حقوق الإنسان الأبيض
“نحن نؤمن بأن الحقائق الآتية من البديهيات، وهي أن جميع البشر قد خلقوا متساوين، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة لا يمكن انتزاعها، من بين هذه الحقوق: حق الحياة، والحرية، والسعي لتحقيق السعادة. لضمان هذه الحقوق قامت الحكومات بين البشر، مستمدة سلطانها المشروع من رضى المحكومين، وأنه متى أصبح أي شكل من أشكال الحكم خطرًا على هذه الغايات، فإن من حق الشعب أن يغيِّره أو يلغيه، وأن يقيم نظامًا جديدًا للحكم على أساس من هذه المبادئ، وينظِّم سلطاته على نحو يجعله أقرب ما يكون لضمان أمنه وتحقيق سعادته.”– من وثيقة اعلان الاستقلال الأمريكية 1776م لتوماس جيفرسون
تبدو تلك العبارة الموجزة أصدق تعبير عن رؤية مفهوم حقوق الإنسان بصيغتها القاطعة، فتلك الحقوق مشتركة بين البشر كافةٍ، وطبيعية المصدر، وليست نتاج رؤية فلسفية بشرية، ويعتبرها الكافَّة من البديهيات التي لا خلاف عليها.
ولكن هذه الرؤية أبعد ما تكون عن الواقع، سواء في العصر الذي صيغت فيه هذه العبارة أو في العصور التي سبقته أو حتى في يومنا هذا، بل دومًا ما كانت حقوق الإنسان محل نظر وجدل، سواء في جزئية كونها عالمية، أو كونها متساوية، أو طبيعية.
يرجع المؤرخون الغربيون نشأة مفهوم حقوق الإنسان إلى بصفتها وثائقٌ قانونيةٌ معترفٌ بها إلى عام 1215م، حيث وقع ملك إنجلترا “جون” ميثاق الحريَّات الذي عرف باسمه اللاتيني “الماجنا كارتا”، وكانت هذه أول وثيقة معروفة تمثل تعهدًا من حاكم لرعيته نزولًا إلى رغبة النبلاء، حيث أدى الازدهار الاقتصادي لإنجلترا في القرنين الثاني والثالث عشر إلى تقوية مركز النبلاء الذين حصلوا على حقوق للحكم الذاتيّ بناءً على مواثيق ملكية مقابل دفع مكوس ورسوم، وتأسست الجامعات الكبرى مثل أكسفورد وكمبردج، وتضاعف سكان المدن، وبدأت الطبقة البرجوازية في الظهور.
كان الملك “جون” في حاجة ماسة لتمويل الجيش، لا سيما بعد خسارته لـ نورماندي لصالح فرنسا، فاضطر لزيادة الضرائب، ضاعف ضريبة البدلية التي كان الملاك يدفعونها للإعفاء من الخدمة العسكرية عشرة أضعاف، وبعد خلاف مع البابا رفع الضرائب المفروضة على الكنيسة، فكان الرد أن حرضت البارونات على التمرد، فقاموا بمساعدة من الأمير الفرنسي لويس وملك أسكوتلندا ألكساندر باقتحام لندن في يونيو 1215م، وإجبار الملك على الموافقة على الميثاق العظيم مقابل قسمهم بالولاء له.
وعلى الرغم من أن الوثيقة كانت تركز على إعادة حقوق الكنيسة والإقطاعيين، إلا أنها حملت بنودًا مهمة كمنع احتجاز أي رجلٍ حرٍّ، أو سجنه، أو حرمانه من ممتلكاته إلا بمقتضى حكم قضائي وبقانون البلاد، وعدم إيواء الجنود جبرًا في مساكن المدنيين.
قام برلمان أكسفورد بخطوة مهمة حيث دعا الأيرل سيمون دي منتفورد، البارونات، وكبار رجال الدين، وممثلي المدن لعقد اجتماع للبرلمان الذي رفض الملك الدعوة إليه، وقدموا للملك بنود بدعوة البرلمان للانعقاد ثلاث مرت سنويًا بشكل دوري، وبضم أعضاء من غير النبلاء، رجال دين، وممثلين للمدن في تكوينه، وسرعان ما توسع تشكيل البرلمان الإنجليزي الذي لم يعد تعبير عن جمع الملك للبارونات لمجرد التشاور متى رأى ذلك ملائمًا.
