بحث في الأنطولوجيا المقارنة: من الماهوية الكلاسيكية إلى التحليلية العلمية



لا أحد ينزل النهر نفسه مرتين؛ فلا النهرُ هو ذاتُ النهر ولا الشخصُ هو ذاتُ الشخص.

هيراقليطس. 540-480 ق.م

لا شيء في الوجود لديه طبيعة،
لا شيء هنالك سوى امتزاج العناصر وانفصالها، وما «الطبيعة» سوى «الاسم» الذي يخلعه عليها الانسان.

إمبَدوقليس. 490-430 ق.م

أشرنا في ختام مقالنا السابق (حول مشكلة الكُلِّيَّات.. أو من ضلالات اللغة إلى الأنطولوجيا) أن الاعتقاد بالماهيَّة (أو الجوهر، أي الكُلِّي الطبيعي) يعود في جانب كبير منه إلى سوء فهمنا لطبيعة اللغة ومستوياتها، أي إلى ضلالات اللغة، فنحنُ –وفقًا للنظرية الأفلاطونية في اللغة– إذا أعطينا الأشياء المتشابهة اسمًا بعينه، إنما نكون قد أقررنا ضمنًا بوجود شيءٍ تحتيٍّ ثابتٍ تتشاركُ فيه جميع هذه الأشياء. وقلنا في ختام كلامنا إن هناك جانبًا تجريبيًّا أيضًا لهذا الاعتقاد. وهذا ما سنعرض له هنا قدر ما يتّسع لنا المقام.

تقوم النزعة الماهوية Essentialism على أحد أكثر اعتقادات الحس المشترك Common sense بساطةً ورسوخًا وإغراقًا في التسليم، ألا وهو الاعتقاد القائل “إنَّ لكل شيء طبيعته الخاصة التي تُحدد له وجوده وهُويَّته [أو ذاتيته] فتفصله وتُميَّزه عن غيره من الأشياء.” وبصيغةٍ منطقيةٍ؛ يستحيلُ أن يكون «الشَّيْء» إلا ما هو عليه. أي أن هناك طبائع موضوعيَّة ثابتة لجميع الكائنات، بها توجد، وبها تتحدّد هُويَّتها فتكون ما هي عليه. فماهيَّة الشجرة موجودةٌ سَلَفًا في بذرتها، قبل أن توجد الشجرة وتنمو وتُثمر وتتحقق جميع إمكاناتها بالفعل، والشجرة التي هي مُتحققةٌ الآن بالفعل Actualized existance كان حالها قبل ذلك هو وجودًا بالإمكان/بالقوَّة Potentialize being، وماهيَّة الأرنب كذلك، توجد بالقوَّة (على نحوٍ ما، وبمعنىً من المعاني) قبل أن يتحقق وجود الأرنب بالفعل، فالماهيَّة إذن هي الطبيعة التي تطبع الشيء بطابعها وتقولبه بقالبها، إنها ما يُحدد للشَّيْء «شيئيَّته»، أيًا كان ما نعنيه بالشَّيْء، فللشجرة «شجريَّتها» وللأرنب «أرنبيَّته» اللتين بهما يكونا هما ذاتهما ومختلفين عن بعضهما.

عقيدتان حول الماهيَّة :

دُعِيَتْ هذه العقيدة في العصور الوسطى بـ “أصالة الماهيَّة وعَرَضيَّة الوجود” : أي أن الوجود زائدٌ (عارِضٌ) على ماهيَّة الشيء التي هي أصلُه وعِلَّةُ آثاره، وبالاعتماد على هذه التفرقة بين الماهيَّة والوجود، أقام «ابن سينا» الاستدلال على الكائن «الواجب الوجود»، أي على الوجود المُتضمَّن في ماهيَّة الشيء وليس عارِضًا عليه من الخارج، وهو الله1؛ وأشهر مَن نَظَّر لهذه العقيدة فيما بعد كان القديس والفيلسوف «توما الإكويني» في مقالةٍ شهيرةٍ له بعنوان «حول الوجود والماهيَّة» On being and essence.

وفي المقابل، هنالك من دعى إلى ’’أصالة الوجود واعتباريَّة الماهيَّة‘‘ مثل «صدر الدين الشيرازي» الشهير بـ «الملَّا صَدرا» أو صدر المتألِّهين، وتعني عقيدة أصالة الوجود: أن الماهيَّة انتزاعٌ ذِهنيٌّ (اعتباريّ) من حدِّ الوجود الذي هو واحدٌ ومترابطٌ وشامل، ولكنّ الذهن حين يتعقّله ويُحلّله، يُصنِّفه في فئات (أو ماهيَّات) خاصة ومشتركة، فتكون الماهيَّة حينئذٍ معلولًا وأثرًا للوجود الذي هو الأصلُ والعِلَّة.2 وها هو «سارتر» أيضًا في العصر الحديث يُقرّر في وجوديّته الإنسانيَّة أنَّ ’’الوجود سابق على الماهية‘‘ : أي أن الإنسان يوجد أوّلًا ثم تتحدد بعد ذلك ماهيَّته، فهو مشروع قَيْد التحقق ولم يكتمل بعد… ولن يكتمل إلا بالمَوت. والماهيَّة بهذا المعنى لدى سارتر تختلف عن الاستخدام الشائع لها في الآداب الفلسفية، فهي هنا دلالةٌ عن «الشخصية» أو «الهُويَّة الفرديَّة».

