مشكلة التسمية والإشارة: بحث في فلسفة اللغة والمنطق

’’عُدَّت الإشارة، منذُ فريجه Frege، المُشكل المركزيَّ في فلسفة اللغة، أعني بالإشارة العلاقة بين عباراتٍ مثل الأوصاف المُحدِّدة Definite Descriptions أو أسماء الأعلام من جهة، وبين ما تقوم تلك الأوصاف وتلك الأسماء بالإشارة إليه، من جهةٍ أُخرى.‘‘ (جون سيرل، المعنى والعبارة، ص٣٥-٣٦)

في القرن التاسع عشر قدَّم الفيلسوف والمنطقيُّ الإنجليزيُّ «چون ستيوارت مِل» نظريةً في أسماء العَلَم باعتبارها إشارةً مُباشرةً إلى الأشياء الخارجيَّة؛ أي أنَّ الاسم ببساطةٍ يُحيل إلى مُسمَّاه، فقولي «أرسطو» ليس إلَّا إشارةً إلى أرسطو الفرد الواقعيّ؛ فالأسماء العَلَم تحديدًا، بحسب مِل، لها دلالةٌ خارجيَّة Denotation وليستْ ضمنيَّة Connotation، أي لا معنى لها، وإنَّما تُشير فقط.

ويُدرج مِل مثالًا على نظريَّته فيقول: عندما نستعمل الاسم دارتماوث «Dartmouth» لكي نَصِفَ مكانًا ما في إنكلترا، فلعلَّهُ يُطلق عليه هذا الاسم لأنَّه يقع عند فم النهر الذي يُدعى «دارت». ولكن حتَّى لو غيَّر النهر مجراه بحيث لم يعد المكان واقعًا عند فم نهر الدارت، فإنَّنا نستطيع أن نستمرَّ بإطلاق «دارتماوث» على نفس المكان، ولا حرج علينا، حتَّى وإن كان الاسم يوحي بأنَّ المكان يقع عند فم الدارت.

هذه النظريَّة مقبولةٌ على نطاقٍ واسع، لا غلوَّ في ذلك، فهل هناك ما هو أبسط وأقرب إلى الحسِّ المشترك؟ ولكنَّها مع ذلك بها عيوب، وعيبها [أو إذا شئتَ الدِقَّة قُل عَيبُ مِل] هو أنَّه لم يوضِّح لنا كيف تُحدَّد إشارة الاسم بنجاح؟ ما الذي يجعل من قَولي «أرسطو» يُشير مباشرةً إلى المُعلِّم الأول؛ ذلك الفيلسوف اليوناني الذي عاش من عام ٣٨٥ق.م إلى عام ٣٢٣ق.م؟ هل تنتقل الكلمة ميتافيزيقيًّا عبر الزمان والمكان نحو أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد لتُشير إلى إنسان مُحدَّد من بين آلاف الناس يُدعى «أرسطو»؟ كيف أستطيع عن طريق نُطق كلمةٍ أو وضع علامةٍ على ورقةٍ أن أُشير إلى شيءٍ بعيد؟ أو أُشير بالفعل إلى أيِّ شيءٍ على الإطلاق؟

من هنا يعترض فريجه على مِل؛ لأنَّ اسم العَلَم وإن كان له مُسمًَى بالفعل، إلَّا أنَّه غير كافٍ بذاته لتحديد الإشارة إلى مُسمَّاه، وإلَّا لكان في وسعنا أن نٌشير إلى أشياء لا نعرفها، وهذا مُحالٌ بطبيعة الحال؛ فالإشارة –فيما يرى فريجه- رهن معرفة الشيء المُشار إليه. لذا يعيب فريجه على مِل عدم تمييزه بين معنى الاسم وإشارته. وثمّة اعتراضٌ آخر يطرحه فتجنشتين أيضًا: إذ لو كان كلُّ مغزى الإسم هو إشارته، فكيف يمكنني أن أُشير إلى شيءٍ لم يعد موجودًا كما في حالات الوفاة مثلًا؟ هل باختفاء الشيء من الوجود تستحيل الإشارة إليه؟ على أنَّ ما يلفت النظر في هذه النظرية أيضًا هو أنَّها تعود بنا إلى نظريَّة الإشارة في المعنى Referential Theory Of Meaning، لتُلزمنا بوجود شيءٍ يُشار إليه لكلِّ اسمٍ نستخدمه في اللغة، فتوقِعنا في مآزق لا حصر لها، خذ مثلًا التقريرات الوجودية؛ كيف أستطيع أن أقول «موسى ليس موجودًا» إذا كان الاسم «موسى» لابد وأن يُشير إلى مُسمًّى موجود بالفعل؟ لم يُوضح لنا مِل شيئًا بخصوص هذه الأسئلة؛ فكانت نظريته غامضة من هذا الجانب.

يمكننا أن نبتدئ طريقنا في التقصِّي عن إجاباتٍ لهذه الأسئلة بالبحث في جُعبة أفلاطون (أو لِحيته كما يُفضِّل كواين أن يقول) – حتمًا لدى أفلاطون ما يقوله هنا! في محاورته (كراتيليوس) التي تدور حول التسمية بوصفها وجودًا طبيعيًّا (بمعنًى ما)، يُقدّم أفلاطون إجابةً على سؤال الإشارة يمكن إيجازها كالآتي: أنَّ الاسم يُشير إلى مُسمَّاه بضربٍ من المُحاكاة الطبيعية (التمثيل Representation) التي بين الاسم والشيء المُسمَّى؛ ذلك أنَّ اللغة عند أفلاطون طبيعيَّة، لا اصطلاحية، فكما أنَّ للأشياء [في نظر أفلاطون] ماهيَّاتٌ ثابتة، فلابد كذلك من أن يكون لكلِّ شيءٍ اسمه الطبيعيُّ الدالُّ على ماهيته، وللاسم معنًى ثابتٌ أيضًا يُمثِّل ماهيّة الشيء المُسمَّى.

إعلان

فتتحدَّد الإشارة بواسطة معرفة معنى الاسم، لأنَّ معنى الاسم يُحاكي ماهية الشيء الذي يُسمِّيه، والمعنى عند أفلاطون هو الفكرة (المثال) Idea وهو كائنٌ مُجرَّدٌ له وجوده الخاصّ في «عالم المُثُل»، يعمل كطرفٍ ثالثٍ يتوسَّط بين الشيء والاسم، فينتقل -ميتافيزيقيًّا- من عقل المُتكلِّم إلى عقل المُستمع لكي ينجح التواصل، وبالتالي، لكي تتحدَّد الإشارة. وإذا تساءلنا: كيف يعرف الانسان معنى الاسم؟ يُجيبنا أفلاطون: عن طريق التحليل الإيتيمولوجي الذي ينتهي بنا إلى اللفظ الأوّل للاسم؛ فهذا اللفظ الأوّل – تاريخيًّا – هو الذي يكون مُحاكيًا لماهية الشيء المُسمَّى أقرب ما يمكن. ومن النتائج المنطقيَّة المُترتِّبة على هذه الرؤية؛ أنَّ أفلاطون قد اعتقد بأنَّ الأسماء توصف بالصواب والخطأ – فهو يرفض الأصل الاصطلاحيَّ للّغة لأنَّه لو صحَّ لجاز قولنا عن الصغير أنَّه «كبير» وعن الحقِّ بأنَّه «باطل» ومن ثمَّ فقُل ما شئت. هذه هي الإجابة الأفلاطونيَّة حول مشكلة إشارة الأسماء.

ولكن أفلاطون لم يُعطِنا جوابًا شافيًا عن سر علاقة المُحاكاة الطبيعيَّة التي بين التسمية والشيء؛ فكيف يكون للأشياء أسماءٌ طبيعيَّةٌ تُعبِّر عن ماهياتها أو حقيقتها؟ يقترح أفلاطون أنَّه ربَّما كان أوَّل من سمَّى الأشياء بحسب ماهياتها هم الآلهة، وبالطبع الآلهة تعرف كلَّ شيء، أو ربَّما كانوا فلاسفة، وحينئذٍ فقد عرفوا ماهيَّات الأشياء فأطلقوا عليها الأسماء الصحيحة، ويترك لنا أفلاطون المسألة مفتوحة.. وعلى أيِّ حال، فإنَّ نظريَّة أفلاطون تُصوِّر لنا التسمية بشكلٍ متعسِّفٍ يبتعد تمامًا عن استخداماتنا لها في الواقع؛ فليس لكل الأشياء أسماء حقيقية لأنها تُحاكي ماهياتها، اللهمَّ إلَّا بعض المصنوعات والأغراض البشريَّة، ونحن لا نقوم باكتشاف الماهيَّة بمعرفة معنى الاسم الذي يُحاكي طبيعة الشيء؛ وإنَّما الواقع أننا نكتشفُ الأشياء كما تقع لنا في خبرتنا فنقوم بتسميتها اعتباطًا ثم نصطلح على استعمالنا لهذه الأسماء فيما بعد، ليس للاسم «شجرة» أو «قمر» معنى يُحاكي ماهيَّة الشجرة أو القمر في شيء، وأبسطُ مثالٍ هو حالات الولادة.. هل يقوم الآباء بتسمية أبنائهم أسماءً تُعبِّر عن طبيعتهم؟ هذا هُراءٌ محض. إنَّ العلاقة بين الكلمة والشيء علاقةٌ اعتباطيَّةٌ تمامًا كما يقول دو سوسير.