وعندما حاول الملك تشارلز الأول أن يعيد عجلة الزمن للوراء بحكم استبدادي، شبَّت حرب أهلية انتهت بمقتله على يد القوات الموالية للبرلمان 1649م، ثم قامت الثورة المجيدة البيضاء التي لم تسفك فيها دماء سنة 1688م على الملك جيمس الثاني الذي أثار البرلمان لأنه كاثوليكي بينما الشعب بروتستانتي، وكانت محاولتيْه لإضعاف الكنيسة الإنجليزية لصالح البابوية وإلغاء قانون حظر تولي الكاثوليك الوظائف العامة أدتا إلى تمرد النبلاء عليه، فدعا البرلمان “وليام” أمير أورانج لتولي الحكم فاضطر جيمس للهرب، بينما اعترف وليام بسلطة البرلمان مقابل القسم بالولاء له، وأقر وثيقة الحقوق 1689م التي نصت على أن حق الملك في التاج مستمد من الشعب الممثل في البرلمان وليس من الله منهيةً عقيدة الحق الالهي للملوك، وحظرت على الملك اصدار القوانين، أو تعطيلها، أو فرض ضرائب، أو تشكيل جيش إلا بموافقة البرلمان الذي يتمتع أعضاءه بحرية إبداء الرأي بلا قيود.
ولم يمر الأمر بسلاسة بعد ذلك بل استمر الصراع طويلًا بين الديمقراطيين الذين رفعوا راية حقوق الإنسان والمساواة وسيادة القانون، وبين الملكيين الذين رفضوا هذه الآراء، يُلخص فنري هوبز الرؤية المعارضة للديمقراطية والمؤيدة للسلطة المطلقة للملوك بقوله أن الإنسان ليس كائنًا اجتماعيًا كما صوره أرسطو، وانما كائن أناني لا يعمل إلا بالقدر الذي يحقق مصالحه الشخصية، وهذا هو الذي أدى لقيام العقد الاجتماعي بين الأفراد ويتنازلوا عن حقوقهم الطبيعية مقابل أن يعيشوا في نظامٍ اجتماعي، وليس في فوضى الفطرة التي وإن كانت تهب الجميع حرية مطلقة فإنها تعني أن لا أحد حر حقيقة لأن لا أحد آمن، والكل يعيش في حرب لأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
ولكن الطبقة البرجوازية التي كانت تكتسب قوة يومًا بعد يوم، لم تقل مباشرة هذه الأفكار تمثل تهديد مباشر لمصالحها الاقتصادية ومكاسبها التي يمكن لملك جائر أن ينتزعها منهم، ويعيدهم إلى نقطة الصفر بحيث لا يمتلكون شيئًا، ولا سبيل أمامهم لحماية مصالحهم إلا بالدفاع عن الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، ولعب مجلس العموم البريطاني دور ممثل هذه الطبقة ومصالحها.
ثم ظهر لوك وكان لكتابه “رسالتين عن الحكومة المدنية” أثر بليغ قي تكوين مرجعية فكرية نظرية ملائمة لأفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان، فبينما اتفق مع هوبز أن الدول تكون نتيجة عقد اجتماعي، لم يرجع هذا العقد للخوف من الفوضى وانما اعتبر حالة الفطرة محكومة بقانون الطبيعة العادل، والذي تعرض للاضطراب بسبب اندفاع الأفراد لزيادة ملكيتهم، وهكذا اختل التوازن في المساواة، فنشأت الحاجة إلى القانون، وظهر المجتمع المدني ليحل الخلافات بين الناس الذين أقاموا عقدًا مع الحكومات عهدوا فيه بالطاعة مقابل حماية حقوقهم وملكياتهم، فأضحى معنى الحرية الجديد أن لا يخضع الفرد إلا للقانون الصادر من السلطة التشريعية المتفق عليه، فلم يتنازل الناس عن كافة حقوقهم للحاكم كما زعم هوبز وإنما تنازلوا عن قدرٍ معينٍ منها يمكنه من اقامة السلطة والتي يحدها احترام حقوق الأفراد، هي ليست مطلقة، فإن خالف الحاكم هذه الشروط يحق للناس الثورة عليه، وكان هذا الكتاب بمثابة مانفيستو الثورة الإنجليزية 1688م ومرجعتيها الفكرية والفلسفية، والتي أدت لخلع الملك جيمس الثاني، واصدار قانون الحقوق الذي حول سلطة الملك الى سلطة محكومة بالبرلمان.