وتشيع ألوان عديدة من النزعة الماهوية التقليديَّة في العصر الحديث، تتمثَّل في التفسيرات الجينية Genetic explanations الشائعة لدى العوام باعتقادهم أن الجينات حاملة للماهيَّة Essence Placeholder، وفي ظاهرة التمييز العنصري والتصنيف العِرقي بين البشر بتحديد الفروق والاختلافات على أُسُسٍ ماهَويَّةٍ وهمية، وظاهرة الإجهاض وما تثيره من أسئلةٍ ماهَويَّة من قبيل [ما هي الحياة ومتى تبدأ؟ ما الإنسان وفي أي طَور يُصبح الجنين إنسانًا؟] وغيرها من الظواهر التي تقبع خلفها النزعةُ الماهَويَّة، مما لا يتسع بنا المجال لعرضها جميعها هنا، وجملة القول أن هذه العقيدة سائدة ومُتجذِّرة بشدة في تاريخ الفكر عمومًا؛ فالفلسفات الكُبرى السابقة كانت جميعها تقريبًا فلسفة ماهيَّات.

إعلان

الماهوية الأرسطيَّة أو.. الجوهر والعَرَض :

إذا كانت الماهية قد ابتدأت مع أفلاطون، كما يتضح من نظريته في المُثُل، كردِّ فعلٍ نقديٍّ لردع نِسبيَّة بروتاجوراس والتصدّي لصيرورة هيراقليطس، فإنها قد تبلورت واكتملت حقًا في شكلها «الجوهري» عند أرسطو. والمُعلِّم الأول، كمُعلِّمه، يُناقش القضايا التي تعرَّض لها القدماء ويحل أحاجيهم؛ فإن ما دفع أرسطو للتنظير لعقيدة الجَوهرٍ الثابت الذي تحِلُّ عليه الأعراض أو تُحمَل عليه الصفات هو مشكلتين (أو قُل أُحْجِيَتين)، أثارتهما كُلٍّ من حُجَّة “هيراقليطس” عن الصيرورة والتغيُّر الدائم والمتمثّلة في قوله بعدم استطاعة الشخص نفسه أن ينزل النهر نفسه مرّتين، وحُجَّة “بارمنيدس” وتلميذه “زينون الإيلي” عن إنكار التغيُّر وتأكيد الثبات؛ إنهما أحجية «الهُويَّة» وأحجية «التغيُّر». فيُمكن القول أن صَرح الماهَويَّة الذي شيَّده أرسطو ليس إلا محاولة للتوفيق بين رؤيتين للعالم متعارضتين جذريًا، وهي محاولة لا تختلف كثيرًا عن محاولة مُعلِّمه أفلاطون وإن بدَتْ واضحة ومُنظَّمة أكثر.

فقد لاحظ أرسطو أن التغيُّر (أو الحركة؟) حقيقةٌ واقعة لا يمكن إنكارها كما فعل بارمنيدس وتلميذه زينون الإيلي، ولكنه رأى مع ذلك أن هذا الأخير لم يُجانب الصواب تمامًا أيضًا، فالملاحظةُ العيانية تُخبرنا بأن هنالك شيء ما يظل ثابتًا وسط ذلك التغيُّر الدائم..

من ذلك مثلًا : أن سقراط قد يسمرّ وجهه من حرارة الشمس أو يتَّخِمْ جسمه بزيادة الوزن أو يصلعّ رأسه بتقدُّم العُمر، إلخ من أعراض… إلا أنه يظل هو هو سُقراط وليس شخصًا آخر، رغم ما يعتريه من تغيُّر كَيفي. والنهر الذي نزله سُقراط يظلّ هو نفسه وليس نهرًا غيره مهما ازداد منسوبه أو نَقَص ومهما اختلطت مياهه في كل لحظة تلو الأخرى ورغم كل ما قد يعتريه من تغيُّر كمِّي أو كَيفي، إذًا (استنتجَ أرسطو) فهناك شيء ما «باقٍ» وشيء ما «مُكتسَب»، ثمَّة ما يمنح للشَّيْء هُويَّة ثابتة وسط هذه التغيّرات: هذا الثابت، المانح للهُويَّة وحاملها، دعاه أرسطو “الجوهر” وهذه المتغيِّرات المكتسبة هي “الأعراض”.

ولا يعتقدنَّ أحدهم أن أرسطو – بهذه الملاحظات – قد اكتشفَ أمرًا عصيًا أو لاحظ شيئًا جديدًا أو شيئًا من هذا القبيل؛ فكل ما فعله أرسطو – كما سنرى – لا يعدو أن يكون تقسيمًا [أو تصنيفًا] سيكولوجيًّا لمعطيات إدراكيَّة مُتباينة ومُحيّرة، ولم يكن كُلًا من هيراقليطس وبارميندس غافلين عن هذه الأمور مثلًا، وإنما تطرَّف كلٌ منهما في التركيز على مَلْمَحٍ مُعيَّن دون الآخر، مما أتى بتفسيرات متعارضة جذريًا.

الماهوية السيكولوجية:

إننا لا نُجانب الصواب فعلًا إذا قُلنا أن جهازنا الإدراكي مُصمَّمٌ أصلًا على الاعتقاد بالماهيَّات؛ ذلك أن وَعينا يميل إلى فرز وتصنيف الأشياء المتشابهة وتمييزها عن غيرها في فئات، إن هذا التصنيف الواعي هو شيءٌ رُسِّخ فينا بالانتخاب الطبيعي وساعدنا على البقاء.