من الواضح أيضا أنَّ حلًّا كهذا مُسرفٌ في الخيال، وذو تكلفةٍ أنطولوچيَّةٍ عالية. ومُتحدثًا عن نفسي: لستُ مِمَّن سيقبلون الاعتقاد بوجود كياناتٍ مُجرَّدةٍ هي الأفكار أو المعاني فقط لتفسير ظاهرةٍ مثل الإشارة، وذلك وفقًا لما يقتضيه معيار البساطة Principle of Parsimony أو: نصل أوكام. فلنبتعد إذًا عن أفلاطون ولحيته الكثيفة المليئة بالكائنات المُجرَّدة.. أو لنُحاول، على أقل تقدير!

في اعتراضهِ على نظريَّة چون ستيوارت مِل في التسمية؛ يُقدِّم فريجه حلًّا هو في حقيقتهِ إحياءٌ للنظريَّة الأفلاطونيَّة في التسمية في ثوبٍ جديد. يرى فريجه أنَّ مِل أخطأ حينما لم يُفرِّق بين معنى -Sense- الاسم من جهة، وإشارته -Reference- أو مُسمَّاه من جهةٍ أخرى؛ فالاسم يُشير بالفعل إلى مُسمَّاه، وهو الفرد الواقعيُّ الموجود هنا أو هناك.. لكن ليس للاسم مُسمًّى فقط، بل له معنًى يُحدِّد إشارته ويتميَّز عن مُسمَّاه، لأنَّه كيف يمكنني أن أُشير إلى شيء لا أعرفه؟ ينبغي عليَّ أن أعرف معنى الاسم حتَّى أستطيع أن أُحدِّد إشارته إلى مُسمَّاه، ومعنى الاسم هو ذلك التوصيف الفريد Unique Description الذي نجده لا ينطبق إلَّا على المُسمَّى بالذات، على سبيل المثال:

إن قَولي «أرسطو» يُشير -إذا ما كان يُشير فعلًا- إلى شخصٍ ما في زمانٍ ومكان ما.. هو مُسمَّاه. ولكن للاسم «أرسطو» معنًى أيضًا يختلف عن إشارته، مثل: رائد المدرسة المشائيَّة، ومُعلِّم الاسكندر الأكبر، ومؤلِّف كتاب الميتافيزيقا، إلخ… من أوصافٍ فريدةٍ لا تنطبق إلَّا على أرسطو بالذات؛ بحيث يمكنني أن أكوِّن جُملًا مثل «رائد المدرسة المشائيَّة تتلمذ على يد أفلاطون» و «مؤلِّف كتاب الميتافيزيقا كان مُعلِّمًا للإسكندر الأكبر» فإذا بالجُملتين تُشيران إلى الشخص عينه، ولكنَّهما لا تترادفان في المعنى، وهذه الملاحظة الأخيرة توضِّح لنا أيضًا عَيبًا هامًّا في النظريَّة الإشارية في المعنى إذا ما قبلناها: إذ كيف لا تترادف هذه التعبيرات التي تُشير إلى الشيء نفسه، إذا افترضنا أنَّ معنى التعبير هو ما يُشير إليه حقًا؟

إذَن؛ هذه التوصيفات الفريدة Unique Descriptions التي أعرفها، والتي لا تنطبق إلَّا على المُسمَّى، هي معنى الاسم، وهي ما يُحدِّد إشارته. ومن ثمَّ يضطرُّ فريجه إلى القول بوجود ثلاثة عوالم: الأوَّل هو العالم الموضوعيُّ المحسوس، والثاني هو العالم الذاتيُّ الشعوري، والثالث هو عالم المعاني والحقائق الثابتة، وهذا الأخير نكتشفه لا نخترعه، وهذه نتيجةٌ منطقيَّةٌ مُتوقَّعةٌ من افتراض فريجه شرط ثبات المعاني والحقائق لتحديد الإشارة بدِقَّة، ولإقامة لغةٍ منطقيَّةٍ مثاليَّةٍ تتفادي غموض وأخطاء اللغة الطبيعيَّة. ومن البيِّن هنا أيضًا مدى الثقل الأنطولوچي الذي تلزمنا به نظريَّة فريجه هذه مثل سالفتها الأفلاطونيَّة؛ فلم يقُل فريجه ما طبيعة هذا العالم الثالث الذي يخبرنا به فريجه؟ وكيف توجد هذه المعاني التي يُحدِّثنا عنها؟ ما هو شكلها ولونها؟ أهي كائناتٌ نستطيع وصفها بأنَّها مُماثلةٌ لذاتها ومتميِّزةٌ عن غيرها؟ بعبارةٍ أخرى؛ هل ينطبق عليها معيار الهويَّة؟ تفشل أيُّ محاولةٍ للتقدُّم بإجاباتٍ على هذه الأسئلة.

من النتائج التي توصَّل إليها فريجه أيضًا؛ أنَّ التوصيفات الفريدة متى حُمِلَتْ على موضوعها [أي مُسمَّاها] بلفظ إشارة [هو] أصبحت تشكِّل نوعًا خاصًّا من القضايا أُطلِقَ عليه «قضايا الهوية» Identity Propositions مثل: نيتشه هو مؤلِّف «هكذا تكلَّم زرادشت»، أو أرسطو هو مُعلِّم الإسكندر. وهذه تختلف عن قضايا المنطق المتعارف عليها بين المناطقة [القضايا الشرطيَّة، والحَمليَّة، والعلائقيَّة، والوجوديَّة]؛ ذلك لأنَّ الرابطة بين الاسم وتوصيفه في قضيَّة الهويَّة هي (التساوي): فقولي «أرسطو» يتساوى مع قَولي «مُعلِّم الإسكندر الأكبر»، على عكس قولي مثلًا: أرسطو فيلسوفٌ متزوِّج؛ فالرابطة هنا هي (الحمل)، والدليل على الاختلاف بين القضيَّتين -فيما يرى فريجه- أنَّنا نستطيع أن نستبدل التوصيف الفريد بالاسم دون أن يتغيَّر المعنى في شيء؛ فقولنا مُعلِّم الإسكندر يعني أرسطو، والعكس، بينما قولنا: فيلسوفٌ متزوِّجٌ لا يعني أرسطو بالضرورة [وسنأتي للحديث عن هذه الضرورة لاحقًا مع كريبكي]، ونستطيع أن نقول بأنَّ علاقة (التساوي) التي أوضحها لنا فريجه ما هي إلَّا «تطويرٌ منطقيّ» لفكرة (المُحاكاة الطبيعيَّة) التي قال بها أفلاطون.

من خلال هذه التحليلات يخلُصُ فريجه إلى استنتاجاتٍ ستفتح بابًا لنقاشٍ لم يُحسم حتَّى الآن.. فإذا كانت الرابطة المنطقيَّة بين الاسم وتوصيفه هي التساوي، فإنَّ التوصيفات المُحدِّدَة Definite Descriptions [كما يقترح فريجه] ليست سوى أسماء عَلَم مُركَّبة Compound proper names، والهويّة Identity إذن هي علاقةٌ تقوم بين الأسماء، أي De dicto (وسنأتي لشرح هذه الكلمة لاحقًا). وإذا لم نتخلَّى عن الادِّعاء القائل بأنَّ الأسماء تُشير إلى أشياء هي مُسمَّياتها، بفضل معانيها، فماذا نحن بفاعلون في الأسماء التي نعرف معانيها ولكنَّها لا تُشير إلى شيءٍ واقعيّ؟ على سبيل المثال «زيوس»، «غول»، أو «فرسٌ مُجنَّح» أو «عنقاء» هل هنالك ما تُشير إليه؟ ألمح فريجه إلى هذه المشكلة بالفعل ولكنَّه لم يُعطِ جوابًا شافيًا عنها، بل اكتفى فقط باستبعاد أسماء العَلَم الخرافيَّة والأسماء المُركَّبة من هذا النوع من أيِّ لغةٍ منطقيَّةٍ دقيقة. ولم يكن فريجه مُتَّسقًا مع ذاته في هذا الأمر؛ لأنَّه كان يستطيع أن يقول بأنَّ الكائنات الخرافيَّة توجد في ذلك العالم الثالث الذي يضعه في التزامه الأنطولوجيّ؛ عالم المعاني المعقولات والحقائق المنطقيَّة والرياضيَّة.

بينما اتَّخذ المنطقيُّ الألمانيّ «أليكسيوس مينونج» هذه الخطوة بدلًا من فريجه، وتأثُّرًا به؛ فقد رأى مينونج أنَّه لا بُدَّ لكلِّ موضوعٍ مُتصوَّر ٍمنطقيًّا من أن يكون له وجودًا واقعيًّا بطريقةٍ ما، سواءً كان وجوده في العالم المحسوس مثل إنسان أو لون، أم لم يوجد في عالم الحسِّ مثل المعاني والحقائق المُجرَّدة، وإلَّا فما معنى كلامنا عن هذه الأمور إن لم تكن موجودةً على نحوٍ ما؟ كيف يكون لتقريري أنَّ القضيَّة (س) تتناقض مع القضيَّة (ص) معنى، أو أنَّ ٣+٢=٥ قضيَّةٌ صادقة، ما لم يكن ثمَّة واقعيَّةٌ ما لهذا التناقض أو للأعداد والحقائق والقضايا بشكلٍ عام؟ ومن ثمَّ لا نستطيع الكلام كلامًا ذا معنى عن كائنات مثل «زيوس» أو «غول» ما لم تكن هذه الكائنات موجودةً بالفعل! ما هذا؟ إنَّها لحية أفلاطون تعاود الظهور من جديد..

