبر الأزمان والعصور ويكون تعبيرًا صادقًا عنه وعن تاريخه وآماله وأفراحه وحتى آلامه. وواحدةٌ من هذه اللوحات التي يمكن أن تتحدث إلى الناظر إليها هي لوحة “مشاهد من مجيء المسيح وانتصاره” للرسام الألماني هانس ميملنغ.(1)

تبدو اللوحة للوهلة الأولى محاولة لتسجيل أحداث تاريخية، إلا أن لمسة الفن فيها هي التي جعلت منها تسجيلاً ملحميًا أكثر منه تصويرًا اعتيادًا. تزخر اللوحة بالتفاصيل والأشخاص ما يجعلها أشبه بالرواية التي يفكك مسارُ السرد فيها شفرةَ الأحداث وعلاقة الشخصيات بعضها ببعض. وهذه الرواية كما يشير العنوان هي قصة مجيء المسيح يسوع وتفاصيل أخرى من حياته، ويذكر مؤرخو الفن أن هذه اللوحة تصور أبرز الأحداث التي مرت بحياة المسيح ومريم العذراء. يُطلق على هذا النوع من التصوير  Simultanbild ويُقصد به صورة تحتوي على مشَاهد متتابعة وُضعت بجانب بعضها البعض لتحكي قصة ما، والغرض منها إتاحة الفرصة للمشاهِد لكي يرى أمامه وفي الوقت نفسه الأحداث كاملة.

وكما هو شائع في تاريخ الفن، يقوم بعض الرسامين بتنفيذ أعمالهم الفنية بناء على طلب أحد الأثرياء أو رعاة الفنون والآداب، وقد قام هانس ميملنج برسم هذه اللوحة بطلب من الدباغ بيتر بولتنك في العام 1480. وبولتنك هذا موجود في أقصى اليسار إلى الأسفل من اللوحة وهو جاثم على ركبته ومن خلفه ولده وبالقرب منه شعار عائلته. يسترق بولتنك النظر من خلال النافذة ليرى مشهد ميلاد يسوع المسيح في حين تجثم زوجته على ركبيتها في أقصى يمين اللوحة إلى الأسفل عند مشهد آخر هو مشهد العنصرة.

صورة (1) بولتنك جاثماً على ركبته ينظر من خلال النافذة إلى مشهد ميلاد المسيح

صبولتنك جاثمًا على ركبته ينظر من خلال النافذة إلى مشهد ميلاد المسيح

إن عادة رسم المشاهد الدينية التي تتضمن أحداثًا وشخوصًا مهمة في المسيحية عادة قديمة تعود إلى أيام الأب غريغوري العظيم (590- 604) حيث كان يُعتبر التصوير وسيلة لتقريب قصص الكتاب المقدس إلى أفهام الناس البسطاء ممن لم يتلقوا التعليم بالإضافة إلى كونها وسيلة للتقرب والعبادة (2). قد يُفسر وجود بولتنك الراعي لهذا العمل وهو في وضعية الركوع ينظر من خلف النافذة إلى الحدث الكبير ــ ميلاد المسيح ــ على أنه إشارة إلى ارتباطٍ وجداني بين راعي هذا العمل وبين الحالة الروحانية التي تعكسها هذه الأحداث. وكأنها دعوة للمشاهد الناظر إلى اللوحة إلى أن يرتبط معها بالروحانية نفسها. وفي قراءة لهذا الجزء من اللوحة تقول سالي كولمان “إن بإمكانه [بولتنك] النظر إلى وجه مريم العذراء ورؤية تعبير الرهبة مرتسمًا على وجهها، كما أنه قادر على محاكاة ملامح الملاك وهو في حالة الإجلال والخشوع وهو ما يشير إلى التقوى التي يتحلى بها [بولتنك]”(3).

إعلان

تتوزع مشاهد اللوحة بين ميلاد المسيح وبعثه وحكاية المجوس وغيرها من القصص المرتبطة بحياة يسوع. تبدأ اللوحة برواية القصة من الناحية اليسرى من اللوحة بتصوير “البشارة” أي بشارة الملاك لمريم بأنها ستلد يسوع. وهي كما وردت في إنجيل لوقا (1: 26 – 38) : (فقالَ لها المَلاكُ: (لا تَخافي يا مَريَمُ، نِلتِ حُظْوةً عِندَ اللهِ: فسَتَحبَلينَ وتَلِدينَ اَبنًا تُسَمِّينَهُ يَسوعَ). وإلى الأسفل قليلاً من هذا المشهد هناك تصوير لبشارة الملائكة للرعاة وهي قصة أخرى وردت في إنجيل لوقا (2: 8 – 20): كانَ في تِلكَ النّـاحيةِ رُعاةٌ يَبـيتونَ في البرِّيَّةِ، يتناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رعِيَّتِهِم. فظهَرَ مَلاكُ الرَّبِّ لهُم، وأضاءَ مجَدُ الرَّبِّ حَولَهُم فَخافوا خَوفًا شَديدًا. فقالَ لهُمُ المَلاكُ: (لا تَخافوا! ها أنا أُبَشِّرُكُم بِخَبرٍ عظيمٍ يَفرَحُ لَه جميعُ الشَّعبِ: وُلِدَ لكُمُ اليومَ في مدينةِ داودَ مُخلِّصٌ هوَ المَسيحُ الرَّبُّ).