قد يعجبك أيضًا

يكتب «نيتشه» في شذرة له بعنوان «أصل المنطق» حول هذا الموضوع، فيقول :
’’من أين نشأ المنطق في رؤوس الناس؟ لاشك من اللا معقوليَّة التي كان مجالها شاسعًا في الأصل. لكن كائنات لا تُحصى كانت تستنتج بطريقة غير التي نستنتج بها الآن قد هَلَكَتْ : ربّما يكون هذا أصحّ ما نظنّه! مثلًا، من لم يكن يعرف في غالب الأحيان تمييز الـ«مُماثِل» فيما يخُص الغذاء أو الحيوانات الخطيرة عليه؛ الذي كان بالتالي بطيئًا جدًا في الترتيب، مُتيقظًا جدًا في الترتيب، قد كانت له حظوظ في البقاء أقل من الذي يقع مباشرةً على «المُماثِل» ضمن كل أنواع الحقائق المتشابهة. لكن الميل السائد إلى اعتبار الشبيه كالمُماثل (وهو مَيْل لا معقول، لأنه لا يوجد شيء مُماثِل في ذاته) هذا المَيْل قد خلق أساس المنطق نفسه. كان لا بد كذلك، لكي يُمكن تطوُّر مفهوم «الجوهر» الذي لا غِنى للمنطق عنه ألّا يُناظره شيء واقعي بحصر المعنى، أن تبقى تغيّريةُ الأشياء لمدة طويلة خفيةً وغير مضبوطة؛ لقد كان للكائنات غير المزوَّدة بنظر دقيق سَبْقٌ على الذين كانوا يَرون كل الأشياء كما لو كانت «في تدفُّقٍ أبَديّ». كل تيقُّظٍ بالغ في الاستنتاج وكل مَيْل شكوكي يُشكّلان لوحدهما خطرًا كبيرًا على الحياة. لم يكن أي كائنٍ حي ليبقى لو أن المَيْل المُعاكِس لإثبات الحُكم بدلًا من تعليقه، للتيه والتخيُّل بدلًا من الانتظار، للموافقة بدلًا من الإنكار، للحُكم بدلًا من الإنصاف – لو أنه لم يُثَر بشكل قوي جدًا…‘‘3

لقد أصاب نيتشه ببصيرته السيكولوجية النافذة في تحليله السابق، فالبشر فعلًا ماهَويّون بالفطرة كما تقول سوزان جيلمان؛ تُبيِّن لنا عالمة النفس سوزان جيلمان، أن الأطفال تتبنَّى التصنيفات الماهَويَّة بخصوص العالم البيولوجي منذ بلوغهم الرابعة من العمر. فأطفال الرابعة أرسطيون بالسليقة يفترضون أن الكائنات الحية لديها ماهيات داخلية، وأن هذه الماهيات هي التي تجعل الكائنات ما هي عليه، وتجعلها تسلك مثلما تسلك.4 ولا غرو في ذلك، فإنه لا يمكن للطفل أن يُطوِّر من ذكائه بغير هذه التصنيفات الماهوية التي تُسمِّي الفئات المُختلفة بأسماء فريدة، وإلا فلن يتمكَّن الطفل من تنمية مَلَكاته الإدراكية، ولن يتعلَّم اللغة ولن يستطيع استخدامها في التواصل :

’’ تميل الناس إلى أن تُماهي Essentialize كيانات مُعيَّنة تصادفها في الحياة، فتدرك الفئات «الطبيعية» من قبيل المعادن والمواد الكيميائية والكائنات الحية بصفة خاصة، على أن هناك طبيعة أساسية تجعلها ما هي. وتتجلَّى الماهَويَّة السيكولوجية لدى الناس عندما تدرك طبيعةً أوَّليّةً أو «ماهيَّة» غائرة وغير منظورة، وهي العِلَّة التي تجعل الكائنات الطبيعية ما هي عليه؛ إذ تُولِّد الخصائص المشتركة الظاهرة لأعضاء فئة مُعيَّنة من الكيانات Entities؛ فماهيَّة القطة على سبيل المثال تتسبّب في أن تكون لها شوارب وفِراء ناعم ومخالب حادة ومَيل إلى أن تُخَرْخِر عندما تكون راضية. إن الماهيَّة تضبط الخصائص المنظورة ولكنها لا تُحدَّد بها؛ فقد تتغيّر الخصائص المُلاحظة لأعضاء فئةٍ ما (قِطط بدون شَعر مثلًا) دون أن يتضمَّن ذلك تغيرًا في ماهيَّة هؤلاء الأعضاء. تُشير ماهيَّة النوع الطبيعي إلى أن أعضاء فئة هذا النوع متجانسة فيما بينها ومتميّزة عن غيرها من أعضاء الفئات الأخرى. فثمَّة شيءٌ ما يجعل القطط جميعًا تُدرَك على أنها قِطط وعلى أنها مُتميزة عن بقية أنواع الحيوانات. إن الماهيَّة الفريدة المستترة لكل فئة تقدِّم للمُدرِك «إمكانًا استقرائيًا» Inductive Potential لكي يقيم استدلالات فسيولوجية وسلوكية مُحددة تتعلَّق بأعضاء فئة مُعيَّنة. ‘‘5

الماهوية إذَن مَيلٌ سيكولوجيّ رسَّخه فينا الانتخاب الطبيعي لتسهيل التعاطي مع العالم، خطأٌ مَعرفيّ مُتجذِّر في صميمنا، ولكنه – من منظور بيولوجي – خصيصةٌ محمودة وميزة ساعَدتنا على البقاء، بل وعلى التكاثر؛ فكيف أمكننا أن نتناسل أصلًا إلا بالتمييز الجندريّ (رجل/مرأة) الذي نُماهي به بين الخصائص الذكوريَّة في فئة مُتميزة عن فئة خصائص الإناث؟

لكن إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان حِسُّنا المُشترك يُقدِّم لنا أنطولوجيا مُشوَّشة كهذه، تشوبها مُخلَّفات الانتخاب الطبيعي وتلزمنا بكيانات زائدة عن الحاجة، وإذا كنَّا – كما ينبغي علينا فعلًا – سنتعهَّد الالتزام بأنطولوجيا علمية أكثر دِقَّةً ووضوحًا وأقرب شيئًا للحقيقة (وأنا – وبصِفَتي تحليليًا – لا أعتقد أن ثمَّة مجال للكلام عن أنطولوجيا بديلة)، فلا يمكننا أن نعتقد بوجود الماهيَّات سواء أكان وجودها في عالمٍ مفارق كما يذهب أفلاطون – أو في العقل الإلَهي قبل خلق العالم كما يقول الإكويني – أو حتى في الجينات كما في النزعة الشعبية المعاصرة؛ فالعِلم يُخبرنا بأن الواقع أعقَد بكثير من قابلية اختزاله في قوالب تصنيفيَّة ثابتة منذ الأزَل وباقية إلى الأبد. فهل يُمكننا التخلُّص من الماهيَّة؟ أو لنوجِّه السؤال كالآتي : هل تخلَّص العلم من الماهيات نهائيًا؟ هذا السؤال محلّ خلاف كبير.. فالعلم الطبيعي، فيما يبدو، يدرس أصلًا ما يُسمَّى بـ الأنواع الطبيعية Natural Kinds، والتي ظلَّ يُعتقد قديمًا أنها حاملة للماهيَّات Essence Placeholder .