ستُثير هذه التحليلات والنتائج اهتمام برتراند رَسل؛ فيقوم بتطوير نظريَّة فريجه في التمييز بين معنى الاسم وإشارته، ولكن بمحاولة إقصاء فكرة العوالم الثلاثة، وإيجاد حلٍّ لمشكلة معنى التقريرات الوجوديَّة، والعبارات الوصفيَّة المُحدِّدة Definite Descriptions؛ تلك المشكلات التي أثارتها آراء مينونغ- هذه النظريَّة التي سيطوِّرها رَسِل هي نظريَّة الأوصاف Theory Of Descriptions التي لاقت قبولًا واسعًا رغم ما تعرَّضت له من نقدٍ فيما بعد.

وعلى الرغم من أنَّ نظريَّة رَسل في الأوصاف هي الوريثة الشرعيَّة لتمييز فريجه بين معنى الاسم وإشارته؛ فلا تختلف رؤية رَسِل مع فريجه بخصوص كيفيَّة نجاح الإشارة بالأسماء، إلَّا أنَّ رَسل يتوصَّل إلى عكس ما انتهى إليه فريجه؛ فبينما ينتهي فريجه إلى ردِّ الأوصاف المُحدِّدَة جميعها إلى أسماء عَلَمٍ مُركَّبة، ينتهي رَسِل إلى القول بأنَّ الأسماء جميعها ليستْ إلا أوصافًا مُختزلةً أو مُتخفّية. لقد توصَّل رَسل بتحليلهِ إلى أنَّ الأسماء كلّها، ليستْ سوى اختصارًا للصفات التي نعرفها عن الشيء، بل والأكثر من ذلك -سيُضيف رَسِل- أنَّ ما ندعوه «شيئًا» عمومًا ليس إلَّا حزمةً من هذه الصفات الموجودة معًا.         

ينطلق رَسل أوّلًا ناقدًا ما توصَّل إليه فريجه، فيُميِّز تمييزًا حاسمًا بين اسم العَلَم بالمعنى الدقيق، والعبارات الوصفيَّة المُحدِّدَة التي لا تنطبق إلا على المُسمَّى المُشار إليه بالاسم.

ويمكن إيجاز مقارنة رَسِل في ثلاث نقاطٍ كما يلي:

1/ الاسم رمزٌ بسيط، بينما التوصيف المُحدِّد رمزٌ مُركَّب، ونسمِّي الرمز بسيطًا إذا كان مؤلَّفًا من أجزاء [والأجزاء هنا هي حروف الاسم] وليس كلُّ جزءٍ في ذاته رمزًا، ونسمِّي الرمز مُركَّبًا إذا كان مؤلَّفًا من أجزاء [أي كلمات] كلُّ جُزءٍ منها هو رمزٌ له معنى ودلالة. ففي القضية “نيتشه هو مؤلف كتاب (هكذا تكلَّم زرادشت)” نجد أنَّ «نيتشه» اسم عَلَمٍ ورمزٌ بسيط، بينما «مؤلِّف كتاب هكذا تكلَّم زرادشت» هي وصفٌ مُحدِّدٌ ورمزٌ مُركَّب.
2/ يرتبط الاسم بمُسمَّاه ارتباطًا مباشرًا، بينما الوصف المُحدِّد ليس كذلك؛ لأنَّنا حين نستخدم الاسم استخدامًا صحيحًا يجب أن نُشير به إلى شيءٍ جُزئيٍّ في الواقع، وهكذا يمكنك معرفة إشارة «نيتشه» مباشرةً فقط إذا كنت قد قرأت لهذا الفيلسوف أو سمعت عنه. لكنَّ الوصف المُحدِّد ليس له هذا الارتباط المُباشر بالشيء، لأنه يمكننا فهمه حتَّى لو لم يكن هناك ما يُشير إليه، وحتى لو وُجِد ما يُشير إليه ولم نكن نعرفه. يمكنني أن أفهم عبارة «مؤلِّف هكذا تكلم زرادشت» إذا عرفتُ معنى كلمة مؤلِّف وأنَّ «هكذا تكلَّم زرادشت» هو كتابٌ أدبيٌّ فلسفيّ، وبعبارة أُخرى: لستُ في حاجة إلى معرفة نيتشه نفسه حتى أفهم ما تعنيه عبارة «مؤلِّف هكذا تكلَّم زرادشت»، فإذا قلتُ: ’’نيتشه هو مؤلف هكذا تكلَّمَ زرادشت‘‘ فإنني أنسب ذلك الوصف «مؤلف هذا تكلَّم زرادشت» إلى أحد الأشخاص وهو «نيتشه».

3/ لو كان الوصف المُحدِّد هو اسم عَلَمٍ مُركّبٌ كما زعم فريجه؛ لكانت القضيَّة «هوميروس مؤلِّف الإلياذة» تحصيل حاصل (لغوًا) Tautology، كأنَّنا نقول “هوميروس هو هوميروس” وحينئذٍ يبدو وكأنَّنا لا نقول شيئًا ذا معنى، والحال أنَّ القضيَّة «هوميروس مؤلِّف الإلياذة» ليستْ كذلك؛ إذ أنَّنا حينما نُقرِّر أنَّ «هوميروس مؤلِّف الإلياذة» فإنَّنا لسنا نقصد بذلك أن نصوغ قانون الهويّة، بل نُخبر عن واقعةٍ تاريخيَّة.

نفهم من هذه المقارنة أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن رَسِل يردُّ التوصيف المُحدِّد إلى محمولٍ منطقيّ؛ فلا يُساويه مع اسم العَلَم كما يفعل فريجه؛ فيكون الوصفُ مفهومًا بذاتهِ وإن كان معناهُ غيرَ مكتملٍ إلا بعد أن يُحمل على اسم؛ فالمحمولاتُ هي تصوُّراتٌ عامة تُسند إلى أشياءٍ جُزئيةٍ عديدة. ثم بعد ذلك، يستنتج رَسِل أن الأسماء كلّها يمكن ترجمتها إلى أوصاف، لأنها في حقيقتها ليستْ إلا أوصافًا متخِّفية؛ فليستْ هنالك أسماء عَلَمٍ مُركَّبة كما زعم فريجه، وبذلك نتخلَّص من المُشكلات التي تُثيرها الأسماء عمومًا وأسماء الأعلام الخرافية خصوصًا؛ فلا واقعيَّة لهذه الكائنات التي تُسمّى [زيوس، رَع، عنقاء، غول، إلخ..] لأنها أوصافٌ مُجرَّدةٌ نتصوّرها فيُركّبها الذهن. وقد رأى رَسل أنَّ سبب الاعتقاد بهذه الواقعيّة المنطقيَّة للتصوُّرات هو خطأ الخلط بين النحو والمنطق فيما يخصُّ الأسماء؛ فقد درج المناطقة التقليديُّون على الاعتقاد بأنَّ الجملة «سقراط فيلسوف» والجملة «الإنسان فانٍ» لهما صورةٌ منطقيّةٌ واحدةٌ بما أنَّهما من تركيبٍ نحويٍّ واحد، في حين أنَّهما -بالنسبة للمنطق- ليستا كذلك. وهذه هي نظريَّة «الأنماط المنطقيَّة» Theory of logical types التي صاغها رَسل في بداية القرن المنصرم ليحلَّ بها بعض المفارقات التي واجهته أثناء تحليل المنطق والرياضيات.

وقبل أن نوضح الفرق بين العبارتين السابقتين؛ يجدر بنا التوقُّف قليلًا لشرح نظريَّة الأنماط، وذلك لأهمّيتها الشديدة في المنطق الحديث؛ فَمَ هي نظريَّة الأنماط؟