صورة (2) بشارة الملاك لمريم في أعلى الصورة وبشارة الملاك للرعاة في الأسفل

بشارة الملاك لمريم في أعلى الصورة وبشارة الملاك للرعاة في الأسفل

ثم يتحول السرد إلى الأفق البعيد في اللوحة حيث تظهر ثلاث قمم جبلية يقف على كل واحدة منها رجل. ينظر الثلاثة باتجاه نجم ساطع في السماء، وهؤلاء كما هو معروف في الموروث الغربي هم (الملوك) المجوس الثلاثة وقصة نبوءتهم حول ميلاد المسيح في بيت لحم.

(3) ملوك المجوس الثلاثة ينظرون باتجاه نجم بيت لحم

ملوك المجوس الثلاثة ينظرون باتجاه نجم بيت لحم

تنتقل القصة بعدها إلى منتصف الصورة حيث تبدو قافلة المجوس متجهة إلى أورشليم ثم مشهد دخولهم ولقائهم بالملك هيرودس يليه مشهد “عشق المجوس” الذي كان موضوعَ لوحةٍ للرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي. ولا تزال في مقدمة اللوحة إلى الأعلى قليلاً من مشهد عشق المجوس لنرى قافلة المجوس نفسها وهي تغادر المدينة وفي الأفق إلى اليمين قليلاً نستطيع رؤية السفن التي تقلهم وهي تترك الشاطئ.

صورة (4) مشهد دخول المجوس لأورشليم ولقاءهم بيهرودس ثم إظهار العشق للمسيح والمغادرة

مشهد دخول المجوس لأورشليم ولقائهم بيهرودس ثم إظهار العشق للمسيح والمغادرة

المشاهد الأخرى التي نجدها إلى يسار اللوحة وفي الوسط تقريبًا تتعلق برحلة “العائلة المقدسة” إلى مصر هربًا من الملك هيرودس الذي خشي على ملكه بعد أن سمع نبوءة المجوس بأن المولود هو ملك اليهود وأنهم قدِموا ليسجدوا له، فأمر بقتل كل مولود ذكر بعمر السنتين وما دون في بيت لحم، وهو ما يصوره مشهد “مذبحة الأبرياء” نسبةً للأطفال الأبرياء الذين لقوا حتفهم على يد الملك.

صورة (5) مذبحة الأبرياء

مذبحة الأبرياء

وعند الانتقال إلى مقدمة اللوحة إلى اليمين نجد تصويرًا لمشهد قيامة السيد المسيح، حيث يظهر وهو خارج القبر والحراس من حوله أشبه بالنيام أو الموتى، ثم بتتبع مسار الأحداث باتجاه الأعلى تظهر عدة مشاهد تصور تجليات المسيح في عدة مناسبات بعد قيامته وهي الروايات التي ذُكر فيها أنه حي وقد قام من الموت، وإلى الأعلى أكثر نجد مشهد تجلي يسوع الأخير في الجليل الذي صعد من بعده إلى السماء ليختفي بين الغيوم.

 

صورة (6) قيامة يسوع وصعوده إلى السماء
صورة (6) قيامة يسوع وصعوده إلى السماء

قيامة يسوع وصعوده إلى السماء

وفي أقصى اليمين من الأسفل إلى الأعلى، نجد الأحداث المرتبطة بالأيام الأخيرة من حياة مريم العذراء، منها ظهور المسيح لوالدته مريم ثم نزول الروح القدس على تلاميذ يسوع، وهو ما يطلق عليه “عيد العنصرة” ويأتي بعد عيد الفصح بخمسين يومًا. يلي ذلك مشهد موت مريم العذراء ثم ارتقائها إلى السماء وهو ما تجسده اللوحة في أقصى اليمين إلى الأعلى.

بحثٌ سريع في تاريخ الفن وخصوصًا في اللوحات التي صورت أحداثًا مهمة في المسيحية نجد أن الكثير من الرسامين اهتموا برسم هذه الأحداث، وقد خرجت أعمالهم بصورة درامية واكتسبت شهرة كبيرة إلا أنّ ما يميز لوحة هانس ميملنغ أنها جمعت الأحداث كلها في لقطة بانورامية واحدة وأضاف إلى أهمية الأحداث ودراميتها وجودُ تضاريسَ طبيعية من سماء وجبال وأرض أضافت بعدًا آخر إلى اللوحة؛ كما لو أن الناظر يخوض رحلة داخل تضاريس اللوحة لا ليستكشف الأحداث من جانب ترتيب وقوعها وتسلسلها وحسب (فهي معروفة للمُشاهد المسيحي خاصة) بل ومن جانبها الروحاني الذي لابد وأن ميملنج كان يصبو إلى إيصاله، ويأمل بعد ذلك أن يحمله المشاهد إلى الأجيال القادمة تمامًا كما فعل المجوس عندما رحلوا على متن سفنهم التي تمخر عباب البحر متجهة إلى الشرق مطرح شعاع الشمس ليشيعوا خبر ميلاد المخلص.

(1)  Advent and Triumph of Christ, Hans Memling, oil painting, 1480.

(2) Jean Sorabella, (2008), Painting the Life of Christ in Medieval and Renaissance  Italy (https://www.metmuseum.org/toah/hd/chri/hd_chri.htm, accessed on 28th of September, 2018)

(3) Sally Whitman Coleman, "Hans Memling’s Scenes from the Advent and Triumph of Christ and the Discourse of Revelation," Journal of Historians of Netherlandish Art 5:1 (Winter 2013) DOI: 10.5092/jhna.2013.5.1.1 هذا المقال فيه عرض وافٍ ومفصل وممتع للوحة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زهراء طاهر

تدقيق لغوي: ضحى حمد

اترك تعليقا