الماهية والعلم، أو.. مُشكلة الأنواع الطبيعيَّة6 :

مما لا شك فيه أن هناك نزاعًا كبيرًا بين الفلاسفة حول حقيقة تصنيفاتنا عمومًا، وواقعية تصنيفاتنا العلمية/الطبيعية خصوصًا، لكن يُمكننا – بغرض الإيجاز – أن نختزل كل هذه النزاعات الفلسفية إلى وجهتين من النظر (مع التأكيد بأن هناك تفرُّعات أُخرى) مختلفتين حول واقعية الفئات والتصنيفات التي يعتمدها الناس عمومًا، والعلماء خصوصًا :

أ- وجهة النظر الطبيعانيَّة Naturalism أو الواقعية الضعيفة Weak Realism، وهي وجهة النظر التي لا تلتزم بالواقعية الأنطولوجية لجميع فئاتنا التصينفية، ولكنها تقول بواقعية التصنيفات الطبيعية فقط، نظرًا لأهميتها العلمية. ويُطلق على الطبيعانية «الواقعية الضعيفة» بسبب تقاربها الوثيق مع الواقعية العلمية؛ إذ يعتقد الواقعيون العلميون أن النظريات العلمية الناجحة تُمثِّل ظواهر مُستقلة عن النظريَّة Theory-independent phenomena، وبالمثل تعتقد الطبيعانية أن تصنيفاتنا العلمية للأنواع الطبيعية تعكس تقسيمات واختلافات حقيقية موجودة في الطبيعة. يعتقد التصنيفيون الطبيعيون أن الطُرُق التي نقوم من خلالها بتصنيف الأشياء في أنواع هي طُرُق طبيعيَّة، وأنها ليستْ طُرُقًا تعسُّفيَّة أو اعتباطيَّة؛ فتجميع مثيلات معدن الزنك معًا هو، حدسيًا، الانخراط في تصنيف طبيعي حقيقي. ولكن تصنيفاتٍ أُخرى من قبيل “السيارات الألمانية” و “خضروات الطهي” و “مواد البناء” رغم أنها ليست تصنيفات عشوائية أيضًا، إلا أنها ليستْ طبيعيةً مع ذلك، لأنها تعكس اهتماماتنا البشرية. في حين أن وضع الرقم [2] مع “يوليوس قيصر” مع “أحجار الجرانيت” معًا في تصنيف، يُعَدُّ أمرًا تعسُّفيًا.

ولكن مع ذلك يُمكن أن يُخطئ العلماء في تحديد أي “الأنواع الطبيعية” موجود فعلًا. فعلى سبيل المثال لا يوجد نوعٌ طبيعي يُسبب الاشتعال هو “الفلوجيستون” كما اعتقد علماء الكيمياء سابقًا قبل أن يأتي “لافوازييه” ويُصحح الأمر، ولا يوجد نوعٌ طبيعي من المعادن هو “اليَشْم” Jade وإنما هو مزيج صناعي بين مواد معدنية مختلفة. ويُثير ذلك سؤالًا حول المعايير أو الخصائص الضرورية والكافية التي تُصنِّف الشَّيْء كنوع طبيعي حقيقي، في مقابل التصنيفات الخاطئة. وإجابةً على هذا السؤال، اقترحتْ الطبيعانية ستَّة معايير (معظمها يُثير جدلًا كبيرًا) لتصنيف الشَّيْء نوعًا طبيعيًا، نعرضها فيما يلي مع توضيح عيوبها :

1- يجب أن يكون لأفراد النوع الطبيعي بعض الخصائص (الطبيعية) المُشتركة.
وهذا شرط ضروري Necessary للنوعيَّة Kindhood، ولكنه ليس شرطًا كافيًاInsufficient ، لأنه يمكن لأشياء من أنواع مختلفة تمامًا، أن تشترك في بعض الخصائص الطبيعيَّة. ويُدرج “جون ستيوارت مِل” مثالًا جيدًا يوضح هذا الاعتراض وهو: أن الأجسام “البيضاء” مثلًا لا يمكن أن تُشكِّل نوعًا طبيعيًا. إذًا فلابد من أن تُعتبر الخصائص الطبيعية هنا خصائص جوهريَّة Essential Properties .

2- يجب أن تسمح الأنواع الطبيعية بالاستدلالات الاستقرائيَّة.
وهذا شرط ضروري أيضًا، ولكنه غير كافٍ، لأنه لا يُساعدنا في التمييز بين الأنواع الطبيعية ومجموعات الكائنات الأُخرى التي تشترك معًا في خصائص طبيعية يُمكن الاستدلال عليها استقرائيًا، ومن ثمَّ فهذا المعيار لم يتجاوز المعيار الأول كثيرًا.