يمكننا التمهيد لهذه النظريَّة بملاحظة واقعةٍ بسيطة، وهي أنَّ النحو يتحدَّث عن كلِّ الأسماء كصنفٍ واحدٍ من الكلمات، وعن كلِّ الأفعال كصنفٍ آخر، وعن كلِّ الصفات كصنفٍ ثالث… وهكذا، على الرغم من أنَّه يجب التمييز في كلِّ صنفٍ وتصنيفه إلى أصنافٍ فرعية؛ نقول مثلًا عن «منضدة» و «شعور» و «عِلَّة» أنَّها جميعًا أسماء، مع أنَّها أنماطٌ مختلفةٌ من التسمية، ويعتمد تمييزنا بين هذه الأنماط على معنى كلّ كلمة ومدلولها في الواقع أو قواعد استعمالنا لها؛ فتدلُّ كلمة «منضدة» مثلًا على شيءٍ فيزيائيٍّ محسوسٍ نُدركه بالحواس، بينما لا تدلُّ كلمة «شعور» هذه الدلالة، وكذلك كلمة «عِلَّة» لا تُشير إلى شيءٍ مُعيّنٍ محسوس، وإنَّما هي إطارٌ نصِف به حادثتين متعاقبتين تعاقبًا مُطردًا. وإذن فهذه الكلمات تنتمي إلى أنماطٍ منطقيَّةٍ مختلفة، ولا تدلُّ على أشياءٍ أو وقائع من جنسٍ واحد. إليك أيضًا الفِعلين «يمشي» و «يعتقد»؛ كلاهما فعلٌ ولكن لكلِّ فعلٍ منهما منطقُه، فالمشي حركةٌ جسديَّةٌ يُمكن مُشاهدتها بالحواس، والقضيَّة ”زيد يمشي“ تصدق إذا كان زيد يمشي وتكذب إذا كان زيد جالسًا مثلًا – وأمَّا الاعتقاد فليس حركةً جسديَّةً وإنَّما هو حالةٌ عقليَّةٌ قد تُفصح عن ذاتها في سلوكٍ وقد لا تُفصح، والقضيَّة ”زيد سينال الجائزة“ تصدُق إذا تطابقت مع الواقع وتكذب إذا جاء الواقع مُخالفًا لها، لكن ”أعتقد أنَّ زيدًا يستحقُّ أن ينال الجائزة“ لا تصدُق لمجرَّد أنَّ زيدًا قد نال الجائزة في الواقع، ذلك لأن اعتقادي بذلك لا يتوقَّف على واقعةٍ أتنبَّأ بها، وإنَّما يستند إلى مُبرِّراتٍ عندي؛ فقد لا ينال الجائزة فعلًا لكنّي لازلت أعتقد أنَّه يستحقُّها. خذ أخيرًا الصفات «أزرق» و «طموح» و «ماضٍ» كلٌ منها في النحو صفات، لكنَّها ليست من نمطٍ واحدٍ من حيث الدلالة وطريقة استعمالنا لها.

والآن؛ من المواقف الهامَّة التي تكشفها لنا نظريَّة الأنماط: أنَّ «سقراط» و «إنسان» في مثالنا الأوَّل كلاهما اسمٌ ولا يُميِّز النحو بينهما، لكنَّهما من نمطين منطقيَّين مختلفين، ولذلك، فالعبارتان «سقراط فيلسوف» و «الانسان فانٍ» عبارتان اسميَّتان من حيث تركيبهما اللغوي، لكنَّهما من صورتين منطقيَّتين مُختلفتين تمامًا؛ إذ أنَّ الأولى قضيَّةٌ حمليَّةٌ بسيطة Singular Proposition، بينما الثانية هي صيغةٌ مختصرةٌ لقضيَّةٍ شرطيَّةٍ مُتَّصلة Hypothetic Conjunctive Proposition، ويمكن إيجاز الفوارق بينهما فيما يلي:

أ- العبارة الأولى تُعبِّر عن عضويَّة الفرد «سقراط» في فئة «الفلاسفة»، وصورتها: س هو ص أو «س‏ ε ص»، بينما العبارة الثانية تُعبِّر عن دخول فئةٍ كاملةٍ في فئة أخرى، إنَّها تقول لنا أنَّ فئة «الإنسان» داخلةٌ في فئة «الكائنات الفانية»، وصورتها هي: «إذا كان س هو أ إذًا س هو ب» أو: إذا كان س داخلًا في فئة «الإنسان» إذًا س داخل في فئة «الكائنات الفانية».

ب- نقول عن العبارة الأولى «قضيَّةٌ بسيطة» Elementary Proposition لأنها تُخبر عن فردٍ جُزئيٍّ في الواقع، وأستطيع التحقّق من صدقها مباشرةً من حيث المبدأ لأن ما يوجد في الواقع هو الجُزئيَّات فقط (سقراط وزيدٌ وعليّ)، بينما نقول عن العبارة الثانية «قضيَّةٌ مُركَّبة» Compound Proposition لأنَّها تُخبر عن واقعةٍ كُلِّيَّةٍ تقبل التحليل إلى عددٍ لا حصر له من القضايا البسيطة، وبالتالي، من المستحيل أن أتحقَّق من صدقها مباشرةً لأنَّه لا يوجد في الواقع شيءٌ كُلِّيٌ هو «الانسان»، فهذه الكلمة ليست إلَّا فئة نستخدمها لتصدق على جميع الأفراد الجُزئيَّة التي تشترك فيما بينها في بعض الصفات؛ وإذن فهذه القضية المُركَّبة تنحلُّ إلى عددٍ لا حصر له من القضايا في صورة : س1 إنسان، س2 إنسان، س3 إنسان، إلخ… من الناس، ثمَّ بعد إحصاء كلِّ أفراد البشر (نظريًّا بطبيعة الحال) نضع سورًا منطقيًَا فنقول: وكلُّ هؤلاء هم أفراد فئة «الإنسان»، وهم ينتمون إلى فئة «الكائنات الفانية» أيضًا.

وهكذا تمكَّن رَسِل من تصنيف الأسماء إلى أنماط: أسماء أعلامٍ تُشير إلى الجُزئيَّات أو الأفراد (مثل أحمد وزيد وعليّ)، وأسماء الفئات التي تندرج تحتها أسماء الأعلام (مثل إنسانٍ وقلمٍ وكتاب)، وأسماء لفئات الفئات تندرج تحتها الأسماء السابقة جميعها (حيوانٌ وجمادٌ وما شابه)، ثم يقول رَسِل: «هناك جُزئيَّات، ولكننا حينما نصل إلى الفئات، وفئات الفئات، فهنالك يكون حديثنا عن محض أوهامٍ منطقيَّة Logical fictions.»

وبتحليلٍ مُكثَّفٍ يخلُص رَسل إلى أنَّ الأسماء العَلَم (بالمعنى الدقيق) هي أسماء الإشارة فقط: هذا، هنا، الآن… إلخ؛ فهذه وحدها هي التي تُشير مباشرةً إلى الشيء «الجُزئيّ» بأدقِّ معاني الكلمة. وأمَّا الأسماء الكليَّة والمُفردة فهي اختزالٌ لأوصاف؛ فكلمة «إنسان» من حيث هي اسمٌ كُلِّيٌ ليست إلَّا اختصارًا للأوصاف المميّزة التي يشترك فيها نوعٌ معيّن من الكائنات، نُركّبها معًا في اسم واحد، وكذلك الأسماء الخرافيَّة مثل (رَع، غول، عنقاء… إلخ) هي اختصارٌ لأوصافٍ يُركِّبها الذهن. وكلمة «أرسطو» من حيث هي اسمٌ مُفردٌ ليست سوى اختصارًا لأوصافٍ كثيرةٍ نُعرف بها الشيء حامل الاسم مثل: تلميذ أفلاطون، ومُعلِّم الاسكندر الأكبر، ورائد الفلسفة المشائيَّة، ومؤلِّف كتاب الميتافيزيقا، ومؤسِّس علم المنطق، إلخ… من أوصافٍ نعرف بها أرسطو؛ فالرأي عند رَسِل إذًا هو أنَّ «الشيء» عمومًا ليس إلا تركيبًا منطقيًاّ لجميع أوصافه، وأمَّا الشيء بوصفه جوهرًا عاريًا عن أيِّ صفة إنَّما هو تجريدٌ ذهنيٌّ لا وجود له في واقع خبرتنا.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة أيضًا إلى «كارناب» الذي أخذ منحنى رَسِل على أقصاه؛ فاقترح الاستغناء منطقيًّا عن الأسماء العَلَم بشكلٍ نهائيّ، لنتخلَّص ممَّا تُسبِّبه من مُشكلاتٍ وغموض، فبدلًا من ترجمتها إلى أوصاف يقترح «كارناب» ترجمتها إلى الإحداثيَّات الزمكانيَّة التي تُحدِّد الإشارة بنقطة تلاقي خطِّ الطول مع خطِّ العرض في لحظةٍ مُعيَّنة من الزمان، هذه الإحداثيات هي التي تُشير إلى «الجُزئيّ» بأتمِّ معاني الكلمة؛ لأنَّ «الشَّيْء» هو تاريخٌ من الأحداث الزمكانيَّة المتّصلة، واسم العَلَم لا يُفيد هذه «الجُزئيَّة» الدقيقة، بل يُفيد مجموع هذه الحالات والأحداث معًا، ومن ثمَّ فهو لا يختلف كثيرًا عن الاسم الكُلِّي، فيقترح «كارناب» الاستغناء عنه منطقيًّا في أيِّ لغةٍ علميَّةٍ دقيقة.