نلاحظ في تلك الوثائق التي تعد أولى وثائق حقوق الإنسان أنها ذات صبغة بريطانية بحتة، حيث عبرت عن طبيعة الصراع السياسي في إنجلترا بين النبلاء والملك، ولم تكتسب صبغة عالمية كتلك الناتجة عن الثورة الفرنسية وإنما كانت تنصب على اشكالات الطبقة البرجوازية وتطلعاتها.
وعندما اشتعلت الحرب بين إنجلترا وفرنسا في القارة الأمريكية، كانت الغلبة للإنجليز معتمدة على قوة المستعمرات الأمريكية التي أشعرت الساسة الانجليز بالقلق من تعاظم قوتها التي ظهرت في نتائج مؤتمر ألباني بنيويورك الذي أوصى بتكوين مجلس أعلى من أعضاء المجالس الإقليمية يكون منه سلطته بالتعاون مع حاكم التاج البريطاني، ويصدر القوانين، ويجمع أموال لتمويل الدفاع وتسليح الميليشيات، بينما اقترح البريطانيون أن تمول ميزانية الدفاع ضد الفرنسيين من الضرائب وقد عارضت المستعمرات معارضةً شديدة على أن تكون كافة مصالحهم ووجودهم ذاته مرهونٌ برغبات الساسة في لندن دون أدنى تمثيلٍ لهم. سرعان ما اشتعل الصراع بين المستعمرات والحكومة البريطانية حول الضرائب والرسوم التي فرضها البريطانيون، والقيود التي وضعوها على التجارة، وسرعان ما تحولت الاعتراضات للعنف فوقعت مذبحة بوسطن 1770م؛ حيث أطلقت القوات البريطانية النار على المحتجين على قوانين، وأُنشِئت مفوضيات في المستعمرات لتحصيل الضرائب وتعطيل برلمان نيويورك، وفرض رسوم على واردات المستعمرات، وبدأت حركة الإستقلال الأمريكية تكتسب زخمًا.
في 1773 م أصدر البرلمان البريطاني قانون لإعفاء الشاي الذي تصدره شركة الهند الشرقية للمستعمرات البريطانية من الضرائب، ولكن الأمريكيين قاطعوا شاي الشركة، وقام مجموعة منهم بالهجوم على سفنها في ميناء بوسطن، وألقوا شحنة الشاي في البحر، فقامت السلطات البريطانية بإغلاق ميناء بوسطن ومطالبة أهالي المدينة بتعويض الشركة، وفرضوا قوانين بقيود على الإجتماعات في محاولة لاخضاع المستعمرة المتمردة، ولكن هذا زاد النار اشتعالاً.
سرعان ما تطور الأمر لمواجهة عسكرية في كونكورد 1775م بين ميليشيات ماساتشوستس والقوات البريطانية، منيت فيها بريطانيا بهزيمة كانت بداية لحرب الإستقلال الأمريكية، التي بنهايتها أصبحت أميركا أول أمة تقوم بصياغة دستورها الخاص دون علاقة بالسلطة الملكية، بناءً على تكاثف المستعمرات التي اضطرت للتعاون لمواجهة العدو المشترك، ثم لتنظيم حياتها السياسية بوثيقة الاستقلال الأمريكية التي صاغها جيفرسون متأثرًا بأفكار جان جاك روسو وجون لوك 1776م علامتها المميزة وبياناً دائمًا لحقوق الإنسان.
عبرت رياح التغيير المحيط الأطلسي إلى فرنسا المضطربة التي اشتعلت ثورتها الشهيرة سنة 1789م، واستمرت لعقدٍ كامل، وكانت ثمرتها ذات أثر عالمي تمثل في إعلان حقوق الإنسان والمواطن 1789م والتي جاءت أهم بنوده كما يصفها المؤرخون بأنها أقوى أثراً من كل جيوش نابليون كالتالي:
1-يولد الناس ويعيشون أحرارًا متساوين في الحقوق ولا يمتاز بعضهم عن بعض إلا فيما يخص المصلحة العمومية.
2-غرض كل اجتماع سياسي حفظ الحقوق الطبيعية للإنسان والتي لا يجوز مسها وهذه الحقوق هي: حق الملك، وحق الأمن، وحق مقاومة الظلم والاستبداد.