3- يجب أن تشارك الأنواع في قوانين الطبيعة.
ويُمكن اعتبار هذا الشرط نُسخةً ميتافيزيقية من المعيار [2]، وهو بالتالي مُثير للجدل جدًا : فإذا كان الشَّيْء ينتمي إلى نوع “البط” فإن له أقدام مُكفَّفة.. ولكننا لا نحتاج إلى أن نعتقد بأن شرطًا كهذا يجب أن يُشكِّل قوانين الطبيعة، فقوانين الطبيعة (مثل قانون نيوتن للجذب) قد تتعلَّق بالصفات والكميات التي لا تُحدد الأنواع. ومن ثمَّ فهذا المعيار أيضًا ليس كافيًا

4- يجب أن يُشكِّل أعضاء الفئة نوعًا طبيعيًا.
ليس من الواضح هنا ما يتطلَّبه هذا المعيار مباشرةً، ولكن يمكن القول إن المقصود هو التشديد على أهمية ’’التناظر‘‘ للإجابة عن سؤال مُحدّدات النوع، أي تكافؤ التشابهات بين الأشياء المُصنَّفة كنوع طبيعي. ولكن حتى لو كان كذلك، يُمكن أن نستدعي مثال “مِل” مرة أُخرى هنا، فالأجسام البيضاء لا تُشكل نوعًا، ولا الأشياء سالبة الشحنة تشكل نوعًا، ولا الأشياء ذات الكتلة 1كجم تُشكل نوعًا.

5- يجب أن تُشكل الأنواع الطبيعية تسلسُلًا هَرَميًا.
فإذا تداخل أي نوعين على الإطلاق فإما أن أحدهما هو نوعٌ (فرعي) من الآخر، أو أنهما مُتطابقان. يتم عرض هذا الشرط على سبيل المثال من خلال تصنيف “ليني” في البيولوجيا: فإذا كانت أي كائنات حية تختلف في نوعها عن أعضاء نوع آخر من نفس الجنس، فإن جميع أعضاء كلا النوعين هم أعضاء في نفس هذا الجنس.

6- يجب أن تكون الأنواع مُتميزة بشكل قاطع Categorically، أي يجب ألا يكون هناك انتقال سَلِس من نوع إلى آخر.
وهذا الشرط غير ممكن. إذ لا يمكن أن يكون الخط الفاصل بين نوعين خطًا ترسمه الطبيعة، إنه خط نرسمه نحن بطريقة أو بأُخرى. وفي هذه الحالة لن تكون الأنواع طبيعيةً حقًا. ويتم عرض هذا الاعتراض بوضوح من خلال العناصر الكيميائية؛ إن الكلور والأرجون متجاوران في الجدول الدوري؛ فلا توجد ذرات وسيطة بين ذرات الكلور وذرات الأرجون، لأن نواة الذرة لا يمكن أن تحتوي على عدد من البروتونات بين سبعة عشر (الكلور) وثمانية عشر (الأرجون).

ب- وجهة النظر الثانية هي الاتفاقية/الاصطلاحية Conventionalism (وتُسمَّى “البُنْيَويَّة” Constructivism أيضًا) وهي النقيض لوجهة النظر الطبيعانية فيما يخُص واقعيَّة التصنيفات الطبيعية (الأنواع والأجناس)، فلا وجود لأنواع طبيعية بشكل مُستقل عن العلماء أو غيرهم ممّن يتحدثون عنها. فبينما تقوم العلوم بتصنيف الأشياء في أنواع، يؤكد ’’الاصطلاحيون‘‘ أن هذا التصنيف نفسه يقوم على اهتمامات العلماء التي هي شكلٌ واحدٌ من بين العديد من أشكال الاهتمامات البشرية الأخرى، فالعلماء الطبيعيون مثلهم مثل باقي البشر (كعُشَّاق السيارات، وطهاة الطعام، والجماعات المتدينة) لديهم اهتمامات تتعلَّق بفرز ظواهر الطبيعة ووصفها. يُنكر الاصطلاحيون (أو البنيويون) أن أيًا من تصنيفاتنا بعامّة، بما في ذلك تصنيفات العلم، هي أشكال تصنيف ذات امتياز بشكل طبيعي. فلا تنقُش تصنيفات علماء النبات الطبيعة في مفاصلها أكثر من تصنيفات “الطُهاة”.

1- ولكن ينبغي أن نُفرِّق بين درَجَتين من الاصطلاحية هما: الاصطلاحية القوية Strong Conventionalism، والاصطلاحية الضعيفة Weak Conventionalism. فالاصطلاحية الضعيفة تكتفي بالتأكيد على أن تصنيفاتنا الفعلية ليست طبيعيَّة أو من غير المُرجَّح أن تكون كذلك، بل تتم بالمواضعة فيما بين العلماء. والسبب في ذلك يعود إلى الاعتقاد بعدم قدرة العلم على الكشف عن المبادئ الطبيعية للأصناف. ويمكن أن نُرجِع أساس هذا الاعتقاد إلى “جون لوك 1690م”، إن لوك يعتقد أنه إذا كان هناك ماهيَّات حقيقيَّة للأنواع، فسيتم العثور عليها في الخصائص الهيكليَّة الدقيقة المشتركة وغير المحسوسة للأشياء، وأنه قد يكون هناك مثل هذه الأنواع الطبيعيَّة الحقيقية ولكننا نجهلها، والعلوم غير مؤهلة للقيام بما هو أفضل من التكهُّن بها.

2- أما الاصطلاحية القوية فتُنكر حتى أن التصنيفات تتم بالمواضعة أو تفرض نفسها عن طريق الجهل، وتنفي وجود أي انقسامات طبيعية من هذا القبيل، معروفة أو غير معروفة. بل يزعم الاصطلاحيون الأقوياء أن الاختلافات والتشابهات التي ننسبها إلى الأشياء توجد بفضل (على سبيل المثال) الوظيفة الاجتماعية للمفاهيم ذات الصلة، وليس الحقائق الطبيعية. فمثلًا، الاختلاف في الجنس ليس اختلافًا بيولوجيا، ولكنه اختلاف في الدور الاجتماعي! تُعامِل الاصطلاحية القوية الأنواع الطبيعية بنفس الطريقة، فالادعاء الرئيسي هنا، أن الأنواع يتم إنشاؤها بدلًا من اكتشافها.. كما يزعم “وولجار” 1988 : ’’لا يوجد موضوع خارج الخطاب!‘‘.

