القديس مرقص في مصر.. ثانيةً
منذ أربعة أعوام أو يزيد، وفي إحدى مدارس مدينة المحلة الكبرى بعد اختبار مادة الدراسات الاجتماعية -الشهري- وقف فريقان من الطلبة بأحد الفصول وقد اشتدّ بينهما الجدال واحتدم، “يا عم والله العظيم بالسين، إنت جاهل يابني!” قالها أحد الطلاب رافعاً ملزمة الأستاذ “فلان الفلاني” تيرانوصورس مادة الدراسات بأحد المعاهد الدراسية.. ليردّ عليه آخر رافعاً ملزمةً أخرى لديناصورٍ آخر: ”يعني أستاذك اللي بيفهم وأساتذتنا معوقين! ما بالصاد أهي!” وهكذا دار النقار الذي كان قد ابتدأ حين شاركنا أحد زملائنا بوجله مرتعداً: “يا جدعان هي مرقس بالسين ولا بالصاد؟!”
والحقّ أنه لم يكن سؤالاً وجودياً يتوسّل به صديقنا هذا إلى افتتاح بابٍ للنقاش البنّاء نخرج منه بنبذة تاريخية أوسع عن الشخصية مثلاً، بل كان سؤالاً من طالب مصري في الصف الثاني الإعدادي يتوجّس أن يكون ثمن ذلك الخطأ الشنيع درجة أو درجتين تطرحان من مجموعه النهائي، فهو يعلم مُذ وطأت قدمه أرض مدرسة مصرية أن زلّاتٍ كتلك تعكّر صفو المصحّح المتربّص والذي بدوره ”هيزعّلك”، كما يعلم أنّ في انتظاره بالمنزل أبوين محبّين هو في نظرهما لا يتعدّى كونه “حصالة درجات”؛ أبوه يرى فيه حلمه البائد بأن يكون مهندس فنّي لتصليحِ أعطال “جاذبية وكبالن” بمحطة فضائية كبيرة تابعة لوكالة ناسا، وأمه تراه بطاقة رابحة للفوز بنزال الكيد النسوي في كل تجمع عائلي، ولما أطبق على نحره فَكّا الكماشة -الأسرة والمدرسة- تفتّق فمه عن ذاك السؤال الذي أشعل جدلاً لم يخمده سوى إعلان المعلّمة -متنازلةً- أنها “هتحسب الاتنين صح”.
أما أنا فلا أذكر لصالح أي الفريقين وقفت، ولا أعرف حتى سرّ تذكّري لهذا الموقف بالذات من بين مواقف المدرسة الإعدادية المشؤومة، ولا أظن أني قد نظرت إليه نظرةً فلسفية حينها، ولكنني الآن وقد مرت الذكرى على خاطري وأنا أجرّ أذيال عامي التاسع عشر انتابني شيء من الإشفاق نحو ”القديس مرقص”. ذلك الرجل الذي صاحب المسيح وسمع تعاليمه فوقعت موقعها من قلبه وراح يبشّر بالمسيحية في البلاد حتى بلغ مصر حيث انتشرت الرسالة على يده وشيّد أول كنيسة قبطية بها ليصير أول بطريرك لها حتى وفاته عام 68 م، فتخيّل معي القديس المسكين عائداً إلى مصر مرة أخرى في مطلع الألفية الثالثة ليرى ثمرة بذرته الأولى التي سبق أن غرسها ليجدنا نناقش صلاحية استخدام السين أو الصاد في كتابة مؤخر اسمه!
وأنا إن كنت مشفقاً على الشخصيات التاريخية في مناهجنا، والعلماء والفلاسفة الذين يسوء ذكرهم بإيداع أسمائهم منهجاً لا يعرف للحيادية مسلكاً تحت يدي معلمٍ يتقاضى 500 جنيهٍ شهرياً، أكون أشد إشفاقاً على حالي ومن هم مثلي ممن قضوا 12 عاماً من عمرهم يُلَقَّنون ولا يناقشون ويقرأون ولا يطبقون حتى استحالوا دفاترَ بالية ذات مدادٍ رديء لا يلبث أن يتلاشى بعد عامٍ من التدوين لتعاد كتابة نفس الصفحة مع العام الجديد بذات الحبر الطيّار.. وكم أضحك حين أذكر تلك الأيام التي كنت فيها صبياً ناشئاً يتخيل نفسه عالماً يمزج هذه المادة مع تلك ليخلص إلى إكسير يُنبت لمتلقّيه جناحين عارمين يحلّق بهما بعيداً أو مصلٍ لداءٍ نادرٍ بعد عدة محاولات ينفجر فيها دورق الاختبار في وجهه، قاتل الله أفلام الكارتون!
تتلاشى كلّ تلك الأحلام حين يدخل معمل المدرسة للمرة الأولى في الصف الرابع الابتدائي ليجد نفسه أمام سبورة سوداء، والمعمل خالٍ من الدوارق والأنابيب إلا من بعض الكراسي والمناضد ومعلمة التحفت بالسواد هي الأخرى وإذا بصوت ينطلق من بين السواد ويردد بلحن ركيك “ماري كوري عملت إيه؟” والجمع يرد.. ويردد.. طويلاً.. وها أنا ذا حصلت على الثانوية العامة ولم تمسّ يدي أنبوب اختبار سوى مرتين أو ثلاث، ربما كانت إحداها خلسة، ولا أدري أألعن تلك الرسوم المتحركة التي منحتني قدرة على التخيّل الذي لا حاجة لي به في واقعي أم ألعن بلادي ذاتها التي أحالت واقع الأمم الأخرى خيالاً نصبو إليه؟ كما الأحلام التائهة.
وكم هو هستيري ذاك السؤال دائم التردد في اختبارات الدراسات الاجتماعية والفلسفة والجيولوجيا والذي يطلب رأيك في قضية ما، وذاك الوعيد والتهديد الذي ينبثق من أفواه المعلمين على الدوام واللعنات التي ستنصب على رأسك إن كتبت رأيك أنت وإلا كلفك هذا درجة السؤال كاملة؛ فنموذج الإجابة يدور حول رأي المنهج الدراسي في تلك القضية ولا مكان لرأيك بين أسطر الإجابة ولا على هوامشها، هستيري لدرجة تدفعك إلى الضحك الذي يسلمك إلى البكاء.. والكثير منه.
أما عن “مرقص” فهي علم أعجمي ولا بأس أن تُكتب على الوجهين، ولكننا تعودنا ألا نرى إلا وجهاً واحداً لكل الأمور، تعودنا أن نراها من وجهة نظر المنهج.