أصل التفاوت بين الناس: جان جاك روسو و”قصة الجنس البشري”

يُعد خطاب روسو حول “أصل التفاوت بين الناس” من أقوى الآراء النقدية للحداثة، فيمثل صرخةً مبكّرة من نوعها فى عصر التنوير أثناء الثورة الفَرنسية، واصفًا الخراب الذى حل بالطبيعة البشرية، ومحاولًا التأمل في حياة الإنسان قبل نشأة المجتمعات والأسر. تأثر بتلك الفلسفة والعديد من فلسفات روسو الكثيرٌ من الشخصيات والحركات السياسية.

خَطَّ روسو في منهجيته رحلةَ البشرية من لبنَتُها الأولى -منعزلًا عن أيٍّ من السياقات الدينية- مُحاولًا رسم حياة الإنسان في طبيعته وصولًا للإنسان المُتمدّن -المُنحط حسب قوله-. يستعين روسو بالفحص التأملي -شأن الطبيعة-، لذا فهو لا يُنشد الحقائق التاريخية، وإن كان فى بعض الأحيان يتعامل مع فرضياته هَذه على أنها حقائق؛ لذا أخذ عليه بعض النقاد هذه الثغرة فى تقديم فرضياته تلك التي تبدو فى أسلوبهِ وكأنها الحقائق الأصيلة عن الإنسان.

عندما كان الإنسان وحيدًا قبل نشأة الأسر والمجتمعات:

كان لا يعرف سوى الطبيعة وحيواناتها. فكان جسده هو سلاحه وسبيلة الوحيد للنجاة، واصفًا إيّاهُ بأنه كان إنسانًا ساذجًا وبسيطًا. تتمثل احتياجاته في: الطعام، والجنس، والراحة. فكانت الأهواء والغرائز مُحركه الأساسي. ومن هذه النقطة ينتقل روسو لوصف الإنسان بكونه ذا طابعٍ حيوانيٍّ فى المقام الأول، ولكنه يتميز بقدرته على التطور خاصةً على المستوى السيكولوجي، فيُشير روسو إلى أن مبدأ الخير لم يكن شيئًا متأصلًا في الإنسان؛ ليَذعن بأن الإنسان” آثمٌ بطبيعتِهِ”.

الإنسان في مرحلة التعامل غير الإلزاميّ:

وهي تُعد أفضل مراحل الجنس البشرى طبقًا لحَيثِيَّة روسو.

الذى جعل الإنسان يذهب إلى شيءٍ من التعاون مع بعضٍ من أفراد جنسِه البشري -التغيُراتُ التي طرأت على الطبيعة، مُشيرًا إلى أنه لم يكن بالتعامل الإلزامي، بل كان بمجمل ما تتطلبه الحاجة، أو لدفع مضرة مُعينة. فعند أخذ موقف التزاوج مثالًا من هذه المرحلة، لم يكن تزاوجًا إلزاميًا بالشكل المُتعارف عليه، بل كان أكثر امتثالًا للتزاوج الحيواني. فلا يوجد أيٌّ من القوانين سوى قانون (الردع بالانتقام). تلك الحالة من العدمية الأخلاقية للإنسان أنه لا يوجد وَخزٌ ضميري، ولا خير ولا شر، ولا يوجد معانٍ للفضيلة أو الرذيلة. فلا توجد مشاعر سوى مشاعر الرحمة، فيرى أنها شيءٌ مُتأصلٌ فى الإنسان. ولكن كلامه هذا مردودٌ عليهِ، فكيف يمكن للإنسان البدائي الذي لا يخضع سوى للطبيعة وقوانينها -كما أذعن- أن يُدرك معانٍ كالشَفقة والرحمة. فقوانين الطبيعة القائمة بشكلٍ محوريٍّ على القوة والصراع من أجل البقاء للأقوى لا يُمكن أن توحي بمثل هذا. فأين الشفقة إذًا؟

إعلان

أضاف روسو أنه في هذه المرحلة من التعاون غير الإلزاميّ لم يكن الاستعباد قائمًا. فكان الإنسان حرًا للدرجة التى لا حدود لها. كان يرى أن هذه السمة هي أفضل سمات الإنسان على الإطلاق. ولكن كيف للإنسان البريّ الذي يجهل سماته البشرية، وليس لديه أيٍّ من المراجع الأخلاقية أن يُدرك منطق الأمور، أو سمة كهذه أختلف على كينونتها أجيال من الفلاسفة؟!

بداية تكوين الأسر، وظهور اللغات، والتَمَلُّك:

بداية معرفة الفرد لبعض من الحرف البسيطة، فتشكُّلَ المُجتمع وقوانينه، فكان يرى أن تلك القوانين هي نقطة البداية التي وضعت الإنسان فى موقفٍ يَجب عليهِ فيه اتباع وجهةٍ أخلاقية معينة -كما ذكر- فالأخلاق ليست بالشيء المُتأصل فى الإنسان. ظهر التزاوج بالشكل المُتعارف عليه، وتكونت الأسر. وهذا الموقف المستحدث من التزاوج أدى إلى البداية فى تصنيف كلا الجنسين وفقًا لمعايير معينة لأداءات مُحددة لكلٍّ منهما. فكانت هذه الخطوة هي نقطة باكُورَة خنوع المرأةُ للرجل -في فلسفة روسو-.

بدأ التملك ورغبة بعض الأفراد الاستئثار بجزء من الأرض دون غيرهم، فكان يرى روسو أن الامتلاك هو أصل كل الشرور. فأي رعب ومأساة هذه التي تنتظر الجنس البشري! فمن أقوال روسو: “لا يمتلك أيُّ إنسانٍ في طبيعته سلطةً مُؤصلةً تجاه أحد من البشر”. لم يستهجنَ روسو الملكية من حيث المَبدأ مثل “ميخائيل باكونين” في فلسفتهِ الأناركية الشهيرة -اللاماركسية- لكنهُ استنكر تفاوت تلك الملكية بين البشر. فاستحواذ جزء من الجنس البشري على بعض السُلطات دون غيرهم، يُقيد من حرية باقي أفراد الجنس البشري. يشير روسو أنه ما من إنسان إلا ويولد حرًا، فهذه هي الحقيقة الأصيلة عن الإنسان. ولكنه أسيرُ أيّ مجتمعٍ يَمتثل إليه، وهذا ما سوف يشير إليه في كتابهِ العقد الإجتماعي.

رسم روسو صورةً مُعقدةً للحداثة، لينتهي إلى أن أصل التفاوت بين الناس جاء من رحم “التَمَلُّك”، أصل كل الشرور. ولكن تَصاعُد وتَحامُل هذا التفاوت هو نِتَاج تطور النفس البشرية دون الحيوان.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: إسراء حامد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تدقيق علمي: دينا سعد

اترك تعليقا