وأنا من جهتي لا أوافق طبعًا على هذه النزعة الاصطلاحية/البنيوية المتطرفة آنفة الذكر، والرأي عندي يقترب من الاصطلاحية الضعيفة (إلى حدٍّ ما). وليس بسبب حدود معرفتنا وعلمنا كما يذهب دعاة النزعة الاصطلاحية الضعيفة فقط، بل لأسبابٍ علميةٍ في الأساس.

إنني من جهتي أعتقد أن تصنيفاتنا العلميَّة (وغير العلمية) للظواهر والكائنات (أو الأشياء) في فئات متميزة Categories أو أنواع طبيعيَّة Natural kinds أو صيغ تعريفيَّة defining formula، هي مسألة إجرائيَّة تتم بالمواضعة Convention لتسهيل ’’الإشارة‘‘ إلى الأشياء وتحديدها ووصفها؛ وأفضل تشبيه يمكن الاحتكام إليه هنا هو التقاط الصورة Captured image إن الأمر أشبه بالتقاط صورةٍ ثابتةٍ لمشهد جارٍ؛ تأطيرٌ لأحداث تتدفَّق في تغيُّرية دائمة؛ فهذه التصنيفات (أو الصور المُثبِّتة) ليست أشياءً لها وجود واقعي مُستقل بحال من الأحوال كما اعتقد أرسطو وأفلاطون، ولم تكن ثابتة منذ الأزل ثم اكتشفناها، ولن تبقى كما هي إلى الأبد بعد أن التقطناها، بل إنها أدواتٌ ناجحة للمعرفة والتنبؤ والتواصل، وهي (من الناحية الإبستمولوجية) قابلةٌ للتعديل والمراجعة دائمًا في حالة ظهور معطيات أو أدلَّة جديدة؛ ففي التاريخ الطبيعي، كمثال، يُقسِّم البيولوجيون الكائنات الحيَّة تقسيمًا هَرَميًا إلى أجناس وأنواع لتمييز مراحل تطوُّرها وأصولها المشتركة وتحديد خصائصها الوراثية المُكتسبة أو المُستبعدة بفعل الانتخاب الطبيعي، ولكنهم يُدركون أن تقسيم الكائنات الحية في أنواع منفصلة هكذا، هو بطبيعة الحال إجراءٌ منهجيٌّ لتسهيل وصف عمليَّة التطوُّر المستمر، وليس له أساسٌ واقعي، فالسلسلةُ التطوُّريَّةُ متصلةٌ ببعضها غير متقطِّعَة.

إن نظرية التطور نفسها مضادةٌ لفكرة وجود ماهيات أو أنواع ثابتة، أو بنية باطنية تحدد طبيعة جميع أعضاء النوع، لم يعد البيولوجيون يعتبرون علاقة «الفرد-النوع» Individual-Species مماثلة لعلاقة «العضو-الفئة» Member-class حيث ينتمي الأعضاء للفئة بسبب اشتراكهم في خصائص عامة، وإنما ينظرون إليها على أنها أقرب لعلاقة «الخليَّة-المتعضِّي» Cell-Organism حيث الخلايا الفردة تُشيّد مُتعضيًا أكبر. وبدلاً من لفظة Organism فإنهم يتبعون داروِن في استخدامه لفظة Population (السكان/مجتمع الأفراد). يُعرِّف داروِن الأنواع في حدود سكّان من أفراد متفرّدة وليس من أفراد يشتركون في ماهيةٍ عامة. والسكان منظومة جينية وسلوكية وإيكولوجية يتنافس أعضاؤها فيما بينهم ويتنافسون ككُلٍّ مع أعضاء الأنواع الأخرى. بهذا الفهم لا تُعد الفروق الفردية قصورًا أو اختلالاً أو مصادفات أو شذوذًا عن النموذج المثالي كما يحلو للماهَويَّة أن تتصوَّرها، وإنما الفروق الفردية شيء محوري لفهم الطبيعة السائلة للأنواع على المدى الطويل.7

هذا بالنسبة إلى البيولوجيا، ولكن الأمر لا يختلف عن ذلك في الفيزياء أيضًا كما سنرى في الأنطولوجيا العلمية التي سنُقدمها هنا كبديل عن الماهوية.

• الهُويَّة والإشارة والاقتصاد الأنطولوجي، أو.. تشيُّؤ الأحداث!

’’الشيء عمليَّة رتيبة..‘‘ – نيلسون جودمان.
’’أقول “شيئًا” عن كل ما يكون موضوعًا لتفكيرنا‘‘ – تشارلز ساندرس بيرس.
’’لا كائن بدون هُويَّة No entity without identity‘‘ – ويلارد كواين.

إذَن، بناءً على ما سبق، كيف تتحدّد هُويَّة الشَّيْء وما هي شروط تحديدها؟
يبدو أن هُويَّة الأشياء لا تتحدد سَلَفًا بماهياتها الكامنة فيها، وكيف ذلك والأنواع في سيولة دائمة؟ فهل نستغني بذلك عن قانون الهُويَّة؟ بالطبع لا، لأنه يمكننا أن نتساءل مع “ويلارد كواين” : ’’ما المعنى الذي يمكن أن نجده في الكلام عن أشياء يستحيل وصفها وصفًا ذا معنى بأنها مُماثلة لذاتها ومختلفة عن غيرها؟‘‘.