ولا تعود لنا حاجةٌ بعد إلى افتراض وجود الكائنات التي تُسمّيها أسماء العَلَم حتى يكون لكلامنا معنى، لأننا نستطيع ترجمة أيِّ اسمٍ إلى عباراتٍ وصفيَّةٍ على طريقة رسل، دون أن تفقد القضية ككلٍّ معناها الأصليّ، إليك مثلًا القضايا الوجودية؛ فحينما نُقرِّر أنَّ «موسى موجود» فإنَّما نعني بذلك: أنَّ القضيََة «هنالك رجلٌ واحدٌ على الأقلِّ هو الذي فعل كذا وكذا (كما يخبرنا الكتاب المقدَّس)» قضيَّةٌ صادقةٌ أحيانًا، فإن لم توجد وقائع تطابق هذه القضيَّة ومن ثمَّ تؤكِّد صدقها؛ فهي عندئذٍ قضيَّةٌ كاذبة. كما نستطيع ترجمة العبارات من هذا النوع إلى إحداثيَّاتٍ زمكانيَّةٍ على طريقة كارناب أيضًا، ولكن طريقة كارناب لا تصلح إلَّا للعلوم الطبيعيَّة، كما أنَّها لا تخلو من التعقيد، على عكس طريقة رَسِل. ولكن يبدو أنَّ هناك سؤالًا لم نتطرَّق له فيما توصَّل إليه رَسِل، فرغم كل ذلك ما «المعنى» الذي نحتفظ به للقضيَّة بعد ترجمة اسم العَلَم الذي تحويه إلى توصيفٍ مُكافئٍ له؟ لا أعتقد أنَّ هناك نظريةً واضحةً في «المعنى» يتبنَّاها رَسِل، وأعني بنظريَّةٍ في المعنى: التقدُّم بشروطٍ ضروريَّةٍ وكافيةٍ لتحديد كيف يكون للتعبير أو للكلمة معنى، أو توضيح طبيعة ما ندعوه «معنى»؛ فكما نجد مثلًا عند «الوضعيَّة المنطقيَّة» نظريَّة «التحقُّق في المعنى» وعند فتجنشتين المتأخِّر «نظريَّة الاستعمال» في المعنى، هل نستطيع أن نجد لدى رَسِل «نظريَّةً في المعنى» على هذا النحو؟ بالطبع نستطيع أن نستشفَّ رؤيةً ما للمعنى لدى برتراند رَسِل بعد إمعان النظر في مُجمل تحليلاته ونظريَّاته في المنطق واللغة، وخاصةً من نظريَّته في الأنماط المنطقيَّة، ولكنَّها -فيما يبدو لي على الأقلّ- لن تكون رؤيةً واضحةً تمامًا كيما نصفها بنظريَّةٍ في المعنى كالنظريَّات السابقة. لكن على أيِّ حالٍ ليس المعنى لدى برتراند رَسِل كائنًا ما له وجوده الخاصّ كما قال أفلاطون وفريجه. وليستْ هذه بمُشكلةٍ ذات أهميَّةٍ تُثار ضدَّ نظريَّة الأوصاف؛ بدليل أنَّ فلاسفة أوكسفورد تبنّوا نظريَّة الأوصاف مع «نظريَّة الاستعمال» في المعنى حينًا، ومع نظريَّة «قصد الاتصال» حينًا آخر.. يبدو إذًا أنَّ برتراند رَسِل نجح في اقتصاص لِحية أفلاطون إلى حدٍّ كبير!

إذَن؛ الإجابة التي يقدِّمها لنا رَسِل عن مسألة الإشارة هي أنَّ إشارة الاسم إلى مُسمَّاه تتحدّد بشرط ترجمة الاسم إلى التوصيف المُرادف له، فإذا لم يصدُق ذلك التوصيف على شيءٍ في الواقع؛ كان الاسم لا يُشير لشيء. وفيما عدا أسماء الإشارة [هذا، هنا، الآن…إلخ] وحدها التوصيفات هي ما تُحدِّد الإشارة، أمَّا الأسماء المألوفة فلا تُشير بذاتها.

ظهرت بعض العيوب في نظريَّة الأوصاف كما صاغها رَسِل عقب ما تلقَّته من انتقاداتٍ من فلاسفة أوكسفورد، وخاصَّةً من نقد ستراوسُن لها، وخضعت لتنقيحاتٍ طفيفةٍ لمحاولة تفادي عيبٍ واضح فيها، ألا وهو التفاوت بين التوصيفات ودرجة تحديدها لمعنى الاسم وإشارته بدقّة.. وقد ألمح فريجه إلى ذلك العيب بالفعل؛ فعبارة «تلميذ أفلاطون» لا تنطبق على «أرسطو» بالذات مثلما تنطبق عبارة «رائد الفلسفة المشائيَّة» مثلًا. وفي محاولة التغلُّب على هذه المشكلة يقترح فلاسفة أوكسفورد مبدأ “حزمة التوصيفات” Cluster Descriptions وهو مبدأٌ يشترط في تحديد معنى الاسم وإشارته أن تكون هناك “عائلة من التوصيفات” التي تُحدِّد موضوعها بفرادة، وليس توصيفًا واحدًا فقط هو ما سيُحدِّد الإشارة.

ولكن أهمّ من انتقد هذه النظرية بحقِّ من المعاصرين هو الفيلسوف والمنطقيُّ الأمريكيُّ البارز: “شاول كريبكي”. في محاضراته بجامعة برينستون (١٩٧٠)، والتي قام بنشرها فيما بعد في كتابٍ بعنوان “التسمية والضرورة”، يقدِّم كريبكي شرحًا وتحليلًا مُفصَّلًا لنظريَّة الأوصاف لدى فريجه ورَسِل، ويشهد لها بأهمّيتها وقدرتها على حلِّ الكثير من المشكلات.. كما ويعرض جميع الحجج التي تدعم النظريَّة وتزيد من رصيدها، ثم يُعقِّب بعد ذلك قائلًا: ورغم كلِّ شيء؛ أجدني متيقِّنًا من بطلان وجهة نظر فريجه ورَسِل!      

فلماذا يعتقد كريبكي ببطلان نظريَّة الأوصاف؟     

ميتافيزيقا منهجيَّة:

أ- تقنيَّة العوالم المُمكنة The Possible Worlds Technique

حتَّى نفهم وجهة نظر كريبكي ينبغي لنا الولوج أوَّلًا إلى عوالمه المُمكنة ومنطقه الجِهَوي. والعوالم المُمكنة هي تقنيَّةٌ فكريَّةٌ يستخدمها الفلاسفة المُعاصرون والمناطقة، وخاصَّةً المشتغلون في منطق الجهات Modal Logic، وهي تعتمد على مَلَكة التخيُّل؛ فهي محاولة تصوُّر عوالمَ منطقيَّةٍ تسير فيها الأمور على غير ما هي في الواقع الفعليّ، بشرط ألَّا تكون هذه العوالم متناقضة. ووظيفة هذه التقنيَّة هي تحديد قيمة صدق القضايا من حيث الإمكان، والضرورة، والاستحالة؛ فنقول مثلًا عن القضيَّة {3+2=5} أنَّها ضروريَّة الصدق في كلِّ العوالم المُمكنة، ومستحيلة الكذب في أيِّ عالمٍ ممكن، وكذلك القضيَّة «كل العُزَّاب غير متزوِّجين» صادقةٌ بالضرورة في أيِّ عالمٍ ممكن، في حين أنَّ القضية «فاز محمد مُرسي بالإنتخابات الرئاسيَّة لعام ٢٠١٢» صادقةٌ في أحد العوالم المُمكنة على الأقلّ، وهو عالمنا عام ٢٠١٢، وكاذبةٌ في بعض العوالم الأخرى.. لماذا؟ لأنَّه ببساطةٍ كان يمكن أن يفوز شخصٌ آخر، ومن الممكن أن تكون نتيجة الانتخابات مُزوَّرةً ولم يفُز محمد مُرسي فعلًا، وكان من المُمكن أن يجري اغتيال محمد مُرسي…إلى آخره من ظروفٍ مُمكنةٍ لا يوجد ما يمنع من حدوثها. ولا يستخدم كريبكي تقنيَّة العوالم المُمكنة باعتبارها التزامًا أنطولوچيًّا يُقرِّر وجود عوالم متعدِّدةٍ واقعيًّا؛ فالعوالم المُمكنة لديه هي ببساطةٍ تصوُّرٌ لظروفٍ “ضدِّ فعليَّة” Counter-actual situations  لما يُمكن أن تكون عليه الحال.. بحيث يكون هذا السيناريو الافتراضيُّ ممَّا لا يتناقض مع الحدس المنطقيّ Intuition كالأمثلة السابقة. (انظر: المجلَّة العربيَّة للعلوم الإنسانية، عدد ١٤٩: من منطق الجهات إلى فكرة العوالم المُمكنة)

وبعد هذه المُقدِّمة الموجزة نأتي الآن لنقد كريبكي لنظريَّة الأوصاف بالاعتماد على تقنيَّة العوالم الممكنة:

يرى كريبكي أنَّ نظريَّة الأوصاف تُخطئ خطأً فادحًا إذ تُقرُّر أنَّ الأسماء ليستْ سوى توصيفاتٍ مختزلة، وأنَّ إشارة الاسم تتحدَّد بحسب الأوصاف المُميِّزة التي نعرفها. فالتوصيفات تتفاوت كما رأينا، وجُلُّ ما تستطيع الأوصاف أن تفعله هو تثبيت إشارة الاسم بعلامات (صفات) عَرَضيَّة، ولا يحدث ذلك إلَّا في حالاتٍ استثنائية، كحالات التعريف الاشتراطيِّ مثلًا: أن يقول المرء سوف أدعو هذا الشيء بالاسم [س] وسأعني بالاسم [س] الشيء الذي هو كذا وكذا.. أما الأسماء في واقع استعمالنا لها دائمًا ما تُشير إلى مُسمَّاها مُباشرةً، كما سيتبيّن لنا. وفي ذلك يُدافع كريبكي عن رأي مِل في الدلالة الخارجيَّة للتسمية Denotation ولكنَّه يتغلَّب على بعض ما تطرحه هذه الرؤية من مشكلات.