3-الأمة هي مصدر كل سلطة وكل سلطة لا تكون صادرة من الأفراد والجمهور تكون سلطة فاسدة.
4-كل النَّاس أحرار والحرية هي اباحة كل عملٍ لا يضر أحد، وبناءً عليه لا حد لحقوق الإنسان الواحد غير حقوق الإنسان الثاني ووضع هذه الحدود منوطٌ بالقانون دون سواه.
5-ليس للقانون حق في أن يحرم شيئًا إلا إن كان فيه ضررٌ للهيئة الاجتماعية، وكل ما لا يحرمه القانون يكون مباحًا كما لا يجوز إكراه إنسان على شيء ما لم يطلبه القانون.
6-القانون عبارة عن إرادة الجمهور فعلى كل واحد من الجمهور أن يشترك في وضعه سواءٌ بنفسه أو بواسطة نائبٍ عنه، ويجب أن يكون هذا القانون واحد للجميع، أي أن الجميع متساوون لديه، ولكل واحد منهم الحق في الوظائف والرتب بحسب استعداده ومقدرته، ولا يجوز أن يفضل رجل على رجل في هذا الصدد إلا بفضيلته ومعارفه.
7-لا يجوز إلقاء الشبهة على رجل أيا كان ولا القبض عليه ولا سجنه إلا في الأحوال التي حددها القانون وبموجب الطرق التي يذكرها.
8-لا يجوز أن يعاقب القانون إلا العقاب اللازم الضروري، ولا يجوز أن يعاقب أحد إلا بموجب قانون مسنون قبل الجرم ومعمول به قبل وقوع الجريمة وكل إنسان يحسب بريئًا إلى أن يثبت ذنبه.
9-لا يجوز التعرض لأحد بسبب أفكاره حتى في المسائل الدينية شرط أن تكون هذه الأفكار غير مخلة بالأمن العام.
10- إن حرية نشر الأفكار والآراء حق من حقوق كل إنسان، فلكل إنسان أن يتكلم ويكتب وينشر آراءه بحرية شريطة أن يكون مسؤولًا عن إساءة استعمال هذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون.
11-لكل المواطنين الحق في مراقبة أموال الضريبة ولهم الحق في البحث عن أوجه انفاقها ومدة جبايتها.
12- حق الملكية من الحقوق المقدسة فلا يجوز نزع ملكية أحد إلا إذا اقتضت المصلحة العمومية ذلك اقتضاءً صريحًا وفي هذه الحالة يعطى الذي تنزع منه ملكيته تعويضًا كافيًا.
كانت هذه البنود المستوحاة من أفكار جان جاك روسو وخاصة من كتابه “العقد الاجتماعي” تعبيرًا عن الطبقة البرجوازية، فركزت على حماية الملكية الفردية وإلغاء الإمتيازات الطبقية وحق المشاركة في الحكم، وهذه كانت مطالب الطبقة البرجوازية التي ثارت على الأرستقراطية التي حالت بينها وبين المشاركة في السلطة وتنمية مصالحها الاقتصادية، وقد لاحظ “روبسبير” أحد قادة الثورة هذه فقال:“لقد أعطيتم أوسع مدى ممكن لحق التملك ولم تضيفوا كلمة واحدة للحق من هذا الحق، مما نجم عنه أن إعلانكم لحقوق الإنسان قد يعطي انطباعًا أنه لم يصنع للفقراء وإنما صنع للأغنياء والمضاربين والمتعاملين في البورصة”.
ولم يخل الأمر من معارضة قوية، وكان تعبير بيرك على إعلان الحقوق (قصاصات ورق حقوق الإنسان الحقيرة الغامضة) لسان حال الكثيرين، ووصف جريمي بنتام حقوق الإنسان بأنها هراءٌ منمقٌ وجعجعةٌ فارغةٌ، ذلك لأنها صدرت في عصر كان فيه الفيلسوف ورجل الشارع والسياسي والعالم يتفقون على أن بعض الأجناس أرقى من بعضها، وأنه من حق الأوروبي الأبيض أن يستعمر الأمم الأخرى، ويسترق أبنائها وكانت المذابح الطائفية والعرقية قائمة على قدم وساق.
الثورة الفرنسية التي أنتجت هذه الوثيقة الهامة “حقوق الإنسان والمواطن” اتسمت بالعنف الشديد والدموية، وفي حمى النزق الثوري أصبحت بنود تلك الوثيقة تبدو كمزحة سخيفة، فقد قُتل عشرات الآلاف على المقصلة بتهمة عداء الثورة، ومات عشرات الآلاف في غياهب السجون بلا محاكمة، ومارس الثوريون قمعًا و اضطهادًا بالغي القسوة على معارضيهم، وقامت حملة عنيفة ضد الكنيسة الكاثوليكية التي أممت الثورة أراضيها، ومُنعت الأعياد والاحتفالات الدينية، ودُمرت كنائس عدة وذُبح رجال الدين في الطرقات والميادين على أيادي الغوغاء بل أعلن “روبسبير” عبادة الطبيعة وإلغاء المسيحية في كنيسة نوتردام، وأعلنت في 1794م عبادة “الكائن الأسمى” باعتبارها ديانة الدولة الجديدة.
وقوبل هذا التطرف بالعديد من حالات التمرد، وقوبلت الثورة المضادة بالعنف الوحشي، ويقدر المؤرخون ضحايا قمع ثورة فلاحين فيندي بما يصل إلى 250 ألف نفس. لمجابهة حالات التمرد أقر قانون التجنيد الإجباري وتعبئة المواطنين في تنظيمات عسكرية ضد الأعداء الخارجيين والداخليين على حد سواء باعتبار الجميع أعداء الحرية، وانتهت الثورة بإقامة ديكتاتورية عسكرية توسعية أعلن فيها نابليون بونابرت نفسه امبراطورًا.
وعلى الرغم من أن نصوص إعلان حقوق الأنسان كانت عامةً مجردةً، فإن هذه الحقوق لم يكتسبها العبيد ولا الأجانب، ولا حتى النِّساء، وأُخرج من نطاقها كل من هو ليس بذكرٍ أبيض باختصار. فحتى مواطني فرنسا تم تقسيمهم إلى مذعنين لا حقوق سياسية لهم كالأطفال والنساء والأجانب، ومواطنين من الرجال الأحرار يتمتعون بالحقوق السياسية. ونكث الثوريون وعودهم وقراراتهم بسرعة، وألغي حق النساء في الطلاق والتساوي مع الذكور في الميراث، وعندما كتبت “أوليمب دي غوج” أن المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية سيقت إلى المقصلة بوصفها عدوة للثورة.
حصل البروتستانت ثم اليهود على حقوق المواطنة على مضض، حُرم منها الأحرار من السود والمخلطين في فرنسا ومستعمراتها، وتمرد العبيد في سان دومينجو 1791م عندما أعلنت الجمعية العامة الفرنسية في نفاق واضح أن حقوق الإنسان لا يمكن تطبيقها على المستعمرات وإن اضطر بعدها أعضاء الجمعية بعد أن حرضت إنجلترا وإسبانيا العبيد في المستعمرات على الثورة أن يعلنوا إلغاء الرق في كافة المستعمرات سنة 1794م.
بعد وصول نابليون للسلطة أرسل حملةً عسكريةً هائلةً إلى سان دومينجو سنة 1802م حيث أعادت الرق بالقوة لتستمر العبودية في المستعمرات الفرنسية حتى عام 1848م. أما في هايتي فقد تمكن العبيد من تحرير أنفسهم بعد معارك طاحنة مع الجيش الفرنسي الذي يرفع شعار الجمهورية (الحرية والمساواة والإخاء)، فعوقبت الجزيرة بمقاطعة اقتصادية، وحصار، وحكم سلطوي فاسد، جعلها إلى اليوم أحد أفقر بقاع الأرض وأقلها أمناً.
ولعل السبب الأقوى في انتكاسة أفكار حقوق الانسان وتراجعها هو صعود الأفكار القومية التي ارتبطت بالإمبريالية والغزو كوسيلة لجلب الشرف للوطن من ناحية وجلب الثروات الهائلة من الشعوب المقهورة من ناحية أخرى، فكان ظهور القومية التي اعتمدت على تميز الأمة القومية عما سواها، تتناقض بشكل جلي مع فكرة حقوق الإنسان القائمة على تساوي كافة الناس. واعتمدت الإيدولوجيات القومية على النقاء القومي والخلقي والجنسي، فلم تكن متسامحة على الإطلاق مع الأفكار التي تضعف الأمة وترابطها المقدس سواء كانت الاختلافات دينية، أو عرقية، أو السياسية، فناصبت العداء للأفكار الشيوعية كما عارضت الليبرالية؛ فالأولى تضعف الأمة لصالح الطبقة والأخرى تضفها لصالح الفرد.