أعتقد أننا لكي نُجيب عن سؤال الهُويَّة هذا (كيف تتحدّد هُويَّة الشيء؟) ينبغي أن نُجيب أولًا عن سؤالين أساسيين في رأيي: ما هو الشَّيْء أصلًا؟ وهل العالم مُكوَّنٌ من أشياء فعلًا؟ ولنبدأ بالسؤال الآخير..
وحتى نُوفّي بعهدنا الذي قطعناه، وهو الالتزام بأنطولوجيا علمية، ينبغي أن نعود إلى الفيزياء الحديثة لنُجيب عن سؤالنا الأنطولوجي “مِمَّ يتكوَّن العالم؟”، إذ لا يمكن البحث عن البنية الأساسية للعالم في علمٍ آخر. وإذا ما تحدّثنا عن الفيزياء الحديثة فنحن نتحدّث عن ميكانيكا الكم. وفيما يلي نقتبس من كتاب «الواقع ليس كما يبدو؛ رحلة إلى الجاذبية الكمية» لعالِم الفيزياء النظرية وأحد مؤسسي نظرية الجاذبية الكميَّة “كارلو روفيللي”، لنرى ماذا تخبرنا ميكانيكا الكمّ عن العالم، يقول روفيللي :

’’في العالَم الذي تصفه ميكانيكا الكم لا يوجد واقع إلا في «العلاقات» بين الأنظمة الفيزيائية، وليستْ «الأشياء» هي ما يدخل العلاقات، بل العلاقات هي ما تُرسي فكرة «الشيء»، إن عالَم ميكانيكا الكم ليس عالم أشياء، بل عالم أحداث، فالأشياء تتكوَّن من خلال حدوث أحداث أساسية؛ وكما قال الفيلسوف نيلسون جودمان في خمسينيات القرن العشرين في جملة جميلة: «الشيء عملية رتيبة»، فالحجر اهتزاز كمَّات تُحافظ على بنيتها لفترة، مثلما تحافظ موجة البحر على هويتها لفترة قبل أن تذوب مرة أخرى في البحر. ما هي الموجة التي تتحرك على الماء دون أن تحمل معها أي قطرة ماء؟ الموجة ليستْ شيئًا، حيث أنها ليست مصنوعة من مادة تسافر معها، والذرات الموجودة في أجسامنا أيضًا تتدفَّق داخلنا وبعيدًا عنا، ونحنُ مثل الأمواج ومثل بقية الأشياء عبارة عن فيض من الأحداث؛ إننا عمليّات مُملَّة لفترة وجيزة… ميكانيكا الكم لا تصف الأشياء؛ بل تصف العمليات والأحداث التي هي عبارة عن نقط وصل بين العمليات.‘‘8

وقد يقول أحدهم معترضًا : ولكن يمكن اعتبار “الجُسيم” شيء يكون موجودًا قائمًا بذاته وسط هذه الأحداث! وهنا عَوْدة لفكرة «تجوهر الأجسام» عند أرسطو..
وهذا تصوّر خاطئ عن الطبيعة الحُبَيْبيَّة للمجال الكمِّي.. يقول “كارلو روفيللي” :
’’تُعلِّمنا ميكانيكا الكم ألا نُفكِّر في العالم من حيث «الأشياء» الموجودة في حالة أو في أخرى، بل أن نُفكِّر فيه من حيث «العمليات»، فالعملية عبارة عن ممر من تفاعل إلى آخر، ولا تظهر صفات الأشياء بشكل «حُبَيْبي» إلا لحظة التفاعل، أي بالقرب من العمليات، وتكون كذلك فقط «من حيث علاقتها» بالأشياء الأُخرى، ولا يمكن توقّعها على نحو قاطع، بل يمكن توقعها على نحو مُحتمل فحسب.‘‘9

إن الجُسيم ’’يحدث‘‘ لا ’’يكون‘‘. إنه حدث ناتج عن تفاعلات المجال الكمِّي، ولا يكون قائمًا بذاته أثناءها، فالإلكترون لا يوجد في مكان مُحدد عندما لا تكون هناك حالة تفاعل. إن الجُسيم ما هو إلا عِدَّة قِيَم مختلفة لتفاعلات مُعيَّنة في المجالات الكمّية. وليس هنالك جسم ما (كأحد أقسام الجوهر الخمس) قائم بذاته محلًا للأعراض. إن الشَّيْء – فيزيائيًا – هو اضطراب Disturbance في عدد ضخم من المجالات الكمّيَّة. ويعبر د. زكي نجيب محمود عن هذه الفكرة تعبيرًا طريفًا في شرحه للأنطولوجيا عند برتراند راسِل فيقول : ’’إن قولنا عن ذرَّة بأنها موجودة هو بالضبط كقولنا إن نغمة موسيقيَّة موجودة، فإن كانت النغمة تتطلَّب خمس دقائق لعزفها فنحن لا نقول عنها إنها شيء مُعيَّن فرد موجود كله طوال الدقائق الخمس، بل نتصوّرها سلسلة نبرات متصل بعضها ببعض في تعاقب بحيث يتكوَّن من نسيجها نغمة واحدة، وهكذا الذرَّة سلسلة من حادثات متعاقبة يتكوَّن من نسيجها حقيقة واحدة، وإذا كانت الرابطة في نبرات النغم هي الوِحدة الجماليَّة، فإن الرابطة في حوادث الذرَّة هي الوحدة السببية.‘‘10

ويقول روفيللي في موضع آخر من كتابه : ’’ أعتقد أننا من أجل أن نفهم الواقع يجب أن نضع في اعتبارنا أن الواقع عبارة عن شبكة العلاقات والمعلومات المتبادلة التي تنسج هذا العالم، إننا نقسِّم الواقع المحيط بنا إلى أشياء، إلا أن الواقع ليس مكوّنًا من أشياء مُحددة، بل عبارة عن تدفُّق مُتغير، فكر في موجة المحيط واسأل نفسك، أين تنتهي الموجة؟ وأين تبدأ؟ فكر في الجبال واسأل نفسك، أين يبدأ الجبل؟ وأين ينتهي؟ وإلى أي مدى يمتد أسفل سطح الأرض؟ هذه الأسئلة ليستْ ذات معنى؛ لأن الموج والجبال ليسوا أشياء في حد ذاتهم، بل طُرُق «تقسيمنا» للعالم لكي نفهمه، ولكي نتحدث عنه على نحو أسهل، هذه الحدود اختيارية وتقليدية ومُريحة، فهي تعتمد علينا (كأنظمة فيزيائية) أكثر من اعتمادها على الأمواج والجبال، إنها طُرُق تنظيم المعلومات المتاحة لدينا، أو على الأحرى إنها أشكال للمعلومات المُتاحة لدينا. ‘‘11