ثمّة تصنيفٌ هامٌّ قدّمه كريبكي في فلسفة اللغة للتمييز بين ضربين من تعيين الإشارة:

فهناك مُعيِّناتٌ صارمة Rigid Designators ومُعيِّناتٌ غير صارمة Non-rigid Designators، والمُعيِّن الصارم هو ما يُشير refer بقوّةٍ إلى الشيء نفسه في كلِّ العوالم الممكنة، بينما المُعيِّن غير الصارم يُشير إلى الشيء على نحوٍ عَرَضيٍّ في كلِّ العوالم المُمكنة. والأسماء إذا ما استخدمناها بطريقةٍ سليمةٍ هي مُعيِّناتٌ صارمة، تُشير إلى الشيء مباشرةً في كلِّ العوالم المُمكنة. بينما التوصيفات ليستْ كذلك: إنَّها نِسبيَّة؛ لأنَّه يمكن أن نمتلك آراءً خاطئةً في توصيفاتنا حول الشيء المُسمَّى، فهل يعني ذلك أنَّ هذا الشيء لا وجود له؟ بالطبع لا، كما أنَّ التوصيفات الخاطئة يُمكن أن تُشير إلى شيءٍ آخر يستوفيها، غير الشيء الأصليِّ حامل الاسم.

إليك أمثلة:

إذا كنَّا نعتقد أن الاسم «موسى» معناه: الشخص الذي فعل كذا وكذا كما يخبرنا الكتاب المقدَّس (تحدَّى الفرعون، قاد اليهود للخروج من مصر، أغرق جيش المصريين… إلخ)، أقول إذا كنا نعتقد بذلك [بحسب نظريَّة الأوصاف]، ثمَّ افرض أن اكتشف علماء التاريخ أنَّ أيًّا من هذه الأشياء لم تحدث حقًّا… فهل يكون معنى ذلك أنَّ موسى نفسه لم يوجد فعلًا؟ بالطبع لا؛ لأنَّه من المُمكن أن يكون موسى موجودًا ولكنَّه لم يفعل أيًّا من هذه الأشياء المنسوبة إليه، بل ظلَّ مُخلِصًا للمصريين وعُيِّنَ وزيرًا وعاش حياةً مُكرَّمة في البلاط المَلَكي ومات بسلام.

ولنضرب مثالًا آخر على نفس المنوال: إذا اعتبرنا أنَّ الاسم «نيتشه» هو اختصارٌ للتوصيف: مؤلِّف كتاب «هكذا تكلَّم زرادشت» وكتاب «العلم المَرِح» وإلى آخره من مؤلَّفات نيتشه عمومًا. والآن، فلنفترض أنَّنا اكتشفنا أن مَن ألَّفَ هذه الكتب هو شخصٌ آخر ولكنَّه لم يمتلك الجرأة لنشرها، فنسبها إلى نيتشه، اعتباطًا أو عن قصدٍ لا يهم، ثمَّ قام بنشرها.. هل يكون معنى قولنا هذا أنَّ نيتشه ليس موجودًا فعلًا؟ بالطبع لا، لأنَّه من الممكن أنَّ نيتشه لم يكن يهوى الكتابة ولم يمارس التأليف، ولم يتفلسف حتَّى، ورغم ذلك، يظلُّ موجودًا، إنَّما الخطأ في آراءنا (توصيفاتنا) عنه. حسنًا، دعك من وجود «نيتشه»، هل سنقول عندئذٍ، حينما نكتشف هويَّة المؤلف الحقيقيّ لهذه الكتب، أي الشخص الذي يستوفي جميع التوصيفات، هل سنقول أنَّه هو «نيتشه»؟ قطعًا لا، بطبيعة الحال سنقول: نيتشه لم يؤلِّف هذه الكتب، وإنَّما قامت بتأليفها – مثلًا – سالومي.

حسنًا، هب أنَّنا نُشير إلى «غودل» بوصفه: الرجل الذي صاغ مبرهنة عدم الاكتمال، ثمَّ اكتشفنا بعد عقودٍ طويلةٍ أنَّ شخصًا يُدعى «سميث» هو صاحب هذه المبرهنة، وعرفنا (مثلًا) أن «غودل» قام بسرقتها منه بحيلةٍ ذكيَّة؛ هل يترتّب على ذلك أنَّنا كنَّا نُشير طوال هذه السنوات إلى «سميث» لا إلى «غودل»؟

هذه الأمثلة وغيرها تُبيِّن لنا كيف يمكن أن تكون توصيفاتنا عن الشيء مُخطئة، ومن ثمَّ نقع في مآزق منطقيَّةٍ بسبب نظريَّة الأوصاف.      

ب- الهُويَّة عبر العوالم المُمكنة Transworld Identity

يرى كريبكِ أنَّ الأسماء مُعيِّناتٌ صارمةٌ لا لأنَّها تُشير إلى المُسمَّى مباشرةً وحسب، وإنَّما لأنَّها، حدسيًّا، تُعيِّن الشيء بوصفه مُتماهيًا مع ذاته تعيينًا صارمًا في كلِّ العوالم الممكنة، أي أنَّ الأسماء تُفيد الهُويَّة-الذاتيَّة Identity بينما التوصيفات ليستْ كذلك. لأنه، مثلًا، من الصدق أن نقول: كان من الممكن أن يكون شخصٌ آخر غير الرئيس المصريِّ المنتخب لعام ٢٠١٢، رئيسَ مصر المنتخب عام ٢٠١٢، كان من الممكن أن يُنتخب شخصٌ آخر غير «محمد مُرسي» بالطبع. لكنَّه من غير الممكن أن يكون «محمد مُرسي» أحدًا غير «محمد مُرسي»، إنَّ قولًا كهذا كاذبٌ فيما يرى كريبكي، فـ«محمد مُرسي» هو بالضرورة «محمد مُرسي».

وقد أشار المنطقيُّ «ويليام چونسُن» (١٨٥٨-١٩٣١م) إلى الأمر نفسه قبلًا، إذ يتساءل حول الاسم العَلَم فيقول : «كيف يمكن لهذا الاسم الذي لا دلالة له إطلاقًا، أن يُفهم على أنَّه يُشير إلى نفس الشيء الذي أشار إليه فيما مضى، حين نستعمله في لحظاتٍ زمنية مختلفة، أو حين يستخدمه عدَّة أشخاصٍ أو حين يُساق في مواضع مختلفة من السياق؟» ويُجيب چونسُن على ذلك بقوله أنَّ اسم العَلَم فيه منطقيًّا ما يزيد على اسم الإشارة، لأنَّك إذا أشرت صامتًا إلى شيءٍ بعينه في موضعٍ ما، ثمَّ في موضعٍ آخر، لم يكن في هاتين الإشارتين ما يدلُّ على الشيء بذاته، أمَّا اسم العَلَم فيُفيد هذه الذاتيَّة للشيء الواحد إذا ذُكر باسمه في مواضع مختلفة، فإذا ذكرتُ لك اسم «العقَّاد» في حديثي وسألتني: من هو العقَّاد؟ فقلتُ لك: هو الرجل الذي رأيناه في المكتبة أمس، استطعت أنت أن تُطابق بين المُسمَّى الذي أقصده في حديثي اليوم وبين رجُل الأمس، بحيث تجعل منهما رجلًا واحدًا بذاته، وبذلك تتمُّ المهمَّة المنطقيَّة لاسم العَلَم. (انظر: د. زكي نجيب محمود، المنطق الوضعي، ج١، ص٢٩-٣٠)

ولكي نفهم ما يعنيه كريبكي على وجه التحديد، ثمَّةَ ما لا بُدَّ لنا من الوقوف عنده هنا فيما يخص هذه الذاتيَّة Identity، فقد ميَّز الفلاسفة حديثًا بين وجهين من مقاصد الكلام هما De dicto/De re وهذان التعبيران اللاتينيَّان يُشيران إلى التراكيب النحوية للجمل والعبارات ومغزاها الدلالي أو السيمانطيقي:

أ- تعني De dicto حرفيًّا (حول ما يُقال) ويقصد المُتكلِّم بها أن يتحدَّث عن الجُمل ومعانيها، أو العلاقات الصوريَّة المنطقيَّة، أو المواضعات المستعملة في اللغة عمومًا.

ب- وتعني De re حرفيًّا (حول شيءٍ ما) ويقصد بها المُتكلِّم أن يتحدَّث عن أشياء مُعيَّنة في الواقع فعلًا، وباستقلالٍ عن اللغة. ومن البَيِّن إذَن أنَّ De dicto أشمل نِطاقًا من De re، إلَّا أنَّهما تتساويان في الأهميَّة. (انظر: فلسفة العلم من الألِف للياء، هامش صفحة ١٢٤)

لهذه الثنائيَّة De dicto/De re تطبيقاتٌ متعدِّدة، ولكن ما يهمُّنا منها الآن فقط هو تطبيقها على مفهوم الضرورة Necessity من حيثُ أنَّ الضرورة هي جهةٌ Modality للهويّّة الذاتيَّة التي نحن بصدد الحديث عنها: فعندما نقول أنَّ شيئًا ما ”هو نفسه“ إنَّما نعني أحد أمرين (والحق أنَّ الفرق بينهما ليس من السهل تبيُّنه):  
١/ أمَّا أنَّ الشيء Object يحوز صفةً ما (أو أكثر) على نحوٍ «ضروريّ» لتعيين هُويَّته؛ أي أنَّ هناك خاصيَّةً (أو أكثر) مُتضمَّنةً في ماهيّة الشيء، فتجعله هو ما هو، وبدونها لا يكون كذلك.