كذلك لم تكن الماركسية تتقبل فكرة حقوق الإنسان التي وصفها ماركس بحقوق الإنسان الأناني في مقالة حول المسألة اليهودية:”ما يسمى بحقوق الإنسان، وهي خلاف حقوق المواطن، ليست سوى حقوق أعضاء المجتمع البورجوازي، هذا يعني الإنسان الأناني، الإنسان المنفصل عن الناس وعن المجموع، إذن فلا يتجاوز أيٌ مما يسمى حقوق الإنسان الإنسان الأناني، فالإنسان كعضو في المجتمع البورجوازي، منطوٍ على نفسه وعلى مصالحه الخاصة ورغباته الخاصة، وفرد منفصل عن المجموع. ما أبعد أن يكون الإنسان قد أعتبر فيها كائنًا نوعيًا بل تبدو حياة النوع نفسها، المجتمع، كإطار خارجي للأفراد وتقييد لاستقلالهم الأصلي. والرابطة الوحيدة التي تمسك بها هي الضرورة الطبيعية، الحاجة والمصلحة الخاصة، أي حفظ ملكيتهم وشخصهم الأناني”.
ومع القومية صعدت الإيدولوجيا العنصرية، واكتسب زعم رقي بعض الأجناس عن بعضها ثوبًا علميًا زائفًا، وفاقمت الإمبريالية هذه الأفكار، فقد غزا الفرنسيين الجزائر سنة 1830م، واستولى البريطانيون على سنغافورة سنة 1819م، ثم نيوزيلاندا سنة 1840م. وبحلول عام 1914م كانت إفريقيا تكاد تخلو من بقعة غير محتلة من قوة أوربية تدعي انها تجلب الحضارة لها. قبل هتلر بعقود طويلة كانت أمريكا تحظر هجرة الصينين إليها سنة 1882م؛ وفي 1905م أقرت بريطانيا قانون الغرباء لتمنع هجرة غير المرغوب فيهم من الهجرة إليها وكان المقصود بشكل رئيسي يهود شرق أوروبا.
على كل ففكرة حقوق الإنسان في عقول من صاغوا نصوصها كانت حقوق الرجل العاقل بغض النظر عن موقعه الطبقي، وهنا يُستثنى بالضرورة الرقيق وكذلك النساء والذين لا يمتلكون إلا قدرتهم الجسدية على العمل لأنهم ليسوا مستقلين فكريًا، ولا قادرين على اتخاذ قراراتهم الخاصة مثلهم مثل الأطفال وفاقدي الأهلية، وبالقياس الجلي فالشعوب “البربرية” غير المتحضرة مثلها مثل فاقدي الأهلية والأطفال، لا يمكن اعتبارها مستحقة لحقوق الإنسان لأنها تحتاج إلى رعاية الأوروبي المتحضر. وباختصار كانت حقوق الإنسان يقصد بها فعليا حقوق الرجل الأبيض.
إن لأثر الإيجابي الواضح لفكرة حقوق الإنسان كان في منع التعذيب كممارسة قانونية وعقوبة، ففي 1780م ألغت الحكومة الفرنسية التعذيب لانتزاع الاعترافات قبل الإدانة، وفى 1783م أوقفت الحكومة البريطانية المسيرات لمشاهدة عمليات الإعدام، وفي 1789م ألغت الحكومة الثورية الفرنسية التعذيب القضائي كافة واستبدلته بالإعدام بالمقصلة كوسيلة سريعة لإنهاء حياة المدانين.
كان التعذيب القضائي منتشرًا منذ القرن الثالث عشر نتيجة لإحياء القانون الروماني، ومحاكم التفتيش الكاثوليكية لمعاقبة الهرطقة، وكان بفرنسا خمس أنواع من عقوبات الإعدام: قطع الرأس للنبلاء، الشنق للمجرمين من العامة، السحل والتقطيع إلى أربعة أجزاء للمدانين بجرائم ضد الملك، الحرق على الخازوق للمدانين بجرائم الهرطقة ومزاولة السحر واشعال الحرائق واللواط والقتل بالسم، والأكثر شيوعًا هو السحق للمدانين بجرائم القتل والسطو المسلح بعجلة السحق الشهيرة “عجلة كاثرين”، التي كانت تربط أطراف المدانين بها ثم تدور لتحطم عظامهم، ثم يُتركون ليموتوا موتًا بطيئًا في غاية الألم. وكانت لحملة المفكر الفرنسي الكبير “فولتير” ضد انتزاع الاعترافات بالتعذيب أثر كبير في انهاء هذه الممارسات، حيث اتهم شخص بروتستانتي اسمه جون كالاس بأنه قتل ابنه حتى لا يتحول إلى المذهب الكاثوليكي، وعُذِّب هذا الشخص بقسوة حتى قضى تحت التعذيب وهو يصر على براءته، وبعد القبض على أفراد أسرته ومصادرة ممتلكاتهم، صُدر الحكم النهائي من المجلس الملكي ببراءتهم جميعًا، وأدت حملة فولتير ضد رجال الشرطة والقضاء الذين دفعهم التعصب الديني إلى اتهام الاب وافتراض أنه قتل ابنه الذي انتحر في الواقع إلى تعاطف شعبي كبير مع القضية ومطالبات بمنع التعذيب القضائي.
كانت ممارسات التعذيب الوحشية وخاصةً في حالة الإعدام ذات طبيعة قربانية يقدم فيها المذنب/ الضحية نفسه فداءً للمجتمع وقربانًا له، حتى أن القانون الفرنسي كان ينص على أن يحمل المجرم المدان شعلةً ناريةً ويقف أمام الكنيسة طالبًا العفو والمغفرة قبل إعدامه على المقصلة، ولكن مع تصاعد العلمانية وتراجع دور الدين لم تعد العقوبات ينظر إليها كتكفير عن الذنوب، ولم يعد التعذيب مبررًا باعتباره يخفف العقاب في الآخرة فلا تكون خطاياه حائلًا بينه وبين دخول الفردوس بعد موته، وبقي جانب التشهير بالمجرم ومشاركة العامة في عقابه بالمشاهدة الذي عرفته كافة المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ مبررًا بتحقيقه الردع العام، ولكن صعود فكرة حقوق الإنسان أسقطت هذا المبرر ببساطة فالبهجة والمرح الفاحش الذي أتسمت به الجماهير التي كانت تذهب لتشاهد عمليات التعذيب الوحشية والإعدام كان دليلًا قاطعًا على أن ألفة الجماهير لهذه المشاهد الوحشية قد أدى عكس المطلوب، وتدريجيًا حلت العقوبات المالية محل الجلد بالسياط، والسجن محل التعذيب و أصبحت عمليات الإعدام لا تتم علنية، ولا تُعلق جثث الضحايَا في أعمدة للعرض على العامة، وتدريجيًا لم يعد العقاب بمنزلة تكفير عن الخطيئة أو تقديم قربان للمجتمع، وإنما وسيلة للإصلاح وتنفيذ لسلطة الدولة القانونية.
كان هذا التغيير الكبير راجعًا لتغيير في مفهوم الشرف والاعتبار، فلم يعد يشير إلى العفة والاستقامة الأخلاقية، وارتبط بطبقة النبلاء، وإنما أضحى كل مواطن شريف يعني أنه يطيع القانون حتى يثبت العكس بإدانته بجريمة. ومع صعود دولة القانون التي تقوم على الإجراءات القانونية في إطار المساواة أصبحت الجريمة والعقوبة شخصية لا تتعدى شخص المجرم لعائلته، ولا يشارك فيها العامة، ولا قيمة لاستحسانهم أو استهجانهم لها.
وبعد الحربين العالميتين وصل فيهما العالم لحافة الهاوية والانقراض بسبب إمبريالية الرجل الأبيض وجشعه غير المحدود، والأفكار القومية المتطرفة، عاد موضوع حقوق الإنسان إلى الصدارة ليكون معيار للصواب الأخلاقي والسياسي والقانوني، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانها التاريخي لحقوق الإنسان 1948م، لتكون بداية جديدة لحقوق الإنسان التي انتهكها الرجل الأبيض، ولكن أيضًا بشروطه ورؤيته حيث الحرية الفردية، والاقتصاد الحر، والمادية الرشيدة، والفصل بين الدين والدولة بعلمانيات متنوعة سمات أساسية لمفهوم حقوق الإنسان “الغربي” مقابل رؤى مغايرة أبرزها الشيوعية التي قدمت حقوق المجتمع على حقوق الفرد، وإن لم تصمد في الاختبار وسقطت سريعاً؛ وتحولت حقوق الإنسان إلى جزء من الثقافة الغربية التي “تُفرض” على الثقافات الأخرى، وكأن الرجل الأبيض لا يريد التوقف عن لعب دوره التاريخي في نقل سائر الأمم إلى الحضارة والتقدم. واسْتُعْمِلت حقوق الإنسان كورقة ضغط ووسيلة للهجوم على الدول الإستبدادية (إلا أنه كانت دولا حليفة ترتبط بمصالح استراتيجية للغرب فيغض النظر عما تفعله بشعوبها أيا كان).
تدريجيًا أصبح هناك ما يسمى بمجتمع الحقوقيين العالمي غير مرتبط بمصالح دولٍ بعينها، ولكن بقضايا فئوية فكان التضامن الواسع من الأمريكيين ذو الأصل الإفريقي ضد نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا من أهم أسباب تزايد الضغط الدولي حتى سقوطه، وكذلك الحال في القضايا النسوية والجندرية التي تجد صدى عالمي، وتضامن الصحفيون والإعلاميون حول العالم قضايا حريَّات الرأي والتعبير.
كانت حقوق الانسان دومًا معركة ضد السلطة باسم الحرية والعدالة والمساواة، ولَمَّا كانت الأقلية المستبدة هي السلطة في بدء الأمر كان الصراع ضدها ثم تحول إلى الأغلبية المسيطرة بحثًا عن حقوق الأقليات في العصور التالية، ولكن أين العالم الإسلامي من هذه المعركة؟.
لم يمر العالم الإسلامي بالظروف التاريخية التي أنتجت مفهوم حقوق الإنسان في الغرب، فقد كانت حقوق الإنسان تعبيرًا عن إرادة الطبقة البرجوازية الثائرة على أوضاعها من ناحية، وبديلًا علمانيًا للمعيار الأخلاقي الذي كانت تقدمة الكنيسة التي ثاروا عليها بينما تأخر ظهور الطبقة البرجوازية بشكل عام في بلدان الشرق الإسلامي ولم تحمل عداء للدين ولا ثارت عليه. ولكن هذا لا يعني تعارض ما بين فكرة حقوق الإنسان بشكل عام والثقافة الإسلامية، فجوهر الفلسفة الإسلامية هو كل عباد لله يلتزمون بشريعته التي هي معيارٌ واحدٌ ينطبق على الجميع، ويحقق العدالة لهم بغض النظر عن موقعهم من السلم الاجتماعي، فالحريّات هي المباحات شرعًا والعدل هو تطبيق الشرع الذي يتساوى الجميع أمامه من رأس السلطة إلى أضعف فرد في المجتمع، وما كان الخلل وسقوط الحضارة الإسلامية واضمحلالها إلا جراء الإخلال بهذا المبدأ الجوهري.
إن حقوق الإنسان مثلها مثل الديمقراطية، والمواطنة، وسيادة القانون، أفكار قائمة على محاولة تفعيل قيم العدالة والمساواة في أطرٍ عقلانية عملية، وهذه القيم ليست اختراعات غربية، ولا حكرًا على الرجل الأبيض كما أدعي، ولكن كما أنتج الغرب رؤيته لهذه القيم من خلال تجربته التاريخية الخاصة، فلكل مجتمع الحق في أقامه تجربته الخاصة والخروج برؤيته الخاصة لا تتبع خطوات غيره. وإن كان الرجل الأبيض قد تخلى عن دوره التنويري في توجيه الأمم والشعوب إلى طريق الحضارة رغمًا عنها فلا ينبغي أن نتطفل عليه، ونحاول نقل تجربته وأفكاره نقل الحمار، يحمل أسفاراً بل نقوم بواجبنا، ونتفكر بأنفسنا لأنفسنا ونمارس حقنا في الاختلاف والتفكر والتجريب.
المصادر: نشأة حقوق الإنسان – لين هانت الأصول التاريخية لحقوق الإنسان – كريمان محمود موجز تاريخ الحرية - محمد يونس