الشَّيْء Object إذًا هو طريقة تصنيفنا لأحداث مُتصلة/مُنتشرة في الزمان والمكان، فالعالم هو مجموع الأحداث Events لا الأشياء.. إن كلام روفيللي في الفقرة الأخيرة يقترب كثيرًا من توصيف راسِل لـ “التركيب المنطقي” للعالم، إن الشَّيْء هو تركيب منطقي.. فهذه المنضدة التي أكتب عليها الآن ليستْ سِوى مجموع المعطيات-الحسية Sense-Data الواردة لديَّ من الخارج عن سلسلة من الحوادث الزمكانية المرتبطة بعلاقات سببية فيما بينها، يتم تركيبها بعمليات الدماغ في صورة “شيء” يبدو لي جسمًا ثابتًا، صلبًا، ويشغل حيزًا مُستقلًا بذاته، وله أبعاد مُعينة، ولكنه في الواقع حدثٌ مُستقر يجري، مُستغرقًا زمانًا.

أما الهُويَّة فهي اختصار لقصة طويلة.. إنها كما يقول “ويلارد كواين” : تطبيق، بطريقة محلية ونسبية، لنصل أوكام Occam’s Razor. اختزال الإشارة والكلام عن جميع الحوادث الجُزئية الجارية، أو النقاط الزماكانية التي يتكوَّن منها الحدث. وذلك الاختزال يتم من خلال اللغه والاستقراء السلوكي للإشارات ولأفعال الكلام Speech Acts في سياق خطاب ما، وهو إجراء مُفيد وضروري؛ مفيد لأنه اقتصادي، فهو يوفر علينا التزامًا أنطولوجيًا بكيانات جُزئية متشابهة لا حصر لها، فقط باختزالها كلها في شيء واحد. وضروي لأنه لا غِنى عنه لنجاح التواصل؛ فلماذا أتكلَّف عناء الكلام عن أجزاء الحدث فرادى (أ، ب، ج، د، ه، إلخ…)؟ في حين أنه باستطاعتي أن أجمعها كلها تحت اسم واحد، وبعَون قليل من الإشارة أقول: «هذا النهر..» فأؤكد للمُتلقّي فرَضيَّة عامة عن الهُويَّة للدلالة عن مرجع الإشارة. إنَّ شرط الهُويَّة هنا هو تحقيق أهداف الخِطاب، لا تقرير حقيقة ثابتة عن الأشياء الواقعة. يقول كواين : ’’إن الإشارات إلى الأشياء الأصلية يجب إعادة ترجمتها تحقيقًا لأهداف الخطاب، بأنها إشارة إلى أشياء أُخرى أقل عددًا، وبطريقة يُفسح فيها كل واحد من الأشياء الأصلية غير المتميّزة، المجال للشيء الجديد ذاته.‘‘12 وهذا هو ما يحدث في تحديد الهوية.

لقد أصبح الاعتقاد بوجود جوهر مُحايث حامل للهُويَّة، أو ماهيَّة ثابتة تُحدد للشيء هُويّته، هو ضرب من التكلفة التي لا حاجةَ لنا بها. فالهوية توجد في الخطاب ولأغراضه، لا في الأشياء، وفي ذلك يقول فتغنشتاين :
5,53- إني لأُعبر عن هوية الشيء بهُوية العلامة التي تُشير إليه، لا بواسطة علامة أخرى أدل بها على الهوية، وأعبر عن اختلاف الأشياء بواسطة اختلاف العلامات المُشيرة إليها.
5,5301- ومن الواضح أن الهوية ليست بين الأشياء.13

فإن قولنا عن أشياء معينة إنها متطابقة مع نفسها ومختلفة عن غيرها، ليس سوى تأكيدًا منا عن خصوصية الموضوع الذي يدور حوله الحديث، لا عن حقائق موضوعية ثابتة للأشياء، وهذا التأكيد للهوية يتم بالمواضعة فيما بيننا.

المصادر

[1] انظر “الله والعالم في فلسفة ابن سينا” رجاء أحمد علي، ص19-27.
[2]  انظر “فلسفة صدر الدين الشيرازي” نزيه عبد الله الحسن، ص169-170.
[3] انظر “العلم المَرِح” شذرة 111 ص126.
[4] نقلًا عن د. عادل مصطفى في كتابه “وهم الثوابت_دراسات في الفلسفة والنفس” ص صفحة 125-126.
[5] المرجع السابق، ص35
[6] نقلًا عن موسوعة ستانفورد للفلسفة : https://stanford.io/31JhhY
[7] انظر  “وهم الثوابت” د. عادل مصطفى، ص178
[8] كارلو روفيللي “الواقع ليس كما يبدو؛ رحلة إلى الجاذبية الكمية” ترجمة صفية مختار، ص130
[9] نفسه، ص131.
[10] انظر د. زكي نجيب محمود “برتراند راسِل” ضمن سلسلة نوابغ الفكر الغربي، دار المعارف، ص103-105.
[11] كارلو روفيللي ” الواقع ليس كما يبدو” ص237-239.
[12] انظر “من وجهة نظر منطقية؛ تسع مقالات منطقية فلسفية” ويلارد كواين، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة ص135-143.
[13] انظر لودفيغ فتغنشتاين “رسالة منطقية فلسفية” ترجمة عزمي إسلام، مراجعة وتقديم د. زكي نجيب محمود، ص156-157.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عبد المقصود

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا