القتل العمد والخطأ والضرب المفضي إلى الموت وأشياء أخرى…

أكتب هذا المقال لغير المتخصِّصين في القانون، أحاول به فضّ اشتباكٍ وإزالة التباسٍ طالما يؤثِّران على الأفهام بين صور مختلفة لإزهاق الروح من قتل عمد وضرب أفضى إلى موت وأحياناً قتل خطأ، وتوضيح درجات النقيضين العمدية والخطأ.

بادئ ذي بدء، لا بد من إعطاء نبذة مدخلية عن البنيان التقليدي للجريمة بصفة عامة نتعرَّض من خلالها لفكرة القصد الجنائي باعتبارها مفتاح الموضوع، والفيصل في التفرقة بين الصور المذكورة.

الجريمة ركنان، ركنٌ مادي وآخر معنوي. ويتكوَّن الركن المادي من عناصر ثلاثة، العنصر الأول هو السلوك الإجرامي أو النشاط الذي يرتكبه المجرم، وهذا السلوك قد يكون إيجابيًا مثل فعل إطلاق النار في القتل والاختلاس في السرقة وطلب العطية أو قبولها في جرائم الرشوة، وقد يكون سلبيًا بأن يمتنع الجاني عن أداء واجب قانوني، وأظهر مثال له امتناع الأم عن ربط الحبل السري لوليدها. والعنصر الثاني داخل الركن المادي للجريمة هو النتيجة الإجرامية المترتبة على السلوك الإجرامي، مثل وفاة المجني عليه في جرائم القتل أو إصابته في جرائم الضرب ودخول المال المسروق في حيازة اللص في جرائم السرقة. والعنصر الثالث وهو بدهي ويتمثَّل في علاقة السببية التي تربط بين السلوك الإجرامي والنتيجة الإجرامية، بأن تكون هذه النتيجة وليدة ذلك السلوك الإجرامي. وهناك نظريات عديدة في مسألة علاقة السببية ليس هنا مقامها، لكن ثمة مسألة هامة في هذا الصدد هي انقطاع علاقة السببية، ومثالها الشهير أن يعتدي شخص على آخر قاصداً قتله فيصيبه بجراح لم تسبب الوفاة ثمَّ يموت المجني عليه في المستشفى نتيجة خطأ طبي، هنا لا يسأل الجاني إلا عن جريمة شروع في القتل ولا يسأل عن الوفاة ذلك أنَّها لم تكن النتيجة الإجرامية المتولدة عن فعله، بل قطع خطأ الطبيب علاقة السببية بين الفعل والوفاة، ويسأل الطبيب عن جريمة قتل خطأ.

أما الركن المعنوي للجريمة فيكون في الجرائم العمدية “القصد الجنائي”، ويكون في الجرائم غير العمدية “الخطأ”. والقصد الجنائي قد يكون عاماً وقد يكون خاصًا، والقصد الجنائي العام أو قصد الإيذاء يتكون من عنصرين هما العلم والإرادة، أي يكون الجاني عالماً بماهية فعله وما قد يرتبه من نتائج وأن تتوافر لديه إرادة ارتكاب الفعل وإحداث النتيجة. ويتشدد القانون في عدد من الجرائم بأن يتطلب لتمامها أن يكون لدى الجاني قصد جنائي خاص أو نية خاصة، هي نية إزهاق الروح في جريمة القتل ونية التملك في جريمة السرقة، أما في جرائم الضرب فيكتفى بالقصد الجنائي العام.

وهذه القسمة العقلية تبدو حتى الآن واضحة سهلة، لكن تثور الصعوبة في جريمة الضرب عندما تتعدى النتيجة الإجرامية – العنصر الثاني في الركن المادي – المتمثِّلة في حصول الإصابة إلى نتيجة أشد هي الموت. حينئذ تبدو أهمية التفرقة بين القصد الجنائي العام أو قصد الإيذاء وبين القصد الجنائي الخاص أو نية إزهاق الروح، ففي جريمة القتل (مادة 234/1 من قانون العقوبات) تتوافر لدى الجاني عند إتيان فعلة نية إزهاق روح المجني عليه، أما في جريمة الضرب المفضي إلى الموت (مادة 236 عقوبات) لا يريد الجاني إلا إيذاء المجني عليه لكن فعله تعدى إلى إزهاق روحه إما نتيجة لقوة الضربة على سبيل المثال أو لضعف المجني عليه، وهي جريمة يكثر وقوعها في المشاجرات. والركن المعنوي أكثر صعوبة في الإثبات من الركن المادي ذلك أنَّه يتعلق بمكنون صدر الجاني، فتثبته التحقيقات من طريق استكناه مدلولات الأفعال التي يرتكبها الجاني باعتبارها تنم عما يضمره في دخيلته، وفي هذا قضت محكمة النقض بأنَّ: “من المقرَّر أنَّ نية القتل أمر خفي لا يدرك بالحس الظاهر وإنما يدرك بالظروف المحيطة بالدعوى والأمارات والمظاهر الخارجية التي يأتيها الجاني وتنم عما يضمره في نفسه، ومن ثم فإنَّ استخلاص هذه النية من عناصر الدعوى موكولٌ إلى قاضي الموضوع في حدود سلطته التقديرية”. [الطعن رقم 11034 –  لسنــة 67 ق  – جلسة 03 / 06 / 2008].

إعلان

القتل العمد عقوبته في الأساس السجن المؤبَّد أو المشدَّد، لكن العقوبة تشدد إلى الإعدام إذا توافر أحد الظروف المشددة، وهي سبق الإصرار والترصُّد والقتل بالسم واقتران القتل بجناية وارتباطه بجنحة. ويهمنا في هذا المقام ظرف سبق الإصرار وهو منفصل عن ظرف الترصد، فظرف سبق الإصرار ظرف نفسي يتعلَّق بنفسية الجاني كما سأوضِّح بعد قليلٍ، أما ظرف الترصد فظرف مكاني يفترض تربص الجاني للمجني عليه متحينًا فرصة النيل منه، لكن شاع ربط الظرفين في السينما والدراما وحوارات غير المتخصصين.

وقد عرفت المادة 231 عقوبات سبق الإصرار بأنَّه القصد المصمم عليه قبل الفعل لارتكاب جنحة أو جناية يكون غرض المصر منها إيذاء شخص معيَّن أو أي شخص غير معين وجده أو صادفه سواء كان ذلك القصد معلقا على حدوث أمر أو موقوفا على شرط. وفي هذا قضت محكمة النقض بأنَّ: ” من المقرَّر في تفسير المادة 231 من قانون العقوبات أن سبق الإصرار – هو ظرف مشدَّد عام في جرائم القتل والجرح والضرب – يتحقق بإعداد وسيلة الجريمة ورسم خطة تنفيذها بعيدًا عن ثورة الانفعال مما يقتضي الهدوء والروية قبل ارتكابها – فضلًا عن أنه حالة ذهنية تقوم بنفس الجاني فلا يستطيع أحد أن يشهد بها مباشرة بل تستفاد من وقائع خارجية يستخلصها القاضي منها استخلاصًا ما دام موجب هذه الوقائع والظروف لا يتنافر عقلاً مع هذا الاستنتاج. [الطعن رقم 4018 –  لسنــة 55 ق  –  جلسة 19 / 12 / 1985 –  س 36 –  ج 1 –  ص 1145]

فسبق الإصرار له عنصران، عنصر نفسي بأن يفكر الجاني في ارتكاب الجريمة بروية ونفس هادئة، وعنصر زمني بأن يكون ثمة وقت يستوعب هذا التفكير الهادئ دون أن يشترط فيه مدة معينة، فيتوافر سبق الإصرار إذا اختمرت الجريمة في ذهن الجاني في مدة قصيرة دون أن يغذيها انفعال ما، وقد يكون ثمة نفس ثائرة تريد الانتقام لدم مراق أو عرض منتهك فتصمِّم على اقتراف الجريمة بعد تخطيط طويل لكن لا يتوافر في جانبها سبق الإصرار. وتستبين المسألة أكثر في واقعة شهيرة حدثت منذ عقود هي واقعة مقتل مأمور مركز البداري. فقد دأب المجني عليه أثناء تنفيذ المراقبة الشرطية على اثنين من الجناة – على تعذيبهما كلّ ليلة يبيتان فيها بالمركز، ما بين إيلامٍ جسدي وهتكِ عرض؛ فما كان من ذينك المسجلين إلا أن عزما على قتل المأمور. وبعد تفكيرٍ طويل وتخطيط مسبق نفذا جريمتهما، وقضت محكمة الجنايات بثبوت سبق الإصرار في حقِّهما، لكن محكمة النقض برياسة المرحوم طيب الذكر “عبد العزيز باشا فهمي” نفت قيام سبق الإصرار في هذه الواقعة لغيابِ العنصر النفسي لدى المتهمين، وقالت في حكمها الذي أرست فيه دعائم نظرية سبق الإصرار: “إن ظرف سبق الإصرار يستلزم أن يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروِّي والتفكير المطمئن فيما هو مُقدِم عليه، فمن أوذى واهتيج ظلمًا وطغيانًا وأزعج من توقّع تجديد إيقاع الأذى به، فاتجهت نفسه إلى قتل معذِّبه، فهو فيما إتجه إليه من هذا الغرض الإجرامي الذي يتخيله قاطعاً لشقائه يكون ثائراً مندفعًا لا سبيل له إلى التصبُّر والتروِّي والأناة، فلا يعتبر ظرف سبق الإصرار متوفِّرًا لديه إذا هو قارف القتل الذي إتجهت إليه إرادته”. [الطعن رقم 2421 –  لسنــة 2 ق  –  جلسة 05 / 12 / 1932 –  مكتب فني 3 ع –  ج  1 –  ص 45]. والحكم منشور على الإنترنت وهو تحفة أدبية قضائية، وقد ذكر المرحوم المستشار “زغلول البلشي” نائب رئيس محكمة النقض ومساعد وزير العدل الأسبق في لقاء تليفزيوني أنَّه خلال زيارة له لمحكمة النقض الإيطالية أطلعه المسئولون هنالك على الحكم المذكور كمؤسِّس لنظرية سبق الإصرار.