٢: أو أنّ هناك ضربًا من التلازم «الضروريّ» في نِسبة المحمول إلى الموضوع Subject؛ هذا التلازم «الضروري» يرتدُّ إمَّا إلى الترادف في المعنى، أو إلى قواعد استعمال اللغة.

الأولى هي De re والثانية هي De dicto، لكن أيّهما نقصد حينما نتحدَّث عن قانون الهويَّة؟ هنا يقع الخلاف؛ فنجد بعض الفلاسفة (مثل فريجه وفتجنشتين ورَسِل وكواين) يرون في جهة الضرورة هذه علاقة بين توصيفات، أو أسماء، أو قضايا، أي De dicto، ولا توجد في الأشياء، في حين ينظر آخرون لهذه الضرورة على أنَّها حقيقةٌ ميتافيزيقيَّةٌ للشَّيْء أن يكون مُتماهيًا مع ذاته باستقلالٍ عن اللغة، أي De re، وهذا هو الموقفُ الماهَويّ Essentialism الذي شاع عند أغلب الفلاسفة التقليديين منذ أفلاطون وأرسطو وحتَّى عهدٍ قريب، وفي صف هؤلاء يقف فيلسوفنا شاول كريبكي مُنتقدًا من يقولون بالجهة الوصفيَّة Modality De dicto؛ إذ يعتقد كريبكي أنَّ التمييز بين الخصائص الضروريَّة Necessary Properties والخصائص العَرَضيَّة Accidental Properties -وهو موقفُ الحس المُشترك Common sense- تمييزٌ حدسيٌّ دقيق، وعنده أنَّ الحدس حجَّةٌ بالغة، على عكس ما يرى بعض الفلاسفة؛ فما يعنيه كريبكي بالضرورة في تعيين الهويَّة للمُشار إليه بالاسم هو الضرورة الميتافيزيقيَّة (وليستْ المفردةُ مُزدراة عنده) أي ما هو أشمل من الضرورة المنطقيَّة والضرورة الفيزيائيَّة، أيًّا كان ما يعنيه ذلك بحسب تعبيره؛ فإذا اكتشفنا يومًا أن هذه الأخيرة هي الأشمل فلتكن هي إذَن ما نعنيه.

يعتقد مؤيّدوا الجهة الوصفية De dicto أن حيازةَ شيءٍ ما لصفةٍ ما على نحوٍ ضروريٍّ هو أمرٌ يعتمد على طريقة توصيفنا لهذا الشيء، إليك مثالًا العدد تسعة ٩؛ فهل فيه صفة «الفرديَّة» ضرورة؟ هل يجب على هذا العدد أن يكون فرديًّا في كلِّ العوالم المُمكنة؟ يقينًا بلا شكّ، هذا مما يصدق في كلِّ العوالم الممكنة، فلنقُل، ليس بالإمكان خلاف ذلك. ونستطيع بالطبع أن ننتقي العدد تسعة على أنَّه عدد مجموعتنا الشمسية؛ إلَّا أنَّ عدد كواكب مجموعتنا الشمسيَّة، على أنَّه تسعة، لا يحوز صفةَ الفرديَّة على وجه الضرورة؛ لأنه، في ظرفٍ ضدِّ-فِعليّ، كان ممكنًا أن يتكوَّن من ثمانية كواكب (كما يعتقد بعض العلماء فعلًا)، أو اثني عشر كوكبًا؛ إنَّ كون نظامنا الشمسيّ حائزًا على صفة الفرديَّة (بما أنَّه تسعة) هو حادثةٌ عَرَضيَّةٌ في جميع الأحوال، فليس ما يمنع من وجود أنظمة شمسيَّة زوجيَّة، وليستْ الفرديَّة -عمومًا- صفةً ضروريَّةً لكون الشيء نظامًا شمسيًّا.

وهناك مثالٌ آخر أكثر وضوحًا حول هذه المسألة، عادةً ما يُنسب إلى كواين، يقول: إذا ما تكلَّمنا عن الشيء من حيث أنه عالِم رياضيات Mathematician، كانت «العقلانية» صفةً ضروريَّة فيه، و «ذو قدَمين» صفةٌ عارِضة؛ لكنَّنا إذا ما تكلَّمنا عنه من حيث هو سائق درّاجة لكانت «ذو القدَمين» صفةً ضروريَّةً فيه و «العقلانيَّة» صفةً عارِضة. وهكذا يُصبح التمييز غائمًا. وبالمثل يُقال: إذا تحدَّثنا عن الشخص من حيث هو «مؤلِّف السُّكريّة وبين القصرين» كان وصفنا هذا –بالضرورة- ينطبق على نجيب محفوظ، ولكن إذا تحدَّثنا عن نفس الشخص من حيث هو «نجيب محفوظ» فقط، لا من حيث أنَّه مؤلِّف روايات، كانت هذه الصفةُ عَرَضيَّةً فيه؛ إذ كان ليظلُّ نجيب محفوظ هو هو حتَّى ولو لم يكتب الروايات، ولو لم يهوَ الكتابة أساسًا.

على أنَّ كريبكي يرفض ذلك الموقف الوصفيّ، لدواعٍ حَدْسيّة سبق ذكرها، ويلتزم بالموقف الماهَويّ Essentialism، أي بالجهة الواقعية Modality De re كما يرفض كذلك دعوى رَسِل أنَّ «الشَّيْء» ليس سوى حزمةٍ من الصفات، فالاسم يُشير إلى كائنٍ Individual مُتماهٍ مع ذاته على نحوٍ ضروريٍّ بهذا المعنى للضرورة، بينما التوصيفات جميعها تُشير على نحوٍ إمكانيٍّ Contingent فلا تعيِّن شيئًا مُحدَّدًا الهويَّة، ويمكن العودة إلى مثالنا الأخير لنتبيَّن ذلك: إنَّ «مؤلِّف السُّكريَّة وبين القصرين» لا يُشير بالضرورة إلى «نجيب محفوظ»، لأنَّه في أيِّ عالمٍ مُمكن، كان يُمكن أن يكتب هذه الروايات أيُّ شخصٍ آخر، وبعبارةٍ أخرى، كان من الممكن أن يكون شخصٌ آخر هو «مؤلف السُّكريَّة وبين القصرين»، لكنَّه من غير الممكن أن يكون «نجيب محفوظ» شخصًا آخر غير «نجيب محفوظ». وفي دفاعه عن الماهويَّة، يوُرِد كريبكي -على سبيل المقدِّمة الموضوعيَّة- فرَضًا مفاده: أنَّه ينبغي للشَّيْء أن يكون حائزًا على بنيةٍ ما، إذا ما كان حائزًا عليها فعلًا. ولا يُشترط، فيما يرى كريبكي، أن نعرف الماهيَّة التي تجعل الشيء على هذه البنية، فالماهيَّةُ ميتافيزيقيَّةٌ قبل كلِّ شيء؛ فلا تقتصر على إخبارنا عن الشيء ما هو، بل هي أمرٌ يعتمد عليه الشيء لوجوده نفسه، أي أمرٌ ضروريّ De re. ويعتقد كريبكي أنَّنا نُخطئ إذ نشترط أن تكون معايير الهويَّة خصائص «كيفيَّةً» خالصة (صفات)، بل يكفي أن يكون الشيء مُساويًا لمجموع جُزئياته لنُثبت له علاقة التماهي، ويُورد كريبكي معاييرَ أخرى أقوى مثل أصالة المَنشأ (الـ DNA  مثلًا، أو خامة الشَّيْء الماديّ) وأيضًا التكوين البُنْيَويّ للشَّيْء (كالعدد الذرِّيّ للذهب مثلًا).

الآن يمكن إيجاز الرأي عند كريبكي حول نظريَّة الأوصاف في نُقطتين:

١/ أنَّ التوصيفات ليستْ ضروريَّةً ولا كافيةً لتعيين الإشارة في كلِّ العوالم المُمكنة؛ أي أنَّها (باصطلاح كريبكي) ليستْ بمُعيِّناتٍ صارمة Non-rigid designators لأنها تتوقَّف على آراءنا عن الشيء، والتي قد تكون كاذبةً في عديدٍ من المناسبات غير الفعليَّة المُمكنة، كما أنَّها –من ناحيةٍ أُخرى– قد تُشير إلى شيءٍ آخر يستوفي كلَّ الأوصاف المُحدِّدة، غير الشيء الحقيقيِّ وهو مقصد المُتكلِّم.

٢/أنّ التوصيفات لا تُشير إلى شيءٍ مُحدَّد الهويَّة في جميع العوالم المُمكنة؛ فقولنا ”الرجل الذي قام بإبادة أكبر عددٍ من اليهود“ لا يُشير بالضرورة إلى «هتلر»، لأنَّه من المُمكن أن يقوم أكثر من شخصٍ بهذه المذبحة فيما بعد، فهل نقول عن أيٍّ منهم: إنَّ هذا الشخص هو «هتلر»؟ قطعًا لا، الصواب أنَّ «هتلر» لا يمكن أن يكون إلَّا «هتلر» حتَّى ولو لم يمارس السياسة من الأساس، والحقُّ أنَّ كون هتلر قد دخل السياسة هو أمرٌ عارِض في جميع الأحوال (ما لم يعتقد أحدهم بمساراتٍ حتميَّةٍ للتاريخ).