أما في الجرائم غير العمدية فيقتصر الركن المعنوي على الخطأ. وللخطأ صور هي الإهمال والرعونة وعدم الاحتراز ومخالفة القوانين واللوائح. وأبرز أمثلة للقتل الخطأ حوادث السيارات وإطلاق الأعيرة النارية في الأفراح فتصيب عن غير قصد أحد الحضور في مقتل والأخطاء الطبية.

وللخطأ عنصران هما الإخلال بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها القانون، وتوافر علاقة نفسية تصل ما بين إرادة المتهم والنتيجة الإجرامية (أ.د محمود نجيب حسني – شرح قانون العقوبات – القسم الخاص – دار نافع للطباعة والنشر – طبعة نادي القضاة – 1987 – ص 403). ويتعلَّق العنصر الثاني بمدى توقُّع المتهم للنتيجة الإجرامية (الوفاة في حالة القتل الخطأ) وقبولها بها. ولنضرب مثالًا: أن المتهَّم كان يقود سيارته بسرعة جنونية، هنا يتوافر العنصر الأول للخطأ المتمثل في عدم الحيطة، فصدم شخصاً فتسبب في وفاته. ثمة ثلاثة فروض، أولهم أنَّ المتهم لم يتوقع أنه سيصدم أحدًا ولم تتجه إرادته إلى ذلك لكنه سيظل مسئولًا عن القتل الخطأ ما دامت الوفاة كانت متوقعة في ذاتها وكان في الاستطاعة الحيلولة دون حدوثها (أ.د محمود نجيب حسني – المرجع السابق – ص 405). والفرض الثاني أنَّه توقع النتيجة لكنه لم يقبل حصولها مفترضًا أنَّه بإمكانه تفاديها اعتمادًا على مهارته مثلًا أو لم يهتم بالأمر، في هذا الفرض يكون مسؤولًا بالطبع عن جريمة القتل الخطأ ويسمى الخطأ هنا بالخطأ الواعي أو المتبصر نظرًا لسبق توقُّع حدوث النتيجة. أما الفرض الثالث وهو أدق الفروض فهو أن يتوقع المتهم النتيجة الإجرامية ويرضي بحصولها، هنا يتجاوز الركن المعنوي للجريمة فكرة الخطأ ويتوافر القصد الجنائي لدى المتهم فيكون مسؤولاً عن القتل العمد، ويعرف هذا القصد بـ “القصد الاحتمالي” وهو أحد صور القصد الجنائي.

وقد لخص “أ.د محمد مؤنس محب الدين” الموضوعَ في محاضرته لنا بالفرقة الثالثة بكلية الحقوق جامعة المنوفية بمعادلات ثلاث على النحو التالي:

  1. المتهم لم يتوقَّع النتيجة + بالطبع منطقياً لم يقبلها = الركن المعنوي : خطأ – المسئولية الجنائية: جريمة قتل خطأ.
  2. المتهَّم توقع النتيجة + لم يقبلها = الركن المعنوي : خطأ واعي أو متبصر – المسئولية الجنائية: جريمة قتل خطأ.
  3. المتهَّم توقع النتيجة + قبلها = الركن المعنوي : قصد جنائي احتمالي – المسئولية الجنائية: جريمة قتل عمد.

وكما سبق الإشارة، فإنَّ الوقوف على قصد الجاني مسألة دقيقة تستظهرها التحقيقات من خلال الأدلة القولية كأقوال الشهود واعتراف المتهم، والأدلة الفنية كتقرير الصفة التشريحية والأدلة المادية كالمعاينة.

والخلاصة أنَّ القتل العمد يتميَّز بقصدٍ جنائي خاص هو نية إزهاق الروح. وسبق الإصرار يشدِّد عقوبته إلى الإعدام، ويتحقَّق إذ غلفت تلك النية بسبق تصميم ناتج عن تفكير هادئ متزن.

ويتلامس القتل العمد بالضرب المفضي إلى الموت من جهة وبالقتل الخطأ من جهة أخرى. فأما الفيصل بينه والضرب المفضي إلى الموت فهو القصد الجنائي الخاص، فبينما يقف الضرب المفضي إلى الموت على القصد الجنائي العام المتمثل في قصد الإيذاء لكن تعدَّت النتيجة من الإصابة إلى إحداث الوفاة، فإنَّ القتل العمد يقتضي زيادة على القصد العام ضرورة تحقق النية الخاصة المذكورة آنفاً.

ويتماس القتل العمد مع القتل الخطأ عندما يتوقع المتهم الوفاة كنتيجة لفعله، فإن كان قد ارتضاها وقت الفعل توافر القصد الاحتمالي وهو قصد جنائي خاص يسأل به صاحبه عن القتل العمد، أما إذا لم يكن راضيًا بتلك النتيجة ظلت جريمته قتل خطأ.

نرشح لك: القتل الرحيم هل نعالج أم نعجّل الوفاة؟

إعلان

اترك تعليقا