والآن؛ ما هي نظريّّة كريبكي في الإشارة على وجه التحديد؟ بعبارةٍ أخرى؛ ما هو الجواب الذي يُقدِّمه كريبكي في مسألة إشارة الأسماء؟ لمواجهة تلك المشاكل التي اعترضت نظريَّة مِل؟ هل سيعود بنا كريبكي إلى لحية أفلاطون الكثيفة التي تعجُّ بالكائنات المجرّدة أو الدخيلة، المقابِلة كلّ اسمٍ أو تصوُّر، كما فعل أفلاطون وفريجه ومينونغ؟

كتعويضٍ عمّا فعله بنظريَّة الأوصاف؛ يتقدَّم كريبكي في المقابل بما سيُسمَّى لاحقًا «النظريَّة السببيَّة في الإشارة» Causal theory of reference – وإن كان هو نفسه لم يقتنع بأنَّها «نظريَّة». وِفقًا لكريبكي: إنَّ إشارة الاسم تتحدّد بفعل سلسلةٍ سببيَّةٍ تاريخيَّة تصل الاستعمال الحاليَّ للاسم بحدثٍ يتقدَّمه زمنيًا، وهو حدث التسمية. ويُدرج كريبكي مثالًا على ذلك بحالة الولادة: يولدُ الطفل ويُطلق عليه أهله اسمًا ما، ويُخبرون به أصدقائهم، ويعرفه أُناس آخرون، وبمختلف أصناف الكلام ينتشر الاسم من صِلةٍ إلى صِلةٍ كما لو أنّها سلسلة؛ ثمّة مسارٌ من التواصل يبدأ من المُتكلّم وينتهي في المآل إلى حدث تسمية الطفل. وعندئذٍ، حينما ينطق المتكلِّم بالاسم فهو يُشير مباشرةً إلى الطفل حتَّى ولو لم يسعه أن يُحدِّد له أوصافًا فريدة، وحتَّى ولو كانت جميع الأوصاف التي لديه عن الطفل خاطئة؛ يظل الاسم يُشير إليه؛ نظرًا لأنَّ استعماله للاسم هو جُزءٌ من سلسلة نَقلٍ ترجع إلى الحَدَث المُقدَّم؛ هذه السلسلة ترسّخت بفضل أعضاء جماعة المُتكلّمين الذين نقلوا الاسم من صِلةٍ إلى صِلة، ومن ثمَّ فنحنُ نُشير بالاسم بمُقتضى عضويَّتنا في مجتمع اللغة.

وإذَن؛ لا يعود قولنا «هتلر» يُشير بالضرورة إلى «هتلر» مباشرةً بفضل معرفتنا بتوصيفاتٍ من قبيل ’’الرجل الذي أباد أكبر عددٍ من اليهود‘‘ أو ما شابه من علاماتٍ عَرَضيَّة.. وإنَّما بفعل واقعة وجود سلسلةٍ سببيَّةٍ تبتدئ من حدث تسمية هتلر نفسه. وتكمن قوّة النظريَّة السببيَّة في الإشارة في أنَّها تجعل العلاقة بين كلمةٍ ما وموضوعٍ ما غير مُتوسَّطة بتصوُّرٍ مُعيَّن (بمثابة حلقة الوصل بين الكلمة والشيء)، وبتعبيرٍ أوضح؛ فإنَّ النظريَّة السببيَّة في الإشارة تستغني عن المعنى كأداةٍ لتحديد الإشارة. يقول كريبكي: يبدو خطأً أن نظنَّ أنَّنا نعطي أنفسنا بعض الصفات التي تنتقي موضوعها بفرادة كيفيّة؛ فتتحدَّد الإشارة على هذا النحو. 

يعفينا كريبكي من الالتزامات الأنطولوجيَّة التي وجدناها لدى فريجه وأفلاطون؛ فلسنا بحاجةٍ إلى الاعتقاد بوجود كياناتٍ مُجرّدةٍ هي المعاني الثابتة للأسماء، كما تصوَّر فريجه وأفلاطون من قبل لتتوسَّط بيننا وبين الأشياء المُشار إليها؛ لأنَّه يكفينا فقط استمرار تداول الاسم –بين أعضاء جماعة اللغة- كدلالةٍ على الشيء المُسمَّى. 

لكن على أيِّ حال؛ يعترف كريبكي بوجود بعض القصور في هذه الصورة (فهو لا يُفضِّل أن يدعوها نظريّّةً تامّة)، فيقول: ’’حتمًا هناك حلقةٌ سببيَّةٌ تصل بين استعمالنا لمفردة «بابا نويل» وبين قدّيسٍ ما في حقبةٍ زمنيَّةٍ مُعيّنة، ولكنَّني أرجِّح أنَّ الأطفال في أيّامنا هذه حين يستعملون الاسم لا يُشيرون إلى القدّيس ذاك؛ لذا كان لزامًا استيفاء شروطٍ أخرى كيما أجعل من هذه نظريَّةً متينةً في الإشارة. ولستُ أدري إن كنتُ مُقدمًا على مثل هذا. وعِوضًا عن التقدُّم بمجموعةٍ من الشروط الضروريَّةٍ والكافية التي قد تُفلح مع مفهوم الإشارة؛ فإنَّ قُصارى ما أريد التقدُّم به هو صورةٌ أفضل من الصورة المُتلقّاه…‘‘ ويعود فيقول: ’’لعلِّي لم أتقدَّم بنظريَّة، لكنِّي مقتنعٌ بأنَّ الصورة التي تقدَّمت بها أوفى من تلك التي أعطاناها دُعاة التوصيف… أمَّا إعطاء شروطٌ أكثر دِقّة فأمرٌ تحول دونه تعقيداتٌ جمَّة..‘‘

وإنه لممَّا يؤسَف له حقًا أن كريبكي لم يُعطنا تحليلًا واضحًا للعبارات الوجوديَّة كبديلٍ عن مزايا نظريَّة الأوصاف؛ فعندما نقول: ’’زيوس موجود‘‘ هل نُشير باسم العَلَم إلى شيءٍ حقيقيٍّ إذا ما تمكّنّا من تقصّي تاريخ وصول هذا الاسم إلينا؟ لا نستطيع أن نعرف، إذ الإمكانيَّة نفسها [إمكانيَّة تقصِّي تاريخ وصول الاسم إلينا] متعذّرةٌ عمليًّا، وجُلّ ما يستطيع أن يقوله كريبكي هنا هو: أن السلسلة السببيَّة تنتهي عند حدث التسمية فقط بوصفه السبب في نجاح الإشارة منذ ذلك الحين؛ فلا يعتقد كريبكي أنَّ السلسلة السببيَّة تنتهي عند الشيء المُسمَّى بذاته، وإلَّا لكانت نظريَّته هزليَّة تمامًا. إنَّ تحليل العبارات الوجوديَّة تلك لهُوَ من الامتيازات الخاصَّة بنظرية الأوصاف. ولعلَّ ذلك ما دفع بعض نُقّاد كريبكي إلى القول بأنَّه يُهمل السياقات التي دعت بفريجة ورَسِل –وبآخرين بالطبع– إلى تطوير رؤاهم؛ أي سياقات التقدّم بلُغاتٍ صوريَّةٍ تتفادى أخطاء اللغات الطبيعيَّة من أجل تطوير المنطق. 

أودُّ أن أقول في الختام أنَّ انتقادات كريبكي على نظريَّة الأوصاف تُقبل فقط في حال إذا سلَّمنا بأدواته المنهجيَّة؛ أعني عوالمه المُمكنة وحدسيّته ومنطقه الجِهَويَّ ولوازمه الميتافيزيقيَّة. ولا أعتقد أنَّ نقدًا كالذي قدَّمه كريبكي كافٍ للتخلِّي عن نظريَّة الأوصاف بشكلٍ حاسمٍ كما يعتقد هو، وإنَّ المرء ليستطيع أن يتقدَّم بأمثلةٍ شاذَّةٍ أو مُضادَّةٍ للنظريَّة (أو الصورة) السببيَّة هذه، تمامًا كما فعل كريبكي مع نظريَّة الأوصاف، وهذا مما اضطلع به بعض الفلاسفة بالفعل مثل «جون سيرل». فهل سيتعيَّن على أصحاب النظريَّة السببيَّة عندئذٍ أن يتخلَّوا عنها؟

المراجع :

١. شاول كريبكي “التسمية والضرورة” ترجمة وتقديم: محمود يونس، دار الكتاب الجديد ٢٠١٧م، الطبعة الأولى.

٢. د/ محمود فهمي زيدان “في فلسفة اللغة”. دار النهضة العربية، ١٩٨٥.

٣. د/ عزمي طه السيد “فلسفة اللغة عند أفلاطون؛ ومعه نص محاورة كراتيليوس” (دراسة وترجمة). عالم الكتب الحديث ٢٠١٥.

٤. د/ زكي نجيب محمود “المنطق الوضعي” مكتبة الأنچلو المصرية، ١٩٥١.

٦. ستاتس بسيلوس “فلسفة العلم من الألِف إلى الياء” ترجمة: صلاح عثمان، مراجعة: محمد السيد، المركز القومي للترجمة ٢٥٣٩.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عبدالمقصود

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا